يترجم ألبير ساسون، في هذا الكتاب، مبدأ التعايش الذي وسم تواصل اليهود والمسلمين المغاربة، من خلال الاشتغال على مقاربة طريفة تنتبه إلى العلاقة التي كانت تجمع ستة ملوك مع خياطيهم اليهود من آل ساسون وآل بوطبول. ولأن المؤلف سليل هاتين العائلتين فقد ولج بنا المطبخ الملوكي عبر أدق التفاصيل والمشاعر. المطبخ هنا لا يحيل على مضمون مجازي، بل على الأكلات والملابس والمقتنيات التي كان يعدها هؤلاء الخياطون لسلاطين المغرب، بدءا من الحسن الأول (1894-1873)، وانتهاء بالحسن الثاني(1999-1961) . يصرح المؤلف، في التقديم، بأنه لا يقدم «دراسة تاريخية، ولا كتابا حول جزء من تاريخ المغرب»، ولذلك جنس الكتاب ب « RECIT « واقترح المترجم سعيد عاهد للصيغة العربية صفة «محكيات». يستبعد ألبير إذن معيار التاريخ عن كتابه، ويمنح نفسه حرية أن يوزع الوقائع عبر مسارين: تتبع العائلة اليهودية، ضمن بحث تاريخي يعود بنا إلى المنابع الأولى لنشوء آل ساسون الشرق والغرب، وبموازة ذلك مسار المغرب بما عرفه من تحولات تاريخية ترسم بورتريه للملوك العلويين وعائلاتهم وخدمهم ومواقفهم وتجاوبهم مع تلك التحولات. يبدأ الكتاب بالبحث في التاريخ الأول لليهود الحاملين لإسم ساسون منذ إقامتهم في البندقية والهند والصين وإنجلترا، إلى أن برزوا بالشرق الأوسط، ومن ثم استقروا بتافيلالت وانخرطوا في الحياة الاجتماعية المغربية. وحين تولى السلطان الحسن الأول ملك المغرب، وظف إبراهام ساسون كخياط للقصر ضمن تقليد دأب على انتهاجه أسلافه، وخاصة والده السلطان محمد الرابع الذي كان قد أصدر ظهيرا بمعاملة اليهود معاملة مواطنيهم من الديانات الأخرى. ونفس الشيء قام به الخلف حين حظر سنة 1883 «تعرض اليهود للشطط، معتبرا أنهم تحت حمايته وحماية الإسلام، داعيا إلى احترامهم واحترام أذواقهم». ومنذ ذلك التاريخ نسج الخياطون علاقات ألفة مع ملوكهم بما يجعلهم شاهدين ومساهمين في الحياة الاجتماعية للمغرب. وهو ما استمر إلى حين تولى الملك محمد الخامس ضمن الحقبة التي سماها المؤلف ب « عهد القطائع»، إشارة إلى المواقف الوطنية الأصيلة للملك إزاء سلطات الحماية. في هذه الحقبة انتقلت الخياطة إلى أصهار ساسون من آل بوطبول بعد وفاة أبراهام ساسون الذي سيوارى الثرى في الرباط وسيكتب شقيق المتوفى على شاهد القبر: «كان يخاف الله، محسنا وفي خدمة المستضعفين، متواضعا وزاهدا كان، لكنه كان يعاشر الملك يوميا». يخصص الكتاب، في هذه الحقبة، جزءا هاما للعلاقة الحميمية مع أسرة السلطان، وخاصة العلاقة الفريدة التي كانت تجمع مسعودة، عمة المؤلف، بالياقوت، والدة محمد الخامس، ومن خلال ذلك نطلع على بعض التطورات التي عرفها المغرب خلال تلك الحقبة حيث سيتصاعد نضال الحركة الوطنية بتلاحم مع الملك، والذي توج باستقلال المغرب. ويمكن أن نتوقف عند بعض اللحظات الدالة في مسار العلاقة بين الملوك ورعاياهم من اليهود. من ذلك مثلا الموقف الذي اتخذه محمد الخامس حين ساند حرب فرنسا وبريطانيا على ألمانيا سنة1939 ، و« حارب بكل ما أوتي من قوة تطبيق قوانين نظام فيشي العنصرية