كل الصحفيين، المتتبعين لمسارات زميلهم الفرنسي إريك لوران، لا يمكنهم إلا أن يغبطوه مساره المهني، الغني والمميز. فقد حاور ملوكا ورؤساء دول، بالشكل الذي جعل تلك الحوارات اليوم وثائق تاريخية، مثل حواره مع الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، والرئيس العراقي المطاح به صدام حسين، ثم حواره المطول الذي صدر في كتاب مستقل مع الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1991. مغربيا، عاد إسم هذا الصحفي الفرنسي، الذي درس بواحدة من أرقى جامعات العالم (جامعة بيركلي الأمريكية، المتواجدة بمدينة سان فرانسيسكو)، ليحتل واجهة الإهتمام الإعلامي، بفضل مشروع كتابه الجديد حول الملك الحسن الثاني، أو ما يعتبر الجزء الثاني من المذكرات التي أنجزها معه. ولعل قوة هذا الجزء آتية من أنه يضم التفاصيل التي كان الملك الراحل قد طلب من إريك لوران عدم نشرها سوى بعد وفاته. بل إنه قد طلب منه أن لا تنشر سوى عشر سنوات بعد رحيله، حتى لا تشوش على المرحلة الأولى من حكم ابنه الملك محمد السادس. واليوم ، استنفد الصحفي الفرنسي الزمن المطلوب من قبل رجل الدولة الذي كانه الحسن الثاني، فقرر أن يطلع المغاربة والعالم على رؤى الملك الراحل في العديد من القضايا ذات الحساسية العالية، مثل: المحيط الملكي، وحول عائلته الصغيرة، حول وريثه في العرش، ثم قضية الشهيد المهدي بنبركة وقصة أوفقير معه، ثم علاقاته المميزة مع الجسم السياسي الفرنسي.. بالتالي، فالكتاب المنتظر صدوره قبل نهاية 2010 سيخلق الحدث بدون شك. حوار أو سيرة؟ كانت بداية «المغامرة المهنية» لإيريك لوران مع الحسن الثاني ، قد انطلقت بحوار طلبه الصحفي من الملك، نشر بيومية «لوفيغارو» الفرنسية سنة 1991، كان موضوعه مرتبطا بقضية الإخوة بوريكات الذين قضوا سنوات طويلة في معتقل تازمامرت الرهيب ، وهو الحوار الذي حمل أولئك الإخوة على وضع شكاية لدى القضاء الفرنسي ضد الملك الراحل والصحفي والجريدة التي نشرت ذلك الحوار، فكان أن اتصل المستشار الملكي أندري أزولاي بإريك لوران ، يطلب منه الحضور لملاقاة الملك لإيجاد حل للقضية، وهو الحل الذي تم التوصل إليه بالتراضي بين كل الأطراف المعنية، فكان أن طلب من الصحفي إنجاز كتاب عن ذاكرة الملك، فقبل الفكرة وشد الرحال إلى إفران لملاقاة العاهل المغربي الراحل، وتم الإتفاق على أن تكون صيغة الكتاب حوارا مطولا فيه سؤال وجواب. ذلك أن الصيغة الأخرى التي اقترحها الصحفي، تقتضي فتح أرشيف الملك الخاص له، الأمر الذي لم تتم الموافقة عليه. وأثناء ذلك الحوار المطول الذي امتد على مدى شهرين كاملين، سمح الحسن الثاني للصحفي الفرنسي أن يدون العديد من التفاصيل دون السماح له بنشرها سوى بعد رحيله بعشر سنوات. يقول إريك لوران : «كانت ثمة عدة أسباب وراء تطلع الحسن الثاني إلى ذلك الكتاب ، ذاكرة ملك ، أولا من أجل تمرير رسائل وتوفير المعلومات للرأي العام المغربي، الأمر الذي لم يفعله طيلة 36 سنة من حكمه. إنه أشبه ما يكون بمسار سياسي