برحيله تكون الأغنية الفرنسية قد فقدت الكثير من بريقها في العالم.. ذلك، أن «جون فيرا» هو الهرم الوحيد الذي تبقى للشعر والغناء الفرنسيين، بصيغتهما الستينية الرائدة، التي كان فيها الفن منخرطا في قضايا الناس الجماعية. وكان الفنان منخرطا في الشأن السياسي بمعناه المباشر. «جون فيرا»، المنتمي لجيل الرواد الكبار للأغنية الفرنسية، من طينة «لوي فيري»، «جاك بريل»، «جورج براسان»، والذي حاز لسنوات لقب «مغني الشعب»، اختار في سنواته العشرين الأخيرة، أن ينعزل في قرية، في جبل عال، بالجنوب الفرنسي، وأن يظل هناك يراقب العالم في لامبالاة كاملة. ومن آخر خرجاته توجهه إلى باريس منذ سنتين لتسجيل آخر أغنياته التي تتغنى ب «الجبل». مثلما أن رحيله صبيحة الأحد الماضي، قد دفعت كل الصف السياسي الفرنسي، أن ينسى قلق «الإنتخابات الجهوية» التي بدأت تبشر بعودة قوية لليسار في فرنسا، كي يتوحد حول سيرته، وحول فداحة الخسران الذي يمثله رحيله. فلقد بادر الرئيس الفرنسي ساركوزي، وزعيمة الحزب الإشتراكي المعارض مارتين أوبري، إلى توجيه عزاء للفرنسيين كافة، لأن نجما كبيرا في سماء القيم الفرنسية النبيلة (غناء وسلوكا وموقفا) قد خبى وأفل. بل إن أوبري قد اعتبرت كل أغنية من أغانيه « نشيدا للمقاومة في فرنسا». فيما اعترف الرئيس ساركوزي، أن معنى هائلا للأغنية الفرنسية قد رحل، وانتهى برحيل «فيرا». اليوم، تستعيد فرنسا، وكل عشاق الفن الأصيل الذي أبدع بلغة موليير، الشجن الآسر الذي يسكن صوت المغني، وهو يغني عن القمر، أو عن جبل لا ينيخ، أو عن «ناس الأسفل»،، أولئك المقاومون في صمت من أجل الحرية والكرامة.. مثلما يستعيدون نصوصه عن الحبيبة التي تستطيع أن تنتظر عودته من موعد يتوهم أنه يصنع فيه التاريخ. ولا يخجل أن يتساءل: ما الذي تبقى لك أيها الفتى، بعد أن رحل الرفاق وما عادت الأنثى تنتظرك في رصيف المحطة؟!.. برحيله، حقيقة، تخسر الأغنية الفرنسية آخر ما تبقى لها من بريق العالمية، في صيغتها الجميلة التي نسجها فطاحلة كبار مثل لوي فيري، أو جاك بريل، أو إديث بياف، أو جورج موستاكي، أو براسان. فمع هذا الجيل اكتسبت الفرنسية كلغة معنى شاعريا كونيا، وجعلها مطلبا للكثيرين للفرح بالقيم النبيلة وبالحياة في معانيها السامية. ويكاد اليتم الآخذ بهذه الأغنية، يجعلها تدرك أن رحيل اسم مثل «جون فيرا»، هو مناسبة للسؤال والتأمل عميقا في منجز هذه الأغنية التي ربت أجيالا عبر بقاع العالم على محبة الإنساني في الإنسان وعلى تمجيد النبل في الفعل قبل القول. ولعل الراحل يقدم أنصع المثال على ذلك، كونه عاش طفولة قاسية وهو يرى والده يقاد للموت بسبب عنصري في زمن النازية، وأن من احتضنه آنذاك هم عمال الموانئ الذين آووه بعيدا عن أعين جيش فيشي بفرنسا. فكان أن أصبح رفيقا لسنوات للحزب الشيوعي الفرنسي، الذي لم يكن عضوا فيه قط، بقدر ما كان «مناضلا» على طريقته بالكلمة من أجل «الشعب»، بذلك المعنى الذي نحتته مبادئ الثورة الفرنسية. وحين كان المغني يغني، كانت الريح تنصت له بحنو، وكان الشجر يفرح بحفيف الكلمات، فيما كانت النسوة يتركن لخصلاتهن أن يلاعبها الفرح بأنوتثهن، مثلما تلاعب النسائم السنابل في حقل أخضر ممتد وبلا ضفاف. كان «جون فيرا» مبدع فرح في أعين الناس، وحين تبكيه فرنسا (التي خرجت يوم الثلاثاء بكاملها لوداعه الوداع الأخير)، فإنها تبكي جزء منها، غاب إلى الأبد ولن يعود قط بذات الألق وذات الرونق وذات التفاصيل الصاعدة في درى الجمال، مثلما يصعد طائر حر قمم الأعالي. وليس اعتباطا أن الرجل اختار الموت في قمة جبل، لأن النسور تنام هناك دوما نومتها الأبدية. وفي مكان ما، سوف تحلق روحه، فرحة هناك في ذلك الجنوب الفرنسي، مثلما يحلق النسر، الذي لا تبلده السفوح في مهاوي الحياة العابرة.. وفي سماء الخاطر، يأتي صوته الرخيم، الوئيد، الحزين، وهو يردد أغنيته الخالدة «ليل وغبش»، أو أغنيته الأخرى الفاتنة «جبل الجنوب»..