تمثل نعيمة هدى المدغري ، فضلا عن رشيدة بنمسعود وزهور كرام ولطيفة لبصير، طلائع الحركة النقدية النسائية في المغرب التي مافتئت تتعزز وتتقوى بالإفادة من المنجزات الكونية والانفتاح على تجارب متعددة والانخراط الفعلي في خضم النقاش الثقافي والفكري لإعطاء المرأة المنزلة المستحقة بحثا ، إلى جانب الرجل، عن المساواة والدعة والطمأنينة والرخاء الاجتماعي. ويأتي كتاب « النقد النسوي :حول المساواة في الفكر والآداب»(1) لنعيمة هدى المدغري تتويجا لما أنجزته زميلاتها الناقدات في المضمار نفسه، وسعيا إلى صياغة تصور تركيبي يجمع شتات القضايا والآراء المثارة حول المرأة عربيا وغربيا، و تأهيلا لدورها وقدرتها على انتزاع حقوقها والتعبير عن هواجسها وتطلعاتها وأحاسيسها في منأى عن أشكال الوصاية والحجر والعسف، و حرصا على إثارة زوبعة من الأسئلة التي تحوم في مجملها حول وضع المرأة وموقعها في خضم علائق القوى الاجتماعية والسياسية، وخصوصية كتابتها وجدواها وملاءمتها وأبعادها الفكرية والجمالية. بينت الباحثة نعيمة أن النسويات خضن صراعا مريرا على الواجهات الثقافية والنفسية واللغوية للتحرر من القيود التي تكبل حريتها، ومقاومة الإيديولوجية الذكورية والسلطة الأبوية. وفي هذا الصدد استندت إلى مرجعيات مختلفة لبيان ما قدمته المرأة من نضال وجهد لإثبات مكانتها، وإبراز قدراتها، والتنديد بالعنف والقمع الممارسين عليها، ورفض الثقافة الذكورية التي تكرس التمييز بين الجنسين، والمراهنة على ترسيخ ثقافة الاعتراف والمساواة في المجتمع. ويمكن أن نختزل القضايا النسوية المثارة في الكتاب في ثلاثة مواضيع ، وهي: الحركة النسوية، والمرأة والكتابة ، والنقد الأدبي النسائي. جابت الباحثة رحاب مختلف تجليات النقد السنوي وتوجهاته حرصا على استطلاع تطلعاته وأطاريحه وتمثلاته وخلفياته، وبيان ما يستقطبه من رؤى ثرة ومتضاربة أحيانا تبين مدى ديناميته وحيويته وفاعليته في أفق تحقيق المساواة بين الجنسين على المستويات جميعها. وفي ترحالها بين مختلف الآراء والمواقف بينت مدى تأرجح النقد النسوي بين طرفي النقيض. يرى الطرف المتطرف الذي تمثله سيمون ديبوفوارSimone de Beauvoir- أن المرأة محكوم عليها بالألم لتبعيتها للجنس ، فكلما رغبت في التصرف بصفتها كينونة بشرية شعرت بالإحباط لصعوبة سوغها لقدرها البيولوجي. في حين ينحو الطرف المعتدل الذي تمثلة هلين سيكسوHélène Cixous وأخريات- في اتجاه استبعاد المواصفات السلبية المقترنة بالأنوثة، وتشجيع التعددية في المجتمع، وتأسيس علاقة جدلية بين الحنسين، وحفزهما على التعاون والتآزر لتغيير المفاهيم التي تذكي شعلة الصراع والمواجهة بينهما. لقد أسعفت الفرويدية والنسوية - رغم اصطدامهما أحيانا-النسويات على مقاومة القيم الأوديبية الذكورية، ومعاودة النظر في الفرضيات النفسية التي تهم ،عن كثب، القمع والتحريم وعقدتي أوديب وإلكترا، واستثمار التحليل النفسي لفهم طبيعة الاختلاف بين الجنسين في مجتمع أبيسي. وتعتبر اللغة مؤسسة ذكورية بحكم هيمنة الرجل وسطوته والفرص المتاحة له على مر التاريخ، وهذا ما جعلها ملتبسة بالرواسم التي تعلي من شأن الرجل وبالمقابل تنتقص من قدرات المرأة وملكاتها، وتصفها بواصفات مستخفة من قبيل الفقر اللغوي والتلقي السلبي والالتصاق بالمحسوس. وهذا ما يحتم على الحركة النسوية ، علاوة على العاملين الثقافي والنفسي، بذل مزيد من الجهد والتضحيةلاجتثاث هذه الرواسم التي تكرس الفوارق الثقافية والنفسية واللغوية بين الجنسين، والسعي إلى ابتكار لغة جديدة خالية من الظلم والعسف والصغار، والكد من أجل تضميد الجراح الرمزية والنفسية المضمنة