المواطن عبد العزيز أيها العزيز، أيها المتيم الدائم بهذا الوطن.ودعتنا ذات يوم أحد مساء. وكأني بالمنية والألطاف الإلهية أمهلتك، حتى تغادر وأنت في انسجام تام مع شخصيتك. لقد غادرت يوم عطلة.وكأني بك في آخر عهد لك بهذه الدنيا، تلح على التعبير بأسلوبك اللبق والصارم في نفس الآن، وتتحدى الزمن، لأنك لم ولن ترحل في يوم عمل. لم تضيع على بلادك التي تيمك حبها وعشقها حتى النخاع، ولو يوما واحدا، تكون فيه كعادتك منتجا ،وفي الخدمة، وعلى العهد الدائم. العهد، هذا الميثاق الأخلاقي الذي لبسك منذ نعومة أظافرك.كنت تتحصن به عند وهنك، وتستند عليه لتقف ثانية وثالثة، شامخا شموخ الوطن الذي يسكنك ويجري في عروقك. وحين جفت هذه العروق، بقي وطنك المغرب الذي خدمته أزليا، حيا يحفظ ذكراك.
أيها العزيز،، كنت تكره أن تضعف يوما، ليس لأن ذلك سوف يدغدغ نرجسيتك. لا أبدا، لقد قاومت بلا هوادة ،لأن قلبك لم يكن ملكا لك. دقة منه لك ،ودقة أخرى للوطن. ولو خيرت، لآثرت أن يستفرد وطنك بما تبقى من دقات. وهكذا كان. وها قد ووري جثمانك الثرى، وما زال المغرب، بلدك العزيز، يتغذى بحبك وثمار جهدك وعرقك ،في سيرورة يصنعها أمثالك من فضلاء هذا الوطن. كنت محقا بقولك، إن عمر بلدنا لا يقاس بالعمر البيولوجي لأي منا أو لنا جميعا، لأن الإنسان بطبعه كائن فان، ولأن المغرب ككيان وكهوية، بطبعه كائن سرمدي، ممتد عبر جغرافيته الشرعية، وممتد عبر تاريخه ومفتوح على أفق مستقبله. نعم لقد توقف عمرك البيولوجي.ولم يعد متاحا لك أن توقع مذكرة أو تقدم تصورات أو تهيئ ملفات ،أو تمضي على وثيقة بقلمك. لا عليك أيها العزيز، لأن تركت بصمتك التي تغنيك عن كل ذلك الآن.. بصمة في الذاكرة الجماعية ،ووشمة في الذكاء الجماعي الذي يستمر في تناغم نحو «المغرب الممكن».
المواطن عبد العزيز : حتى وقد أضحت المواطنة قيمة فطرية متأصلة، فإن ذلك لم يثنك عن النضال باستمرار،من أجل أن تغذيها وتنميها وتصونها، حتى تتملك آخر ذرة منها ،وتستنشق بعمق رحيقها الأبدي. كم هي عديدة المناسبات التي كنت تستمع فيها إلى النشيد الوطني لوطنك، ومع ذلك كان جسدك يقشعر ، كما أسررت لي أكثر من مرة ، وكانت عيناك تلتمعان بدمعتك الخفيفة الأبية. إنها هيبة الوطن ورهبته، كما كنت تشعر بهما. ولذلك ما عرفتك يوما قويا إلا بمغربيتك. وما رأيتك عنيدا، إلا من أجل المغرب... «ذلك المغرب الممكن»، الذي ظللت تحلم به وتعمل من أجله، في صبر وتواضع ،وباقتدار كبير ، شهد به الجميع. أيها الغائب الحاضر : وجدت لتخدم وطنك.وقد عشت ومت من أجله.فسلام عليك أيها الحبيب الغالي. وكم وددت في هذه اللحظات أن أهمس في أذنك،ونحن نحي ذكراك الأربعينية، في مدينتك العزيزة تاوريرت ،لأقول لك: أتذكر عندما فاجأتني يوما ، وأنت في عز عطائك، حين قلت لي بصوتك الخافت النافث : «أتمنى إن مت يوما، أن يقال بأني كنت مواطنا صالحا». لم أجد وقتئذ تفسيرا لقولك، إلا تأثري بضعف هذا الرجل الصلب أمام وطنه. والآن وقد ودعتنا وأضحى لهاجسك راهنيته، أقول لك وأستسمحك إن اقتحمت تواضعك، أنت الذي لم تعرف الأنا مكانا لها في شخصيتك: لقد صلينا على جنازة رجل لقد شيع الوطن جنازة مواطن فسلام عليك أيها العزيز ستظل ذكراك زادا لا ينضب زمنا مني أعتد به إلى ما لا نهاية بل إلى أبعد من ذلك.