في إطار الحفاظ على توازنات المعادلة المخزنية بعد وفاة موسى بن أحمد (والد ابا احماد الذي كان يراكم منصبي حاجب وصدر أعظم) في عام 1879، استقر رأي المولى الحسن الأول على إسناد وظيفة الصدر الأعظم المحورية إلى أبناء عائلة الجامعي المخزنية العريقة والمنافسة لآل البخاري، خاصة وعلاقات قرابة تربطهم به . هكذا، أصبح محمد بن العربي الجامعي صدرا أول، أي مؤتمنا على شؤون الدولة الخارجة عن البلاط، ليخلفه بعد وفاته في منصبه أخوه المعطي. وقد أثار تعيين هذا الأخير غضب ابا حماد الذي كان قد نال «فقط» الحجابة، معتقدا ربما بأن آل الجامعي سرقوا منه مستحقاته. وبعد سنوات، سينجح في تجريد الصدر الأعظم الثاني من وظيفته والزج به في السجن في شروط «لا إنسانية»، هو وأهله المتواجدون في دواليب المخزن. وبالفعل، فقد ورث الإبن أحمد عن والده عيسى، بالإضافة إلى منصب الحاجب، قدرا غير يسير من مناهضة آل الجامعي، فقرر تأجيج الصراع معهم مقسما بأغلظ الأيمان بتصفيتهم. لكن، من تكون عائلة الجامعي هذه؟ من يكون منافسو أل البخاري هؤلاء الذين عارضوا تولية مولاي عبد العزيز، ومن ثمة تكتيك ابا احماد ليكون الحاكم الفعلي للمرحلة الأولى للحكم العزيزي؟ يكتب بوشتى بوعسرية، في «معلمة المغرب»، بأن آل الجامعي «أسرة فاسية عريقة تنتسب إلى قبيلة أولاد جامع (...) وأصبحوا ينتسبون هكذا: «الجامعي»، بدل «ابن جامع» منذ أن استوطنوا الجهة الشرقية الشمالية لمدينة فاس، وربما كان ذلك في عهد الدولة السعدية (...). وانضمت هذه القبيلة سنة 1849 الى الجيش المخزني الذي نظمه السلطان المولى عبد الرحمان بن هشام (1859/1822) على إثر هزيمة القوات المخزنية في معركة إيسلي (غشت 1844). وارتقى أفراد من الجامعيين إلى مستوى كاتب وزير خلال حكم السلطان المذكور، والمقصود هو العربي بن المختار الجامعي، واحتل ابنه محمد نفس المنصب في عهد سيدي محمد بن عبد الرحمان (1873/1859)، الذي كانت تربطه علاقة مصاهرة مع آل الجامعي، لأن زوجته للا الطام تنتمي لقبيلة أولاد جامع، وهي أم السلطان مولاي الحسن (1894/1873). ونظرا لهذه القرابة، فقد أصدر سيدي محمد بن عبد الرحمان ظهيرا بتاريخ 2 غشت 1866، أسدل به أردية التوقير والاحترام على أصهاره وخاصة منهم محمد بن العربي بن المختار الجامعي، كاتبه - أي وزيره - في حين أسند له ابنه مولاي الحسن منصب الصدارة العظمى (...).» بعد وفاة المولى الحسن الأول إذن، أبدى أولاد الجامعي (الصدر الأعظم الحاج المعطي، وأخوه محمد الصغير وزير الحرب، وصهرهم العربي الزبدي الذي كان يشغل منصب أمين) معارضتهم لابا احماد ولتولية مولاي عبد العزيز، لكن دهاء أبا حماد فرض عليهم قبول الأمر الواقع والتوقف عن الدعوة إلى تنصيب مولاي امْحمد، الابن البكر للسلطان المتوفى، خلفا لوالده. وكان أن قامت مجددا «الحرب الباردة» بين الفريقين، وانتظرا معا مغادرة مولاي عبد العزيز