محمد بنطلحة سليل سؤال شعري ظل يعمل في صمت. وجدت الأعباء المرجعية التي أنهكتْ تاريخا من الممارسة الشعرية بالمغرب، نفسها معه مُنقادة إلى حرفيات صامتة تستدعي علاقة أخرى بالمرجع. والذات الكاتبة لن تُوسِّع من مرجعها الثقافي إلا بغرض النهوض بأعباء سؤال شعري, هنا نقدم قراءة نقدية في تجربته الشعرية منذ بداية مغامرة الكتابة لديه، اختط محمد بنطلحة لاختلاف ممارسته النصية. حدسه الشعري كان أقوى من خيوط لحظة تاريخية، لم يخرج الشعر المغربي من شرنقتها إلا بالتماس التنظير. لكن هذا التنظير لم يكن مهيأ ليصبح سؤالا عاما، إلا أنه أتاح للشعر المغربي فرصة تأمل محتمله الحداثي، في ضوء علاقاته المعقدة بالذات واللغة والعالم والآخر، مُؤمِّنا للممارسة النصية إمكانية هدم ما يُسَوِّرُها من نماذج ومتعاليات. محمد بنطلحة سليل سؤال شعري ظل يعمل في صمت. الأعباء المرجعية التي أنهكتْ تاريخا من الممارسة الشعرية بالمغرب، وجدت نفسها معه مُنقادة إلى حرفيات صامتة تستدعي علاقة أخرى بالمرجع. والذات الكاتبة لن تُوسِّع من مرجعها الثقافي إلا بغرض النهوض بأعباء سؤال شعري استفاد من أفق التنظير للشعر العربي والمغربي، دون أن ينخرط في جماعته، ما دامت القصيدة تعرف كيف تختبر قلقَها في الممارسة النصية ذاتها. هذا الوضع الخاص جعلَ محمد بنطلحة يقف داخل / خارجِ حقبةٍ من الشعر المغربي، أتاح فيها الشاعر لجذوره قوة النفاذ، لاستشفاف نسوغٍ شعرية أخرى، تُؤمِن لقصيدته قوةَ اختلافها وحيوية حضورها. لقد وعتْ قصيدة محمد بنطلحة لحظتَها التاريخية كلحظة تحول وإبدال، فاستجمعتْ قوتَها لتلتقط عناصرِ محتملها الشعري، وهو يكابد الانفلاتَ من سطوة المرجع وسحر الالتزام. لذلك ربَحَ الشعر ما خسره المرجع من هواجس يمكنُ أن تجِدَ لذاتها جوابا في غير القصيدة. ربح الشعر هواجسَه الخاصة، ومن ضمنِها تحويل العلاقة بالمرجع لِتصبح خاضعة لسيادة الشعر ولخصوصية اللغة في خطابه. وضمن هذا التحويل، كانت الذاتُ، مُتبادلةً التفاعل مع التاريخ، بما فيه تاريخ الممارسة الشعرية العربية والعالمية، تبني تاريخها الشخصي، في كتابة حافظتْ على سؤالها الشعري منفتحا، حتى إنه لا جواب يهدئ من روعه. تبدتْ أول آثار تحويل العلاقة بالمرجع، في كثير من نصوص باكورة الشاعر «نشيد البجع». لم يعد الشعرُ يُسلِس الانقياد لرغبة التغيير، دون أن تُكابد الذات تمزقا في علاقتها باللغة والواقع. إن الانقياد السهل، الذي وسمَ تاريخا من الممارسة الشعرية بالمغرب أخلى مكانه، في كثير من الأحيان، لنتوء في الوعي استدعى عُمقا ميثولوجيا، أصبحتْ تُطل الذات من ممكنه على واقعها، فيما هي تنسج وشائجها الخاصة مع مراجع من حداثة الشعر المعاصر. في «نشيد البجع» تكابد الذات انبعاثا مُستَعصيا، سبقَ للشاعر العراقي بدر شاكر السياب أن كابده في «أنشودة المطر». مكابدة تخط، مغربيا، لسؤال تموزي أصبحَ له تاريخه في الشعر المعاصر، بعد أن وجه العلاقة بالواقع نحو المكان الأسطوري. بهذا المكان، تهيأ لقصيدة بنطلحة حملَ عبء زمنها من دون التفريط في زمن الشعر، فيما هي تلجُ فضاءَ الموت، الذي هيَّأ لها حياة شعرية وجدتْ في عناصر الطبيعة بعضَ ما يُؤمِّن كثافتها واستمرار تدفُّقِها. بعُنصر الماء بدأ تشكُّل المتخيل في تجربة بنطلحة. ولا تَخفَى الإيحاءات الحُلمِية التي توقظها عتبة العنوان، وهي تُسند استعاريا النشيدَ لطائر مائي هو طائر البجع. إنه تكثيف لخيال الماء، الذي يجعل للشعر أعماقَا وتجاويفَ وسطوحَا، يرتادها الشاعر كسابح يتطلَّع إلى تغيير مادية وجوده في اللغة وفي العالم. إنه الحلمُ الذي يفتَحُ لنداء الماء تجاويف في قصيدة «أنساغ» ليجعل الذات تُنشد: «فاحمليني أيتها الأمطار/ في ريح الجنوب/ قمرا أو زوبعة» (ص.8). إنه أيضا الحلم الذي يستبد بالذات كجوع أنطولوجي يدفعُها إلى خوض مغامرة الماء في قصيدة «خولة أو دوار البحر»، حيث يتمُّ التلفُّظ بضمير المتكلم المفرد: «تحت لواء جوعي أركب السفنَ المعدة للحرائق ليلتين. وأسأل البحَّار عن جهتي فيضربُ بالعصا الأمواج. يهبطُ في دمي الميناء. والغربان واقفة على رأسي/ لها ما فاض من كأسي/ ولي أن أنهرَ البجعَ المُسافر/ في خطى الأحباب/ أو أضع الزهور/ على شبابيك الصدى»(ص.48/49). إن المشهد مهيَّأ بكامله لاستقبال فعلٍ خارق. وضمنه، ينهض خيالُ الماء بإسناد دور البطل الأسطوري لِذات تختبر إرادة قُوَّتها وتُحوِّلُها فوق سطحه. إرادة قوة غير منفَصٍلة عن أفعال الحرق وضرب الأمواج والهبوط في الدم الشخصي، بما هي أفعال تموزية، تُكثِّف من إيقاع الذات الكاتبة فيما هي تكابِد حُلمَ الانبعاث. إن خيالَ الماء، في هذا المقطع من القصيدة، يجعل من طيور البجع مواجهةً للغربان، فيما يجعل من «البَحَّار» مُنجِزا لفعل أسطوري جسور، يُجسِّد القوى الروحية الهائلةَ التي تَسنُدُ الطبيعةَ البشرية. أكثر من صورة شعرية تنتشرُ في «نشيد البجع»، مُجسِّدةً ليقظة هذه الروح، وباعثة لحياة شعرية خصيبة في الثنايا. منها، هذه الصورة: «فشربتُ الريحَ هونا./ وتشهّيتُ مع الموتى قيامي» (ص.10)، التي تستأنف اللهجَ بفعل كبيرٍ وحُلمٍ مُعجز لا يقل عن الرغبة في القيامة. إنه النسغ الذي سرعان ما سيُغذي صوتا جماعيا مجهولا، قادما من لا مكان، ليسمَ التجربة، في مرحلة مبكرة من تاريخها، بتعدد في الأصوات: «أين راحوا؟ / قيل: أغفوا في قبور من لُجين./ قيل: ماتوا مرتين./ والذي أبقوه نسغٌ في حديقة/ ودمٌ يعرفُ للنسغ طريقه» (ص.11). ومرة أخرى، نكون أمام الموت والعبور والدم كدوال إيقاعية تكثف دلالية تموزية. ولا تكتفي الذاتُ الكاتبة ببناء هذه الدلالية انطلاقا من دوال خيال الماء، بل تنفتح على دوالٍ إيقاعية أخرى موصولة بخيال النار. وهنا نجد حفيفَ طيور ميثولوجية ترفد «نشيد البجع» بأصداء وثنية، ينحدرُ منها هذا الملفوظ:«مُشرئبا/ نحو ما في قبضة العنقاء من غيم/ وعشب/ ومحار»(ص.12). إن الدوال الإيقاعية، التي تُبنينُ هذا المطلع من قصيدة «مواويل العزاء»، شكَّلَتْ، بالفعل، نسغَ أنشودة السياب وأغاني أدونيس على لسان شخصيته المفهومية مهيار الدمشقي. ولا يتم هنا استدعاء الشرق فقط من خلال رمزيته التموزية، وإنما أيضا من خلال المكان المادي الذي يحتضنها. وهذا المقطع المكتوب بخط سميك، من قصيدة «آه يا بيروت»، يضيء هذا الأمر: «من تحت قوس النصر/ مرتْ عصافيرُ الحريق./ يا مرفأ الشام العتيق!