كثيرة هي الكتابات التي اهتمت بالرجال الأقوياء خدام المخزن في عهد السلاطين والملوك ، مسارا ونهايات غالبا ما تكون نهايات تراجدية. لكن ما مصير أبناء وأحفاد هؤلاء الأقوياء بعد تقتيلهم أو تهميشهم ؟ كيف تواجه أسرهم قرارات التتريك المخزني ؟ ما مصير الممتلكات التي كانت لدى أجدادهم وأبائهم ؟ وكيف يعيشون اليوم؟ أسئلة وغيرها طرحناها على السيد بوبكر باحماد ، ضابط سابق في الدرك الملكي ، مزداد بالجديد ة سنة 1940 ، ابن عباس با حماد ، وأحد أحفاد الصدر الأعظم أحمد بن موسى الملقب ب» باحماد» الذي تقلد منصبه سنة 1897 إلى أن مات مسموما سنة1900 إبان عهد السلطان عبد العزيز. بحماس وافتخار، تكلم بوبكر باحماد،أحد أحفاد الصدر الأعظم أحمد بن موسى ( في بداية فترة السلطان عبد العزيز) والكمندان السابق في الطيران التابع للدرك الملكي والبالغ اليوم السبعين سنة، تكلم عن عائلته. المنحدرة من عبيد استجلبهم السلطان اسماعيل من مالي ومنذ نشأة جيش عبيد البخاري تقلد عدد من أجداده وقتها مناصب عديدة في ذلك الجيش. ومع توالي السلاطين بعد ذلك، بدأت عناصر من عائلته تقترب شيئا فشيئا من السلاطين .كان أهمهم ترقية أحمد بن مبارك من منصب«مول أتاي» و«مول الطابع» إلى قيادة جيش كبير لمحاربة ثورات القبائل ، ثم يضيف السيد بوبكر ، ولم يكن من سبيل لحماية السلطان والنظام، وقتها، سوى قطع الرؤوس. بل ولم يسلم أحمد بن مبارك جدُ جَده هذا من أن تقطع رأسه سنة 1819 من قبل جيش العبيد وتُرسل للسلطان سليمان احتجاجا منهم لعدم توصلهم برواتبهم لشهور . بعد ذلك، سيتولى ابنه موسى الحجابة والصدارة العظمى في عهد السلطانين عبد الرحمان والحسن الأول. وبوفاة موسى سنة 1879 ، كلف الحسن الأول ابنه أحمد بن موسى بالحجابة فقط وجعل الصدارة العظمى بين يدي محمد بن العربي الجامعي، الأمر الذي خلق تنافسا بين الرجلين، تطور إلى عداء كبير بينهما فيما بعد. يحكي بوبكر باحماد ، رواية عنه أبيه العباس، أن جده كان حاضرا إلى جانب السلطان الحسن الأول في حفلة كبيرة أقامها هذا الأخير خصيصا لإبنه المحبوب ،عبد العزيز، بمناسبة مشاركته الأولى في «التبوريدة». ولما هَم الأمير الصغير بركوب فرسه ساعده السلطان في ذلك ، الأمر الذي أثار فضول الحاجب فسأل السلطان إن كان الحفل حفلا لولاية العهد لعبد العزيز ؟أجاب السلطان :إن شاء الله. كذلك يذكر عن أبيه، أنه عندما اشتد المرض بالسلطان دعا هذا الأخير حاجبه وطلب منه كتابة وصية بولاية العهد لعبد العزيز وبصفة رسمية ، ثم يضيف هكذا اختار جدي عبد العزيز سلطانا بعد وفاة الحسن الأول وليس طلبا، لا للحكم ولا في الحصول على المزيد من المال. وعن ظروف وفاة السلطان الحسن الأول يقول الرجل نقلا عن والده ،أن المرض اشتد بالسلطان بمراكش وأمر بالرجوع إلى الرباط . وتوفي وهو في أرض تادلة سنة 1894 . ولم يعلم بوفاته إلا الحاجب وبعض الحرس من العبيد. فأخُفي موت السلطان عن الصدر العظم والوزراء وباقي أعضاء الموكب السلطاني إلى أن وصلوا الرباط. وبما أن العادة تمنع دخول جثة الميت إلى القصر عبر بواباته ،أمر الحاجب بهدم جزء من الصور المحيط بالقصر لإدخال جثة السلطان. ثم يضيف نقلا عن والده العباس، دائما ، أن جده أعلن البيعة للسلطان عبد العزيز وتولى مهمة الصدر الأعظم ونصب أحد إخوته حاجبا وأسند وزارة لأخ آخر. طبعا حسم أمر خلافاته الطويلة مع آل الجامعي ومع من كان يدور في فلكهم. لا يخفي بوبكر أن جده باحماد كان مستبدا يسهر على الحضور بنفسه أثناء تنفيذ أحكام الإعدام في من يشك في أمر ولائهم ، وأنه نصب مقربين له مثل المنبهي في وزارة الحربية وعبد السلام التازي في المالية، وأن مهمته التي لم تزد عن ست سنوات انتهت بقتله مسموما هو وشقيقيه في قصر الباهية بمراكش سنة 1900.
