1 اشتقتُ إلى قابُسَ وقابُسَ، هذه، ُقبلة مطبوعة على خدّ تونسَ. وتونس، هل تعلمون، في بطن الحوت، ذاك الذي نام وديعا فيه يونس، وإن شئتم، لما غزاها، وهماً، قيصر يوليوس. 2 كيف حالكِ الآن يا قابُسَ. أم كيف حالي، بعد إذ لقيتك، التمستُ وجهكِ بين أرض وسحاب. فرشتِ لي وطاءك، سهلََها والشعاب. والنجمَ تساقينا من غَبوق لصَبُوح. بالذي لا يقال تساررْنا، همساً، فالرُّضاب. وتداوينا بالتي كانت..ليس فينا من يبوح. إذ سمعنا ماءك مصطخباً في يقظة الموج، وقدود راقصات، تلألأ من بعيد كالسراب، والبطاح، كلما سِرتَ، منها شذاها يفوح. ها هنا كلّ يوم عيدٌ، ميلادٌ جديد للتراب. ترابُها ،ويحك يا هذا، جنة لا يباب. إذ ترى محمد مجيّد يسري دِفئُه من روح لروح، أو شيخه البارديّ، يخلع عليك بُردَ عِلمه وُتقاه ، فإن توارى لحظة، لبّى من كل فجّ عميق صداه. لو سألتَ سواه، أو نذرتَ بدونه،لأجاب: كلا، هو سيِّدُ هذي الديرة، ومثوى كل الرِّغاب. إذا نزلتَ قابُسَ لن تتيه، فالعناوين هي خُطاه. ستراها، نسلها، بحرَها، واليابسة، تلبي نِداه. وأنت ال جئت من شمال الأرض، بقلب كاليباب. لتناجي أرض الجنوب، تسأل من باب لباب. وتعود تراها فاتنةً، مائسةً، هي من تيّمها شجاه. تتقلب قابُسَ على مرجل حين تصبو، أو متاه. وأخيرا، وهي في لهبٍ، تسمعها تتلو العشق من كتاب، وصبايا تونس يا سمينها، وقابُس وشْيُهنَّ خُضاب. 3 كنت أحسب الأرض كروية، أو بيضاوية ، سيان! كنت أحسب هذي الأرض تدور. وها أنا بعد قابس، رأسي كرة تدور. كنت أظن قبلك أن خطوط الطول مرسومة خارج الجسد، وأن أي أرض تأويني، اليوم أو غدا، هي البلد. سواء السماء صافية، أو غيمة هي لي مدد. وذهابي بين شمال وجنوب حبلٌ مسَد. وها أنذا ذا أرى خطوط العرض، على جسدك ارتسمتْ، تفتّق فجرٌ، كل ما كان لي قبلك صار هو البدد. تبسّم ثغرٌ، ها الآفاق صورتُها ، انشرحتْ، كأنك لا تصدق، فتقسم بوالد وما ولد! 4 أنت إذا وصلت إلى قابُسَ، اهتزت الأرض وارتجت في عينيك الرؤية. من تكون؟ إذ تسأل، كن أولاًً، واسأل بعدها إله الكون، ثم اسألني أنا.. الكحلُ رفيفٌ من عينين، والبحر سفينٌ يجري بين القدمين، كمرج البحرين، حول خصرِكِ المشدود مثل نخلة الله الأولى، بهائِكِ، يلتقيان. في يوم من عهد عاد وتمود،رأيت الخراط وأصلان، هذان كاتبان خفيان،حتى وهما معلنان؛ كانا يمشيان، على شاطئ قابُسَ. مخفوران دوما بسرب يمام. ربما كانا يبحثان كيف يشقان البحر إلى نصفين، ويعبران إلى روحيهما ،مثل نوح،عليه أزكى السلام. لعلهما كانا يتحدثان عن»رامة»أخرى لم يأكلها»التنين»، ولم يسبق أن مرت في «وردية ليل»، أو عن أرض لم تخطر على بال الرواية «ترابها زعفران»، أو معنى»جربة» لِمَ يُثلم وجهُها كما يأكله سياحٌ جراد. أو هما، مثل كل الناس يعبّان الهواء، ويراوغان التذكر بالنسيان، وأنا من بعيد، كعادتي، أنا المتوهم،أحسَبُه كلاما يسري من شفتين. مذ أمس، وإلى اليوم، لم تبرح نظري، ولا مهجتي، تانك العينين، خطفتْهُما ،انخطفا، أصلان والخراط، وها أنذا حاضرٌ بالقلب وبالعيان. مذ وطئْتُ أرض قابُسَ، مذ أسريتُ من ضفتين ووصلت إلى مرْجها، ما زلت أهذي بهواها كالمجدوب:: من أكون، مذ متى، وإلى أين؟! 5 رأيت وجههما في الواحة المباركة، أبي وأمي، قد جاوزا المعراج. رأيتني في كل مرة أسعى إليهما واقفةٌ أمامي الأبواب بألف رتاج. اشتعلت نار الحنين في قلبي،غلى دمي،الأحبة هناك خلف الأبراج. أنادي، أصرخ، أشدّ على تلابيب حزني، فيذهب صوتي صدىً في الفِجاج. ماذا لو عدتُ إلى رحم الأمس، إلى حلمة أمي فأنسى فداحة هذا الهياج؟! ولعلي أركع قبالة وجهيهما،هي ذي واحة قابُسَ، ليس بيننا إلا خط من زجاج. لكنه جارح، والدمع مدرارٌ، وهي عطشى، كيف أسقيها من فمي والماء أجاج؟ التفتتُ يمينا وشمالا، تونس هنا أرض منقلبة، وماذا في الأفق غير عَجاج. يا سي محمد مجيّد، يا شيخ الباردي، ألا فاعتقانني، بِوِردِكُما، فأنتما، أيّ تاج! 6 قالا: إن كان ذاك ما تبغ، تبغي، قرَّ عيناً، إذن، وعليك السلام. إنما، هل لك أن تنبينا: ما الذي يجمع الشامي إلى المغربي يا همام؟! فلقد تحيرنا في أمرك، لما رأينا من عينيها، انسكاب ندىً ومُدام. وعتبنا، وعجبنا كيف إلّاها، ولم ُترْدِك من صبايانا واحدة بسهام . أكيدٌ ثمة يا مغربي سرٌ، إما ستفشيه طوعا، وإلا فشآم أولى بالكلام. هي يا أعزة، قابُسَ أولى منا جميعا ؛ كيف لا وهي سيدة المقام. جل جلاله الله، الآهُ، رقّت جدائل نخلها لما استحمّت بالغمام . وتفتحت، وتغنّجت، يشربها» اللَّقْميُّ» وهي أرشق من قوام. يا صاحبيَّ تقصَّيا نظريكما، تريا قابُسَ مجمع كل الأنام. تريان أني شعاعُ مراكش، إذ أشرب أعطش، أفلتَ مني الزمام. و»الرَّقّة» رقّت كالفرات، خذ وهات؛ أيُّنا يا شيخُ ضيّعه الزحام؟! وإما إلى حلبَ الشجية ارتحل قبل الفوات، واضرب خيامك لن ُتضام. فها هنا بأسٌ وأُنس، وارتعاشات الهوى، وكأسَك انخبْ حتى الجمام. ................................................................................. ومن بعد قابُسَ أعتق خيلك، وأنَِخ ليلك،أولا ترى قد حلّ أوان الفطام! باريس في 04 أبريل 2010