/ مِن أين مرتْ عرباتُ خيل الروم؟ / فعند هذه التخومْ/ بكتْ عيون الصخر/ وبُحَّ صوتُ النهر./ لعلَّ طائر الفينقْ/ يخلعُ جبة الحريق»(ص.39). إنه مطلعٌ آخر، يحتفي بالمكان الشرقي، ويلهجُ بتعويذة شعرائه التموزيين، الذين خوّضوا في مياه ثقيلة، وسهروا على نيران وثنية، يستنهض الخيالُ الشعري ما يربض في أعماقها من طيور أسطورية، تجدد عهدَ الحياة على الأرض. هذه نماذجٌ تُفصِح بقوة، من داخل ممارسة نصية مختَرَقة بإيقاع الذات الكاتبة، عن ظلال نصِّها الغائب، الذي مكَن محمد بنطلحة من تدشين تجربة شعرية مختلفة، تعي منذ البداية، شروطَ الانفلات مِن سطوة السياق التاريخي، وتتجه نحو بناء علاقةٍ مغايرةٍ بالمرجع، يكون فيها الشعرُ مُؤَمِّنا لزمنه، ومنفتحا على زمنية ثقافية كبرى، دفعتِ الشعرَ نحو اختبار المكان الأسطوري والوثني. إن هذا المكان هو الذي حصّن تجربة بنطلحة مِن منزلَقٍ تبنَّى فيه الشعرُ المغربي سؤالا سياسيا، افترض علاقة ميكانيكية بين الأدب والواقع. ولعلّه المكانُ أيضا، الذي جعلَ قصيدة بنطلحة تستكشِفُ أرضَ الشعر مُكابِدة تمزُّقا في الوعي بالعلاقة باللغة، جعلَ منها واحدة من العتبات العليا للشعر المغربي السبعيني. إن ديوان «نشيد البجع» يطفح بدوال تموزية كالنهر والنخيل والمطر والعشب والمحار والريح والشجر والأقمار والمقبرة والرماد والخليج والميناء والسفر والفينق والعنقاء، والحريق، والعويل والموج والرمل والبعث والنبي... دوالٌ عرفتْ الذات كيف تبني بها ما يُكثِّف من إيقاعها الشخصي في الكتابة، على نحو جعلها لا تُبقي إلا على ظلال بعيدة مِن نص غائب لا يقوم الشعرُ بدونه. ولعلها الممارسة التي هيأتْ بنطلحة لأن يقف داخلَ / خارجِ الشعر المغربي، مُهيِّئا هذا الشعرَ لحداثة تبدأ بتغيير العلاقة بالمرجع وبالنظرية في آن واحد. ولعل ديوان «غيمة أو حجر»، يُكثف أكثر من هذا البعد المؤسس لحداثة شعرية مغايرة، تتلاشى فيها أكثر عناصر النص الغائب، الذي لم يعد يحظى بغير آثار مُبَدّدة، تجعل الشعرَ ينهضُ من رماده الخاص، لِيُطِلَّ على حاضره ومستقبله. إن قصائد ديوان «غيمة أو حجر»، تختبر مجهولها في اتجاهات متنوعة، لها البناء الملحمي الغنائي حينا، والبناء الشذْري الومضي أحيانا أخرى، دون أن نعدم وجودَ قصائد مشهدية لها كثافة العالم المرئي، المُصَعَّد بهواجس ميتافيزيقية. وفي كثير من الأحيان، نعثر على نصوص تتدثر بطبقات من الصمت، تجعل اللغة تختبر تمزقها في وظيفة الخلق أكثر من وظيفة التعبير. وبذلك لا تحتفظ القصيدة، في علاقتها بالمرجع، إلا بوشائج واهية، تحول التجربة الشعرية باتجاه تأمل ذاتها، واختبار قلقها داخل ممارستها النصية، فيما هي تقرأ مضاعفَها مُتَجَسِّدا في كتاب الوجود.