أن تنصت إلى صوت أنثى، صاف مثل البلور، وهو يلقي قصائد شعرية بالأمازيغية، فإن ذلك يقودك إلى تمثل معنى الفرح الذي يحدثه مرور الغزلان والأيائل بين شعاب الجبال.. تراها تمر مزهوة بذاتها، متصالحة مع حفيف الشجر، ومع رائحة الزعتر الصاعدة من ضفاف الأودية.. تلك واحدة من لحظات المتعة، التي منحتها ليلة الإحتفاء باليوم العالمي للشعر في صيغته الأمازيغية، الأربعاء الماضي بالرباط، في ضيافة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بالمغرب. ورغم تجاور تجربة أجيال متعددة في تلك الأمسية، فإن الأثر النافذ كان من صوت الشعر القادم من درى الجبال المغربية. الأثر الذي يجعلك تدرك معنى تلك التوليفة السرية التي تهب للإنسية المغربية ألقها ومعنى وجودها. وحين يعود إليك في طريق رجوعك من الرباط، صوت الشاعرة الأمازيغية السوسية «صفية أولتلوات» (أي صفية ابنة تلوات، المنطقة الممتدة عند السلسلة الجبيلة المحيطة بجبل سيروا، في الطريق بين تيشكا وأمرزگان، بين مراكش ووارزازات وتالوين. والتي لها قصائد عدة في تسجيلات خاصة)، وقصائد الشاعر الريفي أحمد بن جيلالي، التي ربت أجيالا من أبناء الريف، في الشساعة الممتدة بين الناضور وزغنغان وجبل العروي ودبدو، على محبة الأرض والطير الحر وركوب الصعب.. ثم يأتي إليك خيلاء الشاعر الشعبي عمر بلمعطي، إبن زمور، في تلك الربى النائمة بين الأطلس المتوسط ومدن الخميسات وتيفلت، والتي تجعل الخاطر يستعيد بقوة صورة الراحل إدريس بنزكري إبن المنطقة الذي قليلا ما انتبه إلى شغفه الكبير بالشعر الأمازيغي الذي تربى عليه في منطقته المقاومة.. حين تستعيد، ذلك كله، تستشعر امتلاء عميقا بعنوان من عناوين «تامغربيت»، الذي يتعاضد مع صوت عيوط الشاوية ومع الحصبة العبدية، ومع إرث الحسانية، ومع الغناء الشعبي للمدن العتيقة بالمغرب (ملحون الرشيدية ومكناس وتارودانت.. وطرب آلة تطوان وفاس وسلا.. وقصائد الغرناطي في وجدة وبركان). كانت ليلة الإحتفال بالشعر الأمازيغي تلك، لحظة شفيفة حقا، لأنه لا شئ كان يعلو على القصيدة، وعلى صوت الشاعر، ذاك الذي حين يغني، فإنه إنما يغني لذاته أمام شساعة الكون. فكان أن منحنا ذلك كله، لحظة هائلة للصدق الفني. مثلما، أن حضور أصوات شعرية شابة جديدة (أحمد عصيد، وعلي يكن كمثال)، تكتب الشعر بذائقة أدبية جديدة، نحتتها المدن أكثر، وشدبتها المعارف الأدبية أكثر، قد منح لتلك الأمسية أن تقدم طبقا مثاليا لواقع الشعر الأمازيغي في المغرب اليوم، الذي هو واقع تتعايش، وتبدع، فيه أجيال متعددة المرجعيات، ومتباينة التجربة. وكانت اللحظة مواتية أيضا لقياس مسار تطور تلك القصيدة، التي لها تراكم ضخم في التجربة والعطاء، وكثير منها ظل شفويا تتناقل اليوم ندف منه من جيل إلى جيل. مثلما أن ذلك اللقاء، كان مناسبة لانتباه الجميع إلى ضرورة تدوين ذلك الموروث الشفوي الشعري، من خلال عمل منظم وعلمي، مؤهلة مؤسسة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية للقيام به. وضمن ذلك الموروث نجد ريبرتوارا كبيرا من الأصوات الشعرية النسائية، ذلك أن ذاكرة الأمازيغ تختزن عشرات الأسماء النسائية التي أبدعت قصائد خالدة. ولعل الميزة المجتمعية التي ميزت طبيعة التركيبة البشرية للأمازيغ المغاربة، هو الحضور الوازن للمرأة في كل مناحي الحياة (إذ، لا مجال لفكرة الحريم في تقاليدهم )، وضمنها الإبداع الشعري.