شامل يروم إضفاء نوع من التناغم والانسجام على فترة حكمه، وثانياتقديم قراءة أوضح للماضي كما للحاضر والمستقبل. لقد كان ردا على كتاب «صديقنا الملك» لمؤلفه جيل بيرو» وبعد مرور بضعة أيام على الشروع في الحوارات، يضيف الكاتب ، اتصل أندري أزولاي بإيريك ليخبره بأن ثمة مشكلا «الملك لم يعد يرغب في كتاب عبارة عن حوار، بل يريد سيرة ذاتية» ، سيرة ذاتية تروي حياة الحسن الثاني، دون أن تنقل كلامه. أخبره إيريك بأن الأمر سيكون أقل إثارة للقارئ، فنصحه بمناقشة الموضوع مع الملك مباشرة . وحين لقائه بالحسن الثاني، أطلعه المؤلف بما كان يشغل باله، وقال له أنه لو كتب مثلا أن الملك كان يرغب في قتل المقيم العام عندما كان وليا للعهد، فإن الأمر سيكون أقل إثارة للاهتمام، أو على الأقل أقل مصداقية مما لو كان ذلك قد نقل على لسانه. استغرق الحسن الثاني في التفكير قبل أن يقول«نعم... ربما... ينبغي الوصول إلى توافق إذن » . «لكن ، وفي آخر المطاف، لم يكن ثمة أي توافق، بل عادت الأمور إلى ما كانت عليه، وتم الاكتفاء بالحوارات» يوضح الصحفي الفرنسي . البذلة بالنهار والجلباب بالليل خلال سنة 1992، كان إيريك والحسن الثاني يعقدان جلستي عمل يومية، وفي يوم اللقاء المعلوم، أخبره الحسن الثاني بأنه سيكون مشغولا باستقبال رئيس دولة. حينها اعتقد إريك أن الملك تراجع ولا يريد إصدار الكتاب ، لكنه ما لبث أن انخرط في العمل معه، وكانت الجلسات تعقد في القصر الملكي ببوزنيقة، وعلى متن سيارته «رانج روفر»، لكن في الغالب ، كان العمل يتم بعد الزوال في قصر الصخيرات، ومساءا في قصر الرباط. نهارا كان الحسن الثاني يرتدي البذلة في حين كان يفضل ارتداء الجلباب خلال المساء. كانت اللقاءات تترواح ما بين ساعة وساعة وربع، رغم أنه في بعض الأحيان ، كان ينهيها في وقت مبكر، ليبلغ مجموع الجلسات حوالي ستين ساعة على امتداد شهرين . الأسلوب هو الرجل ويستطرد إريك لوران أنه مع توالي ساعات الاشتغال، اتضح للطرفين أنهما كانا يحملان أحكاما خاطئة عن بعضهما البعض. كان إريك يعتقد أن العمل سيكون بسيطا لأن الملك كان يعطيه انطباعا بأنه سيكشف له عن بعض الأمور، لكن بالتمعن أكثر فيما حدث، فإن أجوبته كانت تبدو في أغلب الأحيان غير كافية. «من جهته، يقول لوران ، كان الحسن الثاني يعتقد أنه قادر على توجيهي ، وكان يظن أنه سيكون مرتاحا معي». كانت لدى الحسن الثاني لغة دقيقة بشكل مثير، يتذكر الصحفي الفرنسي ، ونفس الدقة أيضا على مستوى اختيار الكلمات... كان الحسن الثاني يتوفر على حس كبير بمفهوم التحكم والتأثير على أي كان ، وأحيانا كان إريك يخمن الإجابة مسبقا عن سؤال ما، لكنه يظل متشوقا لمعرفة الطريقة التي سيسمع بها الإجابة من الحسن الثاني. بن بركة ، أوفقير، دوغول والآخرين بخصوص قضية الشهيد المهدي بن بركة ، يقول إيريك لوران إنها كانت من بين القضايا التي تزعج الحسن الثاني، الذي تأثر كثيرا بالطريقة التي عامله بها الجنرال شارل دوغول عقب الاختطاف ، وكان يبدو متأثرا كذلك عند