في الخطابات المتداولة وتنقيتها من الألفاظ الجارحة(2) التي تخدش كرامة المرأة وتنتقص من قدراتها ومؤهلاتها. لعبت الظروف السياسية والصحافة النسوية والصالونات الأدبية دورا كبيرا في تحرر المرأة واندماجها في المجتمع، وتفجير طاقاتها وإمكاناتها الإبداعية والنقدية والفكرية، ورد الاعتبار لمكانتها وفاعليتها في الرقي الاجتماعي. واختارت، من بين قنوات عديدة، الرواية وسيلة للتعبير عن معاناتها، والصدع بتطلعاتها، وإثبات ذاتها، والتدليل على خصوصية كتابتها الإبداعية. وبعد أن جمعت الباحثة مفردات المتن عمدت إلى تصنيفه إلى ثلاث مراحل، وهي: مرحلة الاحتذاء والتقليد، ثم مرحلة الرفض والتحدي، ثم مرحلة التجربة السياسية الذاتية. توجد، ضمن رائدات المرحلة الأولى، وردة اليازجي، ومرايانا الحراش، وعائشة تيمور وزينب فواز ولبيبة هاشم وفريدة عطية ومي زيادة. انشغلن في البداية ، على غرار زملائهن الكتاب، بالكتابة التاريخية على نمط جرجي زيدان وبالرواية الاجتماعية على منوال سليم البستاني. ورغم ما اتسمت به هذه المرحلة من تقليد لما يقوم به الرجل، فهي تؤشر على اقتحام المرأة مجال الكتابة الروائية، وتبين مدى عزمها وحرصها على التعبير عن تطلعاتها ومطامحها. يضم الجيل الثاني كوكبة من الروائيات ، على نحو ليلى بعلبكي وكوليت الخوري ولطيفة الزيات وإميلي نصر الله ومنى جبور وغيرهن. ورغم اختلاف ثقافتهن وتجربتهن وميولهن فقد استطعن أن يبلورن صحوة الوعي لدى المرأة العربية، ويصغن تصورا جديدا وجريئا يفضي إلى الخروج من متاهات الثنائيات الوهمية التي تكرس التمييز بين الجنسين، وتغلب كفة أحدهما على الآخر. إن المرحلة الثالثة - التي تضم كاتبات مثل حنان الشيخ وحميدة نعنع وسحر خليفة وليلى أبو زيد- تزامنت مع ظهور الحركة النقدية ما بعد الاستعمارية التي تقترح حلولا جديدة للعيش والحياة، وتكشف عن الأفكار الجديدة التي صدرت عن كتاب عاشوا صدمة الاستعمار. واتسمت الكتابة النسائية في هذه المرحلة بطرق مواضيع جديدة من قبيل الحرب والتحرر الوطني والهيمنة الثقافية الغربية وخيبة الأمل والاغتراب واهتزاز الانتماءات الجغرافية ، والتصادمات الفكرية والثقافية والعرقية، وارتداد المجتمعات إلى زمن القبائل. يستفيد النقد النسوي من توجهات نقدية مختلفة (ماركسية ونفسية وبنيوية وتفكيكية وما بعد حداثية)، ويطمح إلى تأسيس لغة واصفة تميزه عن غيره من النقود، وتسعفه على تبين خصوصية الكتابة النسائية. وفي انتظار اكتمال عدته النقدية يكرس خطابه لمواجهة الثقافة الذكورية المتعسفة وتدمير قوالبها، وإتاحة مزيد من الفرص للمرأة لتنعم بالمساواة في الفكر والأدب والنقد. واعتمدت الباحثة على مؤلفات عينة من الناقدات العربيات ( على نحو لطيفة الزيات و خالدة سعيد ورشيدة بنمسعود (3)لاستخلاص الضوابط المتحكمة فيها وإبراز مضمراتها وخلفياتها. ومما استخلصته منها أنها تتسم بميسم التدمير وتدافع عن خصوصية الكتابة النسائية. فهي علاوة على تدميرها لكل الخطابات التي تهمش المرأة ولكل التقاليد التي تكبلها، تجلي امتدادات الخصوصية على المستوى البيولوجي واللغوي والتحليل النفسي والثقافي. وفيما يلي بعض الملاحظات العامة عن الكتاب: أ-يتوفر على مادة غنية ومتنوعة تهم الحركة النسوية في تفاصيلها ومفارقاتها وامتداداتها. وهو ما يسعف الباحثة نفسها على تطوير بعض الأمور والقضايا المثارة في الكتاب وبلورتها في شكل مشروع متكامل. ويمكن ، في المنحى عينه، أن ينير مسالك الباحثين ويقدم لهم العون اللازم لتعميق البحث في المجال ذاته، والنظر إليه من منظورات جديدة وزوايا مختلفة. ب-يعتبر هذا الكتاب لبنة أساسية تتناول بالتحليل