رحل عنا المفكر المغربي محمد عابد الجابري يوم الاثنين 3 ماي 2010 بعد حياة فكرية صاخبة، فجر فيها جدالات ونقاشات كبيرة، وأعمل معاول النقد في «العقل العربي المستقيل»، دون كلل أو ملل. حملته عصاميته الفريدة والمثيرة للإعجاب، من واحات مدينة «فكيك» المنسية على حدود المغرب الشرقية، إلى مدينة الدارالبيضاء، حاضرة المغرب الاقتصادية، بداية الخمسينيات من القرن الماضي، يقوده طموح اكتساب المعرفة. إنه الطموح نفسه الذي حوله من معلم بالصف الابتدائي في خمسينيات القرن الماضي، إلى أستاذ للفلسفة بالجامعة المغربية، وصولاً إلى احتلال قمة الهرم الفكري العربي، والتي جعلت البعض يشبهه بابن رشد العصر الحديث أو ديكارت العربي. وما بين التسميتين، ظل الجابري يرى ما لا نراه، في الحياة الفكرية والاجتماعية السياسية، وحتى في الناس، ويعبر عن كل هذه الأمور بلغة العلم، مستعملاً أحدث المنهجيات التي وصل إليها المجهود الإنساني. لن نقول إن العقل العربي بعد الجابري بقي يتيماً، لكن إسهامات الرجل ومنجزاته المعرفية كشفت للعالم العربي، الذي جعل من «عقله» موضوعاً للدراسة، أن بنياتنا الذهنية والسلوكية والعقلية تحتاج إلى تشريح خاص. لقد خاض الجابري مغامرته في تشريح العقل العربي ممتطياً أحدث وسائل الإبستيمولوجيا الحديثة، وعاد إلى عصر التدوين وعصر حروب الخلافة، ونزول القرآن، ونشأة الدولة الإسلامية وغيرها. لقد جعل نقد العقل العربي مشروعه الفكري الرئيسي. واستطاع عبر سلسلة «نقد العقل العربي» القيام بتحليل هذا العقل عبر دراسة المكونات والبنى الثقافية واللغوية التي بدأت من عصر التدوين، ثم انتقل إلى دراسة العقل السياسي ثم الأخلاقي. اتضحت معالم المشروع الفكري للراحل منذ صدور كتابه «نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي» (1980)، حيث سيتعرف العالم العربي على «الجابري» المثير للأسئلة الوجودية الكبرى للإنسان العربي. وسيتعرف المشارقة على وجه المثقف العربي القادم من أقصى المغرب. من العسير جداً اختزال السيرة الفكرية والسياسية والحياتية للجابري في ورقة كهذه، لكن إقامته الأكاديمية في المشرق العربي، وتحديداً في سوريا، أثرت كثيراً على تصوراته، في زمن المد العروبي والقومي على أيدي مفكرين من أمثال ساطع الحصري وزكي الأرسوزي وميشل عفلق. ومع أن الجابري ظل وفياً لمجموعة من مبادئ المرحلة، فإنه لم يكن مجرد صدى أو ناقلا لأطروحات غيره، بل حافظ على صفاء وعيه النقدي والوضوح في شرح الأفكار وتقريبها من ذهن المتلقي، قارئاً كان أو مناضلاً حزبياً، في قالب لغوي سلس تجنب دائماً الحذلقة والغموض المفتعل. لم يمر المشروع الفكري للجابري في العالم العربي دون «مشاحنات» واعتراضات. فقد كفرته أكثر من جهة دينية، واحتج عليه أكثر من اسم محسوب على العلمانية. أما هو فقد التزم الصمت في انتظار نهاية مشروعه الفكري. الاعتراضات التي قدمها منتقدو الجابري ظلت عند مستوى الجزئيات دون أن تستطيع هدم دعائم مشروعه الفكري. وهكذا انتقد فتحي التريكي فكرة وجود عقل عربي وآخر غربي، التي قال بها الجابري. وتوقف علي حرب عند بعض القضايا الاصطلاحية أهمها تفضيل «حرب» استخدام مصطلح الفكر على مصطلح العقل، لأن العقل واحد وإن اختلفت آلياته ومناهجه وتجلياته، كما يؤثره على مصطلح التراث. أما جورج طرابيشي فقد خصص جزءاً كبيراً من إنتاجاته للتعليق والتعقيب على أفكار الجابري. لا شك أن الوسط الثقافي العربي يتحسر على رحيل شخصية فكرية من حجم الجابري. أما في المغرب فإن أكثر من متابع للحياة الثقافية والسياسية المغربية يعترف أن «الجابري» سيظل حاضراً في المتن الفكري والسياسي المغربي كرمز لا يمكن تجاوزه. صحيح أن «الجابري» استقال من موقعه في المكتب السياسي لقيادة حزب «الاتحاد الاشتراكي» الذي كان حزباً معارضاً بقوة لنظام الملك الراحل الحسن الثاني، لكن ذلك لم يمنعه من أن يظل مؤثراً، ليس فقط من خلال إسهاماته التنظيرية، بل بالمساهمة الفعلية في الحياة السياسية لبلاده. لقد ساند التوافقات التي أوصلت صديقه الاشتراكي عبد الرحمان اليوسفي إلى الوزارة الأولى، فيما يطلق عليه في المغرب «التناوب التوافقي»، الذي حكم فيه الاشتراكيون المغرب، بتسوية قبلها الحسن الثاني. لقد غادر الجابري معترك السياسة المغربية بمعناها الشائع والبسيط، ليحلق بعيداً عن الممارسة الحزبية حين استقال من حزب «الاتحاد الاشتراكي» وجمد جميع أنشطته السياسية فيه، رغم أن أدبيات الحزب وهويته لا تخلو من فكر الجابري وبصمته. وقريباً من السياسة المغربية أيضاً، انتبه الجابري مبكراً إلى تقليد سيئ عانى منه المثقفون والسياسيون العرب والمغاربة بسبب عزوفهم عن تسجيل مذكراتهم وتجاربهم، فدون شريط حياته الفكرية والسياسية وخاصة تجربته في الخضم الحزبي. وليس من المبالغة القول إن الجابري قد شق في ممارسته الثقافية هذه طريقاً جديدة وبلور رؤية أصيلة لدور المثقف في عصرنا الراهن، عصر الاندماج العالمي وتحول العالم إلى قرية صغيرة. وقد جعل هذا من الجابري المثقف العربي بامتياز وأحد كبار رواد الثقافة العالمية الحرة. تحية للجابري في حياته وفي مماته، وهو الذي نقش اسمه بدأبه واجتهاده بين النابغين، حيث يسر للعرب كثيرا من المعارف الغربية التي يعتبر أحد القلائل ممن استطاعوا دمجها في فكره، دون أن تبتلع خصوصيته النقدية وشخصيته الفكرية المستقلة. كما يحسب له نبشه في عدد من المواضيع التي ظلت من المحرمات في العقل العربي المستقيل، بلغة الجابري نفسه. وداعا إذن، لأحد كبار رواد العقل العربي، لأن أمثاله هم الأقدر على وضع العرب على سكة التنمية الفكرية والسياسية السليمة، بعيداً عن الظلامية واضمحلال الذات. عن منبر الحرية