والمعادية للسامية، المعتمدة ابتداء من سنة 1940». وهو نفس الموقف الذي سيعرب عنه الملك بمناسبة عيد العرش سنة 1943، حيث يصرح «إني أرفض كليا القوانين الجديدة المعادية للسامية، كما أنني لا يمكنني أن أقبل أمرا أشجبه. ولأحيطكم علما إن اليهود سيبقون كما كانوا في الماضي تحت حمايتنا، وأرفض أن يكون بين رعاياي أي نوع من أنواع التفرقة والتمييز». بتولي الحسن الثاني الحكم تتوطد الصلات. رفائيل بوطبول كان هو من يعد الألبسة ويباشر إعداد قاعات الاستقبال والإقامات، ومن ثم ينسج، هو الآخر، علاقة عميقة مع الملك لدرجة أن هذا الأخير كان قد خاطب عائلة رفائيل إثر مماته سنة 1966 بالقول « فقدتم أبا وزوجا، أما أنا فقد فقدت أخا». بعد وفاة رفائيل رغب الحسن الثاني في أن يتولى روجي، ابن الفقيد، نفس الخدمة، وقد استجاب الابن للرغبة الملكية رعاية للإرث المشترك بين الطرفين، علما بأنه كان يرغب في متابعة دراسته الجامعية في الإعلاميات. وبذلك واصل روجي مهامه الموكولة إليه شخصيا من طرف الحسن الثاني، بما فيها التكلف بمقتنيات الأسرة الملكية من باريس وروما امتدادا إلى الصين. ما يهمنا من هذه الحقبة، عدا الاعتبارات المبدئية التي أشرنا إليها بخصوص التوادد والتعايش، مستوى الوقائع التي سجلها الكتاب، والتي تتجاوز تاريخ الخياطة إلى التاريخ السياسي. نقرأ، في هذا الإطار، عن مرحلة الاستثناء إثر أحداث الدارالبيضاء واغتيال المهدي بنبركة (1965)، ثم عن الانقلابين (1971-1972) اللذين هددا العرش المغربي، وما حصل بعدهما من تقشف وتقلص في حجم ونوعية الملابس وحجم المقتنيات. ومن خلال ذلك ينقل المؤلف انفعالات الملك إثر كل تلك الأحداث ويصوغ صورة خاصة للحياة الداخلية للقصر الملكي. للإشارة، فالكتاب قد حكمته في البدء رغبات شخصية. فألبير يفي، بكتابه هذا ، بوعد قطعه على نفسه أمام والدته وأقاربه بتسجيل هذا التاريخ. وهو بذلك يؤسس لتاريخ السلالة بعد أن سمع الوقائع شفويا ومحصها، كما يؤكد في المقدمة، على ضوء المعطيات الموضوعية. من هنا أهمية الكتاب باعتباره وثيقة شخصية تسير باتجاه تأسيس رؤية جزئية لتاريخ المغرب، وتلامس جانبا من عمقنا التاريخي الذي لا يزال يحتاج إلى مقاربات متنوعة تبرز كيف تفاعلت مكونات الأمة المغربية بنجاعة لتدحض بعض نزعات التطرف التي تنتقص من إسهام المغاربة، بتعدد مكونات نسيجهم العام، في بناء كياننا الوطني. ألبير ساسون، مؤلف هذا الكتاب لم يرث مهنة الخياطة عن سلالته، بل سار ضمن المجال العلمي الجامعي الذي كان روجي قبله يرغب فيه، فقد تخرج أستاذا جامعيا بتخصص علم الإحياء. تولى عمادة كلية العلوم بالرباط من 1963 إلى 1969، و شغل مهمة مدير مساعد باليونسكو إلى غاية 1996 ، إضافة إلى عضويته في عدد من المحافل الوطنية والدولية. هذا هو المسار المقتضب لألبير ساسون، الخياط الذي لم يكن ، لكن الأستاذ الباحث محمد الناصري يشير، في الكلمة التي خص بها الترجمة العربية الموفقة، إلى أن المؤلف سيظل «خياطا بارعا للتواصل الاجتماعي والإنساني وبارعا في نسج العلاقات بين ذوي النيات الحسنة». أضيف إلى