الرباط بعد مبايعته، وكان من المفروض أن تحط الرحلة السلطانية الرحال أولا في العاصمة الدينية للإيالة الشريفة. وهناك، في فاس، كان الوزراء من أولاد الجامعي سيحشدون أنصارهم بالمدينة من أعيان وفقهاء وأفراد العائلة المالكة لتنظيم «انقلاب» ضد ابا حماد، وتجريده من مهامه والتنكيل به وبذويه وحلفائه في دواليب المخزن المركزي. لكن أبا حماد، الملقب كذلك بخيط الحديد، استشعر المؤامرة فرتب خطة محكمة لإفشالها، بل وللنيل من أولاد الجامعي وعزلهم من وظائفهم وسجنهم. كان لابد أن يمر الموكب العزيزي بمكناس أولا، حيث تتواجد عصبية الصدر الأعظم (آل البخاري) لتنصره ضد خصومه. ولقد لعب باشا العاصمة الإسماعيلية دورا حاسما في إنجاح هذه الخطة، فهو الذي خرج على رأس وفود المدينة - بإيعاز من حليفه وابن جلدته ابا حماد - ملتمسا من مولاي عبد العزيز تشريف مدينته. وهكذا كان، حيث فرش الباشا حم بن الجيلالي البخاري طريق أحمد ابن موسى بكل عوامل الانتصار ضد «الحزب» المنافس له، مما سمح له بتصفية خصومه والتنكيل بهم وإهانتهم قبل ترحيلهم إلى الزنازن الفظيعة. يقول والتر هاريس: «بعد أيام من وفود الموكب السلطاني على مكناس، انعقد مجلس الصباح الاعتيادي (للوزراء). ولج الحاج المعطي، الصدر الأعظم، ساحة القصر، محاطا بحاشيته ذات اللباس الأبيض، ولج بينما الخدم ينحنون له والجنود يؤدون له التحية. وعلى التو، أُذِن له بمقابلة السلطان. «حين دخل الحاج المعطي، وجد مولاي عبد العزيز بمعية ابا حماد بمفرده، انحنى وانتظر أن يعطيه السلطان الكلمة. طرح عليه مولاي عبد العزيز سؤالا بنبرة ملؤها الجفاء. لم يعتبر جواب الحاج المعطي مقنعا، فانطلق ابا حماد في إطلاق سيل من الانتقادات ضد الصدر الأعظم، متهما إياه بالخيانة والبخل والابتزاز واقتراف جرائم سياسية. «وفجأة، توسل للسلطان أن يأمر باعتقاله. فطأطأ مولاي عبد العزيز رأسه في إشارة إلى موافقته على طلب حاجبه». وفي رواية أخرى أوردها بوشتى بوعسرية في «معلمة المغرب»، فحينما دخل الصدر الأعظم «على السلطان في قصره (بمكناس) يحمل معه صكوك الأوامر والظهائر السلطانية»، كما جرت العادة، للتوقيع عليها، أمره بتقديمها إلى ابا حماد ابن موسى، فامتنع عن القيام بهذه المهمة التي اعتبرها إهانة له، فلم يسع السلطان إلا اعطاء تعليماته ، بإيعاز من حاجبه، لقائد المشور إدريس بن العلام البخاري، ليبلغ الصدر الأعظم السابق إعفاءه من وظيفه ولزوم داره...». وكيفما كان الحال، فلحظات قليلة بعد مثول الحاج المعطي الجامعي بين يدي السلطان «حتى كان رجل يمرغ في تراب ساحة القصر، رجل مثير للشفقة تغمر عينيه الدموع، رجل تسخر منه وتستهزئ به الجموع التي كانت، قبل هنيهة، تنحني لتحيته حتى تطأ جباهها الأرض». هكذا يصف والتر هاريس المشهد، مضيفا «كانت ثيابه ممزقة بسبب غلظة الجنود وعمامته قد انزاحت عن مكانها الطبيعي، وحين اجتاز باب القصر السري