والفحص العلميين النقد النسوي في شموليته ورحابته سعيا إلى تركيب المعطيات المستمدة من حقول وآفاق مختلفة واستثمارها في صياغة منظور موحد ومتماسك، وزحزحة كثير من المفاهيم والمعتقدات الخاطئة التي كرستها الإيديولوجية الذكورية، وبحثا عن سبل جديدة لاستيعاء الكتابة الفنية والجمالية التي تستدعي من المرأة- حسب وجهة نظر فرجنيا وولف- التمتع بالحرية والسلم والاستقلال المادي والمعنوي. ج-لم تنجرف نعيمة هدى وراء النزعة النسوية الضيقة التي تردد الشعارات والأسئلة المكرورة التي تكون غالبا مفعمة بالانفعالات وردود الفعل، وإنما تناولت قضية المرأة عموما بهدوء ورصانة ، وهذا ما أهلها إلى مقاربة الجنسين بمنظور متزن يقوم على التعددية والاختلاف والتنوع والخنوثة الفكرية، ويند عن التمييز والمعاداة والتضاد والإقصاء والتهميش. وعليه اتخذت النسوية في الكتاب بعدا إيجابيا يسعى إلى تحرير الرجل والمرأة معا من هيمنة مفاهيم من قبيل « الذكورة» و»الأنوثة» و» اللامساواة المطلقة» ، وحفزهما على الانخراط معا في توزيع الأدوار وتدبير الخلافات بطرق حضارية تسهم في تقدم المجتمع ودمقرطته ورقيه. د-مما عزز طغيان النفحة النسوية على المقاربة النقدية أن هم الباحثة كان منصبا أساسا على إثبات مدى قدرة النساء على ممارسة سلطة مكافئة للرجل، وإلحاحهن على انتزاع الشرعية والاعتراف بمؤهلاتهن في الأدب والنقد والكتابة عموما. وهذا ما جعل الباحثة مشدودة أكثر إلى الحركة النسوية بوصفها حركة نضالية وسياسية للدفاع عن قضية المرأة والدعوة إلى مساواتها مع نظيرها الرجل في المجالات جميعها بما فيها الحق في الكتابة والتعبير في منأى عن أساليب الوصاية و الإقصاء والتبخيس(4). وبهذا الصنيع يمثل هذا الكتاب رافدا من روافد النقد النسائي العربي الذي ما فتئ يتعزز لمقاربة مختلف أجناس الكتابة النسائية (وخاصة الرواية والسيرة الذاتية والقصة القصيرة) من زوايا ورؤى متعددة وبمناهج ومقاربات مختلفة. ********** (*) نص المداخلة التي قدمت خلال اللقاء حول كتاب الباحثة نعيمة هدى المدغري « النقد النسوي: حول المساواة في الفكر والأداب « المنظم من طرف المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، بتعاون مع مجلة «فكر»، يوم الجمعة 14 ماي 2010. وقد شارك كذلك في تقديم الكتاب - علاوة على المؤلفة- شيخ عاطف حبيبة، وسير اللقاء عبد الواحد المرابط . 1 - منشورات فكر ، سلسلة دراسات وأبحاث رقم 16، ط1، 2009. 2 - تتوفر اللغة أحيانا على ألفاظ جارحة (Mots injurieux) وتتضمن عداوة لغوية (Agressions verbales) تكرس اللامساواة بين الرجل والمرأة. ونحيل في هذا الصدد إلى الكتاب أسفله الذي راهنت صاحبته جوديث باتلر على تناول السلطة والنفوذ اللغويين من منظور تداولي قوامه إنجازية الخطاب أو سياسة الإنجازي. وحاولت فيه بيان كيف يتحول التلفظ إلى « عنف لغوي» و» شرطة لغوية» تفصل بين ما يجب أن يقال و ما يحظر قوله، وبين ما يرضي طرفا وما يجرح طرفا مناوئا. 3 - لطيفة الزيات ، من صور المرأة في القصص والرويات العربية، دار النشر الثقافة الجديدة، ط1، 1989. خالدة سعيد، المرأة التحرر الإبداع، نشر الفنك، ط1، 1991. رشيدة بنمسعود، المرأة والكتابة سؤال الخصوصية بلاغة الاختلاف، أفريقيا الشرق، ط1، 1994. 4 - وفي هذا الصدد يُستحضر الجرح الرمزي والنفسي الذي خلفته محاكمة ليلى بعلبكي إثر إصدارها مجموعتها القصصية» سفينة حنان إلى القمر « عام 1964، ويكرس النظرة الأخلاقية الضيقة ويفضح ضيق المجتمع الذكوري. ومنذ ذلك التاريخ ?رغم توفقها في معركة الدفاع عن حرية التعبير وكرامة المرأة - -تخلت عن الإبداع وتوارت عن الأنظار.