ذلك أن ألبير كان، في الكتاب، خياط حكايات ووقائع، ولذلك جاءت خياطته السردية أشبه بعمل خياط يحيك (أو يحكي) قفاطين أو جلابيب مغربية يبدأها من مساحة الثوب البكر، يفصل ويخيط إلى أن ينهض اللباس، ثم يشرع في تأثيثه عند الطوق أو الكمين أو الأسفل. هكذا كان يتحرك ألبير في كتابه، وهذا ما يبرر أنه ما أن ينتهي من حقبة إلى ما يليها حتى يعود إلى الحقبة السابقة ليواصل تطريز الكلمات والحروف والحكايات. منشورات مرسم- الرباط ، 2009 . مقتطف «هذا المؤلف ليس دراسة تاريخية، ولا كتابا حول جزء من تاريخ المغرب. لقد حظي تاريخ اليهود في المغرب، بالفعل، بكتابات كثيرة، وتم تحليل حياتهم الاجتماعية والثقافية، ومقاربة لغاتهم المحلية، مثلما تم تمحيص مكانتهم وسط المكونات الأخرى للشعب والأمة المغربيين على امتداد القرون. إنه تاريخ يمتد، ربما، طوال ألفي سنة، وهو مكون جوهري لتاريخ المغرب. وللتأكد من غزارة الكتابات حول يهود المغرب، تكفي العودة إلى الجرد الطويل للمراجع المثبت في الصفحات الأخيرة لمؤلفات حاييم زعفراني، محمد قنبيب، نيكول السرفاتي، جوزيف تدجي، شمعون ليفي أو روبير أسراف، وذلك حتى نقتصر على بعض الكتاب والباحثين المعاصرين. وتجدر الإشارة كذلك إلى الجهود المحمودة التي بذلها عدة مؤرخين مغاربة في إطار «مجموعة البحث حول اليهودية المغربية» التابعة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية لجامعة محمد الخامس بالرباط-أكدال، وذلك في أفق إلقاء نظرة جديدة على تاريخ اليهود في المغرب، انطلاقا من تحليل نصوص مكتوبة باللغة العربية ذات أصول مغربية. إننا أمام مشروع محكم بالفعل، نشرت أولى نتائجه على شكل مونوغرافيات في 2005 و2006، مشروع سيساهم بدون شك في إعادة الاعتبار للمكانة الحقيقية لليهودية المغربية ضمن تاريخ المغرب، هذا التاريخ الذي يعمل العديد من المؤرخين المغاربة على إعادة كتابته منذ عدة سنوات. أجل، وبعد إحداث «المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية» فإن إنشاء «المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب» من طرف الملك محمد السادس، يجسد أفضل ضمانة لكتابة تاريخ تعددي متميز بتنوع ثقافي نادر، تاريخ يشكل، هو نفسه، دعامة مواطنة كاملة التحقق وعامل التحام وطني. «من جهتي، قررت كتابة مسار حياة أفراد عائلتي خلال العشريات الأخيرة من القرن التاسع عشر والقسط الأكبر من القرن العشرين. وإذ أقدم على هذا العمل، فإنني أفي، عبره، بالتزام وعدت به والدي ووالدتي، كما قطعته على نفسي أمام أقرباء زودوني بالمعطيات المتضمنة في هذه المحكيات. إن المعلومات المحصل عليها من قبلي شفوية أساسا، لكنني قمت بالتحقق منها عبر المقارنة بينها، وبتمحيصها محتكما في ذلك للأحداث الموثقة من تاريخ المغرب. لقد تابعت مسيرة هذه العائلة، ساردا جوانب مختلفة من حياتها اليومية، مهنيا واجتماعيا، وخاصة حياة أبراهام ساسون، جدي من أبي الذي اشتغل خياطا لخمسة ملوك من الأسرة العلوية، وحياة خلفائه في القصر الملكي بالرباط، وهي مسيرة جد فريدة.» من الكتاب ص6/5 ألبير ساسون