بداية معاناة الأبناء :العباس بن أحمد بن موسى باحماد نموذجا هنا سينقلب حماس وافتخار المتكلم إلى بداية مسلسل من التحسر والتشكي على أوضاع عائلة باحماد ومعاناتها بعد وفاة جدهم الصدر الأعظم. فقد تم تتريك الرجل القوي ونفيت عائلته إلى مدينة مكناس، وهاجم الناس بيوت نسائه وأولاده الموزعين في عدة مدن مغربية ، ومنهن زوجات هربن وأخفين علاقتهن وعلاقة أطفالهن بباحماد ، منها يقول السيد بوبكر ، أبناء امرأة تعرف عليهم في السنوات الأخيرة كانت زوجة لجده ولم تستطع البوح بذلك إلى لحظة شعورها باقتراب موتها ، نظرا لخوفها من الناس و انتقامهم من زوجها باحماد. ويسترسل محدثنا أنه سنة 1918 أشفق السلطان يوسف على أحوال أسرة باحماد، فأمر بصرف راتب شهري لها مدى الحياة .لكن سرعان ما عُوض الراتب بمنازل توجد في حومة جامع الأزهر بمدينة فاس. ولم يقتصر الأمر على الممتلكات بل أن أباه عباس باحماد الذي كان مناصرا لعبد العزيز، اعتقل من طرف عبد الكريم بنسليمان ووضع بالسجن. ثم صدر عفو في حقه وعمل مخزنيا بالقصر.ثم عين بعد ذلك في منصب قايد بمنطقة عبدة. وبعد اختلاف بينه وبين الحاكم الفرنسي سنة 1936 أمر الصدر العظم محمد المقري، شخصيا، بإقالة العباس باحماد وتعيينه عدلا بديوانية الصويرة. بعد معركة قضائية استمرت من 1933 إلى 1952 لاسترجاع قصر الباهية وعدد من المنازل والأراضي بمراكش، استجابت الأملاك المخزنية، التي كان يشرف عليها الفرنسيون، في تعويض الورثة عن ممتلكاتهم بمراكش بمبلغ مالي إجمالي قدره 250 مليون فرنك، اشترى بها والده عمارات بالدار البيضاء. وقبل نفي محمد الخامس زار العباس باحماد السلطان ليشكره على التعويض ، فكلفه السلطان بالعمل بالقصر الملكي مكلفا بالأثاث والسهر على راحة نساء القصر. تردد والده، بعد تنصيب بن عرفة ، في الاستمرار في مهمته، لكنه أراد أن يبقى على وفائه لتكليف محمد بن يوسف ، الأمر الذي جعله يدفع الثمن غاليا بعد الاستقلال. حيث ، كما يقول السيد بوبكر، تزعم الدكتور الخطيب حملة« لتتريك» أبيه بوصفه خائنا،إلا أن محمد الخامس رفض ذلك . وعُوقب والده بتجريده من حقوقه المدنية تسع سنوات. وأما ما قام به الخطيب « فيرجع لتصفية حسابات قديمة مابين جده أحمد بن موسى باحماد وعبد الكريم بن سليمان الذي تقلد منصب وزارة الخارجية أيام السلطان حفيظ» ، ويضيف « أن ما وقع له هو شخصيا أثناء خدمته كدركي يدخل دائما في إطار تصفية تلك الحسابات القديمة.» ثم يعود السيد بوبكر إلى معاناة أبيه الذي وجد نفسه يعيل أسرة عدة أفراد براتب لا يتجاوز 700 درهم شهريا، مع مدخول كراء العمارات الزهيد والمحدود. أمام هذا الوضع سقط والده ، كما يقول ،« فريسة مكيدة دبرها الدكتور الخطيب الذي نصحه أول الأمر بأخذ قرض من البنك بمبلغ 25000فرنك». ولما استعصى على والده استرجاع المبلغ وتأدية الأقساط الشهرية ، «أرسل له الخطيب، سنة 1957 شخصا يدعى عبد الكريم بنونة الذي سدد مبلغ القرض مقابل الحصول على 6 في المائة من مداخل الكراء ». وفي ظروف غامضة «أصبحت تلك العمارات في ملكية الدكتور الخطيب». توفى أبوه سنة 1966 في بيت حقير ، كان يدفع سومة كرائية قدرها مائة درهم، وفي ظل عوز كامل بعد أن عاش وتربي في قصر الباهية. بكى الرجل وهو يروي ذلك ، وأعلن أنه كوكيل لأسرته عازم على البحث عن طريق لرفع دعوى قضائية لاسترجاع تلك العمارات.أما عن الدور بمدينة فاس ، وكوكيل الاسرة ، فقد رفض عرضا ببيعها لأن الأملاك المخزنية طالبته باقتسام مبلغ البيع مناصفة معها.
