ما الذي يمكن أن نرغب فيه ؟ و ما الذي باستطاعته إشباع رغبتنا ؟ و كيف نتشكل كذوات راغبة ؟ و ما ذاك الذي يشتغل في صلب وجودنا كرغبة ؟ إن إثارة سؤال رغبتنا لا يهم ذاك الجانب الهش و العابر من وجودنا وهو الجانب الشخصي من كياننا ، و إنما يتجاوزه إلى روح العصر الذي يشكلنا . إنه المحك الذي نطرح عليه حدود حريتنا ، و نسائل من خلاله انتماءنا للتاريخ و نستعيد عبره شهوتنا الدائمة في الحياة التي تؤمّن استرسالا في المغامرة البشرية . ظلت الرغبة مجال اختبار الغموض الأصلي للتجربة الإنسانية و التباسها . و مع اسبينوزا أعيد اكتشافها باعتبارها الماهية الأكثر جوهرية للإنسان . و ظهر التاريخ في جدل السيد و العبد في المنظومة الهيغلية متاحا بكامله كحصيلة لنمط محدد من الرغبة هي الرغبة في الاعتراف . و بدت فيما بعد نهاية التاريخ باعتبارها التحقق الفعلي لما يشبع هذه الرغبة . و حدد الإنسان في جوهره كرغبة في الوجود . ورفعت فلسفات النصف الثاني من القرن العشرين و العقد الأول من القرن الواحد و العشرين تحديا كبيرا من أجل تحرير الرغبة و تحويلها من مجرد طاقة يحكمها قانون النقص إلى شكل من امتلاء الحاضر الذي ينشده الكائن الحداثي . شكلت الرغبة إذن ذلك النتوء الذي فيه ينفصل الإنسان عن النظام الحيواني ،و الذي به يظهر ككائن يعلو عن نسق الحاجة الذي يحدده و يحوله بالتالي من نظام للضرورة إلى حرية متعينة في الحاضر . إن كائن الحداثة هو ذاك الذي يعي جيدا أن زمن سعادته هو حاضره معقل تحقق رغبته، و أن هذه الرغبة هي المصنع الحقيقي للقيم و معمل المستقبل و محرك التاريخ. إننا نعتبر جميلا ما نرغب فيه يقول سبينوزا . و الأشياء تظهر ذات قيمة عندما تنفتح في أفق الرغبة . لماذا لم يكن للحيوان تاريخ ؟ لأنه لا يصنع مستقبلا ، لأنه ظل محكوما بمنطق الضرورة الطبيعية ، و لأنه ظل حاجة ، أي افتقار ، و ليس رغبة ، أي حرية . ترى أية دلالة ستبقى للمستقبل إن لم يكن الأثر المباشر للرغبة ؟ سيظل المستقبل مفتوحا أمام الإنسانية طالما ظلت كيانا راغبا يشكل التاريخ في تدبدبه و تردده و عنفه الأعمى وصخبه محاولة مستمرة لإشباعه . نعثر في ذلك على تكرار أبدي لأغنية تريستان : « لأي قدر ولدت ؟ من أجل أن ترغب و تموت ، من أجل أن تموت من الرغبة « . تلك خلاصة ملحمة الإنسان . حاولت الفلسفة المعاصرة القطع مع التاريخ الحزين للرغبة الذي كانت تظهر فيه اللذة باعتبارها فشلها الأبدي . حيث لا يكون للرغبة من قيمة إلا كعلامة على العجز البشري ، و كدليل على انتصار العدم طالما أننا لا نرغب إلا فيما يعوزنا و ينقصنا . يأتي ذلك حسب تصويب سبونفيل بسبب الخلط بين الرغبة و الأمل الذي هو نقص لأننا لا نأمل إلا فيما لا نملك ولا نستطيعه . لذلك اعتبره سبينوزا قلقا وعجزا وجهلا . يجعل ذلك من الرغبة إمكانا يدور حول مبدأ يقول أن الحياة الحقيقية لا يمكن إثباتها إلا كغياب دائم ، أي كنقص و حرمان . يبدو التحرر من هذا التاريخ الحزين مستوعبا للمشروع الحداثي بكامله لأنه يحمل في عمقه إعادة الاعتبار للحاضر في مواجهة أي مستقبل أسطوري ، و تمجيدا للجسد و اللذة ، و تثمينا للرغبة لأنها المجال الوحيد لأي اختبار جمالي للوجود ، و إثباتا للحياة في مواجهة أي نزعة عدمية « هناك فعل ، و هناك متعة ، و هناك لذة ، عندما نرغب فيما نفعل و فيما نملك و فيما نحن إياه ، أي عندما لا نرغب إلا فيما لا ينقصنا « يقول سبونفيل. خلاصة ذلك أن الكائن الحداثي لا يعيش إلا باسم رغبته في الحياة ، تلك الرغبة التي تجعل الأخلاق تجد نموذجها في الفن و ليس العلم لأن الأخلاق في هذه الحالة ستكون استيطيقا تسمح للحياة بأن تكون محكا ممتعا للوجود . و لأنه كما قال ميشال أنفراي « ليس شرا أن نحيا ، لكن أكبر الشرور هو أن نحيا على نحو سيء .»