حين ولج إلى خشبة مسرح محمد الخامس، بذات الخجل الذي يصاحب كل نفس هنية، كان حفيف سعف نخيل الأهوار يتبعه، ووراءه يتلاحق صوت شاعر العراق الأول، بدر شاكر السياب، الحزين المتعب، بحشرجاته الآسرة، وهو يتغنى بالمطر في قصيدته الخالدة: « مطر، مطر، مطر / عيناك غابتا نخيل، ساعة السحر / أو شرفتان، راح ينأى عنهما القمر ..».. كان تاريخ بغداد، يسبقه، يغطيه ويجلله.. كان خيال زرياب، وإسحاق الموصلي، يجللان خطوه، ويكادان يمشيان معه بذات الخطو، تماما مثلما تمشي الفرس المطهمة، على ذات الأثر.. أو كما قال شاعر العراق الآخر (والعرب) ذلك الهائل الذي اسمه المتنبي، أنه « كثيرا ما يقع الحافر على الحافر ».. كانت قاعة المسرح ملأى عن آخرها، تحية وتقديرا لصوت شعري عراقي آخر، حديث ومعاصر، هو الشاعر سعدي يوسف، الذي كان الجميع ضيوفا لديه، من أجل مشاركته فرح منحه جائزة « الأرگانة » العالمية للشعر، التي يمنحها سنويا الآن، « بيت الشعر في المغرب ».. ورغم الهمس الذي كان يسري في القاعة الممتدة للمسرح، فإن الصمت أصبح سيدا، حين بدأت أنامل العازف تطلق فرحها عبر الوتر، وعادت آلة العود، لتكون تلك الآلة السحرية، التي تداوي الأفئذة. ( ألم يقل ذلك، الطبيب الفيلسوف، نزيل العراق مرة أخرى، إبن سينا، منذ أكثر من ألف عام؟! ).. في ليلة 24 أكتوبر 2009، كان مسرح محمد الخامس، فضاء للحظة فرح بالفن الرفيع، من خلال العزف الباذخ لفنان أصيل إسمه نصير شمة، ذات الشاب العراقي النبيل الذي نعرفه منذ عقدين من الزمن. كان ماء دجلة، العابر لبغداد، ينثر رداده على ماء أبي رقراق، العابر للرباط، وكان رذاذ موج الأطلسي، يرد التحية.. كان العازف يعزف، كما لو أنه يؤدي طقس صلاة، وكانت الأذن المغربية ( والعربية، لأن بين الحضور عدد واضح من أهل العراق المقيمين بالمغرب )، تصيخ السمع، كما لو أنها تتشرب أدعية.. ومع توالي مقطوعات العزف، كانت الآهات تكبر، وكان زفير الأنفس يتسارع، وكانت الصدور تطلق ما بداخلها من تشنج، وتعود إلى سيرتها البكر، صافية، طاهرة، راضية.. كانت الناس، تغمض عينيها، وتترك لأنين الوتر أن يحملها إلى ملكوت ما يبنيه من صور في الذاكرة.. كان العازف الماهر، يعرف كيف يلوي أثر الريح، كي يخرج منه معنى يصيبك عميقا بلوثة الفرح، بعدوى المعنى الجميل.. وحين خرج المتفرجون من بوابات مسرح محمد الخامس، كانوا آخرين لا يشبهون الذين دخلوا قبل ذلك بساعتين ونصف الساعة.. كانوا أكثر طراوة، وأصبح لشجر المدينة حفيف آخر في الخاطر، ولطوار الطرقات معنى يغري أكثر بالمشي.. حين عزف، نصير شمة، مقطوعة « بغداد »، كانت رائحة التراب الندية تطلع من بين الوتر.. كانت ذاكرة الألم، ذلك الذي يعلم السمو والإباء، تتهادى في كبرياء من يثق في خطوه فوق أديم الأرض.. وحين عزف مقطوعة خاصة مهداة إلى الشاعر العراقي المحتفى