الحديث عن الجنرال أوفقير. الحسن الثاني ، يؤكد الكاتب ، كان يعرف أنه لايمكن أن يتحاشى هذه المواضيع، ولكنه كان يتحدث عنها باقتصاد شديد وفي الحدود الدنيا. ويؤكد إريك لوران أن الحسن الثاني لم يكن يتعاطف مع عائلة أوفقير، بل ربما كان يحس بالانزعاج. كان يزعم أنه لم يكن على علم بظروف اعتقال عائلة أوفقير، لكن الكاتب يشك في هذا الزعم . وحسب الصحفي الفرنسي ، فإن الحسن الثاني كان يميل إلى طمس الأوجه المظلمة، ويعطي لنفسه الأدوار الجميلة. لكن ، يؤكد الكاتب ، الحسن الثاني كان صارما عندما أثار معه موضوع مواجهات الدارالبيضاء، واعتبر أن هذه الانتفاضة ، لاتعبر عن «إحباط الشعب» . ويضيف إريك لوران أن الأمير سيدي محمد حضر لقاءاته مع الحسن الثاني مرتين، خلال أحدها ، كان معه الأمير مولاي رشيد. كان الأميران صامتين، وأتيحت للكاتب فرصة لقاء ولي العهد في عدة مناسبات، وفي إحداها كان لوران مع الحسن الثاني وولي العهد ، ولسبب طارىء ، قال الملك للصحفي الفرنسي قبل أن ينسحب : «أحيلك على ابني» واقترب منه ولي العهد وقال «كيف تسير الامور؟» أجابه «بشكل جيد، نحن في منتصف العمل» ، وقد أضاف ولي العهد «احذر من والدي، باستطاعته أن يكون جذابا ومناورا في نفس الآن» ويعتقد الكاتب أن ما قاله ولي العهد، ولو على سبيل الهزل ، كان يعبر على وجه من الحقيقة. ويؤكد الكاتب أنه لم ير الملك يناقش أبناءه أو يفيض حنانا تجاههم، لكن بالمقابل كان يبدو قريبا جدا من أحفاده ويخصهم برعايته. ويخلص إريك لوران إلى قناعة مفادها أن الحسن الثاني كان محافظا في مجال التربية، لكن «ما نصيب الحساب في هذا الموقف»؟. الملك يقدم السندويتشات لضيوفه وعن إحدى النزهات التي قام بها الملك الحسن الثاني رفقة عدد من مقربيه، تحدث الصحفي إريك لوران عن بساطة تعامله خلال هذه النزهة، وابتعادها عن تفاصيل البروتوكول كما هو معمول به في القصر. تذكر لوران كيف أن الحسن الثاني، الذي كان خلال هذه الرحلة في خلوة يقتعد كرسيا في جلسة تأمل غير بعيد عن ضيوفه ، الذين كانوا يلعبون الورق، تطوع للبحث عن الطعام لهم حين سمع أحدهم يقول «أتساءل أين هي السندويتشات؟». في انتظار الحسن الثاني يشير لوران إلى أن الحسن الثاني لم يكن متحمسا للطبقة السياسية في المغرب التي كان يعتبر أنها غير جيدة . وقدم لوران نموذجا لتسخير الملك نفسه للتصدي لخصومه السياسيين في المغرب بقبضة من حديد ورغبته كذلك في توجيههم والتأثير فيهم. ذات مساء، حينما كنا منهمكين في العمل، قال لي الملك بشكل ساخر« كي أؤكد لك أنني أعرف الكثير من الناس، فقد رتبت لك عشاء مع عدد من الزعماء السياسيين». حوالي العاشرة ليلا، قلت له «إن الوقت متأخر صاحب الجلالة» ، غير أن الأمر كان يبدو بالنسبة إليه عاديا. منتصف الليل، ثم الواحدة صباحا.. راجعته من جديد «أعتقد أن اللقاء لن يتم هذا المساء» فاعترض وقال «إنهم سينتظرونك». وصلت إلى بيت مضيفي وكانت الساعة تشير إلى الواحدة والنصف صباحا.. كان هناك كريم العمراني، علي يعتة وآخرون.. وصول