ويرث الأحفاد المعاناة ، بوبكر بن العباس باحماد مثالا: وقبل أن يتعرض لمجرى حياته ، أشار إلى عدة مضايقات تعرض لها إخوته، إذ تم رفض ولوج أحدهم لأكاديمية مكناس العسكرية ، واضطر أخ ثان لمغادرة وظيفته من المحافظة العقارية بالجديدة بعد شهر واحد من العمل نظرا للمضايقات التي تعرض لها من قبل محمد محمد الخطيب شقيق الدكتور الخطيب..... وعن باقي أفراد أسرته فقال أنهم يعيشون اليوم على الكفاف ، ويضطر في الكثير من ألأحيان للاقتراض من الأبناك لمساعدة إخوانه وأخواته وأبنائهم. أما عن مسيرته المهنية يذكر أنه وفي سن 17 سنة التحق بالدرك عام 1958وكان يتابع دراسته الثانوية. وما أن بدأ تخصصه في مجال الاتصالات ، حتى وجد نفسه في أتون حرب الريف .
وتعرض حين كان طالبا إلى الاعتقال لمدة شهر كامل من طرف المذبوح وفي ظروف قاسية، لا يقدم له كغذاء سوى الخبز والماء خلال مدة حبسه. وفي المقابل أقر بالمساعدة التي كان يقدمها له الكولونيل ادريس بنعمر في بداية عمله.
بعد ذلك ولج مدرسة الطيران التابعة للدرك الملكي إلى أن أصبح ربان طائرة الهليوكوبتر ، وسافر إلى فرنسا للمزيد من التحصيل والتدريب في عمله. كما شارك في حرب الرمال بين المغرب والجزائرسنة 1963، وساهم من موقعه في المسيرة الخضراء سنة 1975.
يقول بوبكر ، كفاءته أهلته ليقوم بعدة مهام داخل المغرب، إذ كلف بتنقل عدد من الأمراء والأميرات ومنهم ولي العهد سيدي محمد حيث وُجد معه بمدينة إفران أثناء الهجوم على الطائرة الملكية سنة 1972. وسيصبح عام 1977 مديرا لمدرسة الطيران حيث تخرج منها ربابنة وتقنيون مغاربة عديدون. كما تكلف كربان طائرة الهليكوبتر بعدة مهام خارج المغرب :منها في تونس، لما تعرض الحبيب بورقيبة لمحاولة انقلابية سنة 1980 وحصل من بورقيبة على وسام الجمهورية من درجة فارس وحصل ضباط صف كانوا بمعيته على النجمة الحربية. كما عمل من 1982 إلى 1986بالإمارات العربية .في السنة الأولى كان الطيار الخاص للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ، وباقي السنوات الثلاث كلف بتدريب الضباط الإماراتيين على قيادة الطائرات العمودية. وخلال المؤتمر السادس لمنظمة المؤتمر الإسلامي بدكار كلف على رأس فريق بأمن كل رؤساء الدول المشاركة . ويضيف أنها مهام وساعات عديدة من الطيران ، للأسف ،لم تحسب له عند التقاعد. فيما بعد تمت ترقيته سنة 1992وأسندت إليه مهمة نائب إداري للمجموعة الجوية للدرك الملكي مكلفا بالشؤون المالية والحسابات.و عمل طيلة أشهر قليلة على توفير الدرك وخزينة الدولة أكثر من 16 مليون درهم. لكن السيد بوبكر، اضطر إلى مغادرة منصبه بعد ستة أشهر فقط « مدليا بحجج صحية وهمية » ، و« أن سبب مغادرته كانت غير ذلك ، لأنه لمس «أشياء غير طبيعية» ، لا يمكنه ،الآن أو غدا ،الإفصاح عنها علنا إلا أمام صاحب الجلالة الملك محمد السادس القائد الأعلى للقوات المسلحة ، و تبعا للقسم الذي أداه». ويضيف انه منذ ذلك الوقت تعرض للمضايقات والضغوطات النفسية التي تتسبب في إقلاق راحتي زوجته وابنته ، ففضل مغادرة وظيفتيه وتلقى رسالة ثناء وشكر وعرفان من رئيسيه المباشر. وأضاف أنه منذ مغادرته وظيفته، دخل مع زوجته الفرنسية وابنتيهما في جو من القلق والخوف على حياتهم لمدة تزيد عن 14 سنة. خوف وقلق جعل زوجته تسقط في انهيار عصبي بين الفينة والأخرى.
أما عن عدم إخباره رؤساءه بما سماها «أشياء غير طبيعية» إبان العلم بها، فيرجعها باحماد« لظروف موضوعية،» إذ «أن الأوضاع اليوم في عهد الملك محمد السادس أفضل من السابق لا سيما في مجال حرية التعبير والرأي» ، وشدد السيد بوبكر«أنه يرغب في إيصال صوته لملك المغاربة»، بل «وهو في عقده السابع يرى أنه قادر على المزيد من العطاء لما راكمه من تجربة ميدانية وإدارية في خدمة الدرك الملكي وفي خدمة الملك وفي خدمة الوطن.» وما يتمناه كذلك ، بصفته ناطقا رسميا لورثة العباس باحماد، هو رد الاعتبار المادي والمعنوي لكل أفراد عائلته.