به سعدي يوسف، والتي أسماها « من دجلة إلى سعدي يوسف »، كنا نحس حوارا بين نهرين.. لأن الطبيعي أن الحوار هناك في بلاد الرافدين، يتم منذ أزل الوقت، بين نهري دجلة والفرات، لكن في تلك المقطوعة، كان الحوار يتم بأنين خاص، بين نهر دجلة ونهر سعدي يوسف ( فالشاعر الحق، النافذ أثر جمال نصوصه، نهر أيضا ).. وهو ذات الحوار، الذي تهادى في مقطوعة أخرى، عزفها الفنان الكبير، بعنوان « حوارية بين المتنبي وبدر شاكر السياب ».. حينها كان الوتر يعلو، وينزل، مثلما يعلو الموج وينزل الرذاذ، على وجه الأرض. وكانت الأذن الداخلية، تستطيع أن تتوهم أن كل صعود في رحلة العزف، هو صعود كبرياء المتنبي، ذلك الذي يعرفه « القرطاس والقلم »، وأن كل نزول هادئ، رقيق، وشفيف، هو نزول إلى طراوة قلب السياب، ذاك الذي يأتينا صوته الحزين، بين خشخشات تسجيلات إذاعة الكويت، وهو ينادي « جيكور » بلدته البعيدة عن سرير مرضه.. مثلما كان يأتينا، معه، صوت المغني الشعبي العراقي القديم، ذاك الذي كان يتغنى بمرور القطار في ليل الجنوب العراقي، بين نخيل الأهوار ( النخيل الذي أحرقته واشنطن إلى الأبد!! )، وهو يقول بصوت رخيم، ثقيل، يأخد وقته: « ياريل، ياريل، مرينا بيكم حمد/ في گطار الليل / سمعنا دگيگ گهوة / وشمينا ريحة هيل / يا ريل ياريل » ( الريل، هو القطار عند أهل العراق، وهو منحوت من الكلمة الإنجليزية RAIL، التي تعني القطار وتعني سكة الحديد أيضا ). حين عزف، نصير شمة، مقطوعة « لوركا » التي ألفها في غرناطة بإسبانيا، كانت رقصات الغجر تخرج من بين أنين الوتر. وكان صوت الشاعر القتيل، كما لو أنه يريد أن يصرخ بعروبة أندلسية غابرة.. وكما لو أن راقصة ما كانت ترقص بتخفي فوق خشبة المسرح، وكان يهبها العازف فرصة الحياة.. أما حين عزف مقطوعة عن المغرب، ذلك البلد الذي زاره طولا وعرضا، والذي خزن في عينه الداخلية معنى ما، وأثرا ما، تساءل الخاطر: لم لا يلتفت فنانونا لما انتبه إليه الرجل من أثر؟!.. لم لا يأخدون حياتهم، بالجدية اللازمة، تلك التي لا تعني الصرامة المفتعلة، ولا الإنغلاق المرضي المتوهم، بل تعنى الفرح بالحياة، وحسن نقل أثرها إلى الناس؟!.. كان الوتر وآلة العود، بين يدي نصير شمة، ينسجان حوارية بين جبال الأطلس العالية، وحيطان مراكش الحمر، وصومعة القرويين بفاس، وأبواب مكناسالعالية، ومداخل طنجة العتيقة، وسور تارودانت القديم، وزرقة حيطان شفشاون، وذاك الإمتداد اللانهائي للأزرق بين جبال الريف والمتوسط، وذاك الآخر الآسر في امتداد الشط الأطلسي من طنجة حتى شبه جزيرة الداخلة وما بعدها.. ليلة 24 أكتوبر 2009، بمسرح محمد الخامس، كان هناك فنان أصيل.. كان هناك فن راق.. كان هناك فرح صاف بكر بالحياة.. بورك الصانع والأثر.. وبوركت الرحم التي أنجبت ذلك الجمال الفني كله.. رحم الأرض من بغداد إلى الرباط..