لوران أيقض الخدم.. أما كريم العمراني ، يقول لوارن، فقد كان مرتبكا وقال لي «أنا متأسف سيد لوران، إنه شرف كبير أن أستضيفك». لوران يضيف، أن في اليوم الموالي سأله الحسن الثاني كيف مرت الأمور، قبل أن يستطرد كان أمرا غريبا أن أراه يتسلى لكونه جعل كل هؤلاء ينتظرون بشكل غير محدد. عامل الحظ يقول لوران إن وصول الأسرة العلوية، بالنسبة للمغفور له الحسن الثاني ، إلى سدة الحكم كان فيه شيء من الحظ. فحسب الملك، تعرض جزء كبير من المغرب لسلسلة من هجومات الجراد الذين التهموا المحاصيل لسنوات عديدة. هذا الوضع، يشير لوران، دفع حكام البلد إلى اللجوء إلى أجداد الملك الحسن الثاني ، حفدة النبي محمد صلعم . ويوضح لوران أن الملك قال له في هذا الصدد « كان حسن الطالع، فاختفى الجراد». يرى لوران أن الحسن الثاني كان يؤمن بشكل كبير بعامل الحظ في السياسة.. ويقول إنه ، رغم توليه الحكم سنة 1961 ، فهو لم يباشره إلا بعد ذلك ، فإلى حدود المحاولة الإنقلابية «كان إلى حد ما ما يزال وليا للعهد». وبعد أن أحس بالخطر ارتأى أنه لابد أن يقوم بمهامه كملك حتى تتحرك الأمور، كان مزهوا بتجاوزه لحظة محاولة الانقلاب، وكان مرتاحا لتعزيز الملكية وخلق مؤسسات، يقول لوران الذي يضيف أن الحسن الثاني ، كان يرى أنه أنجز بشكل جيد مهامه، حيث كان ملكا مجددا، وكان معتزا بالمسيرة الخضراء، كما كان يعرف جيدا أنه ليس للمغرب الحجم الذي يمكنه من التأثير في النظام العالمي، وكان يود أن تكون مكانة المغرب أكبرمن ذلك. الكتب والأصدقاء وحسب الكاتب دائما، فالحسن الثاني لم يكن لديه أصدقاء، بل لقد أسر له مرة بأنه كثيرا ما أخطأ في أحكامه حول الناس. أجل، يضيف لوران، العاهل الراحل انتبه إلى كون المحيطين به كانوا يهابونه أكثر مما كانوا يحبونه، وبأن الأذكياء من ضمنهم كانوا يستطيعون توجيهه، وهو ما جعله حزينا في نهاية حياته. وفي هذا السياق، قال الحسن الثاني للكاتب: «أنزوي بمفردي ابتداء من الساعة الثامنة، الكتب هم أصدقائي الوحيدون». لم يكن العاهل الراحل، يكتب لوران، «مبرمجا» ليصبح ملكا، لقد كان يفضل مهنة فكرية أكثر تسمح له بالعزلة عن الآخرين، مهنة مؤرخ مثلا. وعلى مستوى آخر، يحكي لوران أنه حضر ذات مرة الاحتفالات المقامة بمراكش بمناسبة السنة الجديدة، وأن الحسن الثاني، بعد انصراف المدعوين، صعد فوق الخشبة ليسير عزف الجوق الموسيقي. تحيا العطلة عندما أنهى إريك لوران الحوار مع الحسن الثاني وأخبره بذلك، «وقف الملك الراحل وفرك يديه، وصاح : لتحيا العطلة». ومن اللحظات التي أعقبت الانتهاء من الكتاب، اللحظة التي جمعت أحمد رضا اكديرة، إدريس البصري وأندري أزولاي، الذين مدحوا كثيرا الكتاب . وقتها، صاح فيهم الحسن الثاني رحمه الله: «كفى كفى ، لقد فهمت، فلترتاحوا». يقول إريك لوران إنه التقى الحسن الثاني آخر مرة في 1999، «كان مريضا في عيد العرش، وقتها شعرت كما لو أن الحسن الثاني خرج من التاريخ»، وقد بدأ الكل يتهافت على ولي العهد آنذاك ، يضيف الصحفي الفرنسي .