مجرورا من طرف العساكر، نزع الحارس «رزته» البيضاء الرائعة، وضعها الحارس فوق رأسه، وعلى رأس الصدر الأعظم وضع «شاشيته» المتسخة، فحيَّت قهقهة مدوية فعلته». ويضيف والتر هاريس: «اقتيد الوزيران السابقان (الحاج المعطي ومحمد الصغير) إلى السجن بتطوان، وهناك كانت السلاسل مصيرهما فَغُلاَّ في ضيافة برج الاعتقال. وبعد مرور ثلاث سنوات، وهي مدة بدت للحاج المعطي وكأنها الأبد، توفي هذا الأخير. لم يجرؤ عامل تطوان على دفن الجثة، إذ انتابه الهلع من فرضية اتهامه بمساعدة السجين على الفرار، لم يجد بديلا عن مكاتبة البلاط كي يتم تزويده بتعليمات. كان الوقت صيفا والحرارة مفرطة في حصن الاعتقال، لم يكن بالإمكان التوصل بالجواب قبل مرور 11 يوما، وطوال هذه المدة، ظل سي محمد الصغير مغلولا جنب جثة أخيه». وإذا كان ملاك الموت قد أنقذ الصدر الأعظم المقال من عذاب الأغلال، فإن وزير الحرب المخلوع سيظل سجينا طيلة 14 سنة، ملؤها المهانة والآلام اللاتحصى. فكيف قضى الأيام والليالي الطوال في برج الاعتقال بتطوان؟ إذن، ورغم مكوث جثة أخيه مغلولة الى جانبه في السجن ذي درجة الحرارة الخانقة «ظل سي محمد الصغير يكتب والتر هاريس على قيد الحياة. وفي بحر عام 1908، وبعد قضائه 14 سنة في المعتقل، أطلق سراح رجل محطم، يائس ومفلس. وبالفعل، فقد صودرت كل ممتلكاته، أما زوجاته وأطفاله، فقد قضوا نحبهم بسبب العوز والحزن. لقد غادر السجن وهو على وشك الإصابة بالعمى، وجسده مشوه بفعل السلاسل التي كانت تغله ليل نهار. لقد كان قاسيا بكل تأكيد خلال أيام عزته، لكنه دفع ثمن أخطائه غاليا جدا!». أما صهر وحليف آل الجامعي، الأمين العربي الزبدي، فُرحِّل إلى آسفي ليذوق العذاب في غياهب سجنها. وهناك، تذكر أيام عزه، تلك الأيام التي أوفده السلطان خلالها (1876) سفيرا لعدة عواصم أوربية قصد التفاوض حول مشكل الحمايات القنصلية بالإيالة الشريفة. هذا، و»كان سجن هذا الأخير محط احتجاجات القنصل الألماني، فالزبدي كان محميا من الألمان، لأنه كان يحافظ على مصالح هذه القوة. لكن الوزير الأول (ابا حماد) كان قد رد على طلبات القنصل بما يلي: « إذا تماديت في احتجاجاتك، فسأكون مجبرا على شواء العربي الزبدي في السفود. لهذا أرجوك أن تترك هذا الموضوع جانبا، لأنك تتعلق بموضوع لن تجني منه كبير ربح لا أنت ولاغيرك، ومن الأحسن أن يبقى حيث هو الآن» (لويس أرنو). وقد قضى العربي الزبدي بسجن آسفي «مدة طويلة الى أن تشفع فيه الشيخ الكبير، والغوت الشهير: سيدي ماء العينين رضي الله عنه، فقبلت شفاعته وسُرح بعد وفاة الوزير (ابا حماد)» (الحسن بن الطيب بوعشرين). وإذا كان قد ظل حسب نفس المؤرخ بفاس «مقتصرا على نفسه، ورأسه ملتوي تحت طي إبطه»، فإن مكر آلية صعود واندحار رجال المخزن في تلك الحقبة، قد شاء أن يكون المشرف على تصفية أملاك ابا حماد بفاس، بعد وفاة هذا الأخير، هو... العربي الزبدي!