اليوم، لا أريد أن أكون البابا، غدا ربما، وسأعلق هذه العبارة مثل بقال شامت في الموظفين الصغار على كل الأبواب .. البابا لا يكتب الشعر.. أريد أن أستحق محنة الشاعر، إجازة من اللغة المباشرة، وأطمئن إلى قدرة الخيال على صناعة جزء من الحياة، هذه الحياة التي يمكنها أن تكون أكثر حياة، وهي تغلق عليها جناسها وطباقها، وتمتد على سرير طويل من البلاغة، شاعر يحلم بأن يكون شجرة، مثلا لنرى في ظلاله كينونات صيفية. ويردد ليت الفتى شجرة. شجرة يحرص على أن يغرسها في كتاب، بدلا عن سريته أو يوكل رسمها إلى فتاته الصغيرة. بأقلام غير مصابة بعي الألوان مثل ما يقع في السياسة عند تخلصها من النضال.. أريد أن أقف إلى جانب رئيس أمريكا، جون كينيدي وأردد معه، عندما تدفع السلطة الإنسان إلى العجرفة، يذكره الشعر بثراء الوجود، وعندما تفسده السلطة، والسلطة مفسدة قد تكون، فإن الشعر يطهره. لهذا أحسد الذين يوجدون اليوم في مراكش، بالقرب من ذواتهم وبعيدا عن نعاس الحواس؟ ربما، ولكن المؤكد أنه عندما نفقد حاسة الشعر يمكن أن نبيع أرواحنا للشيطان. لكي لا يدخل الشيطان إلى تفاصيلنا، نريد أن نخرج إلى النهار.. مدججين بالدواوين، مثل فرسان قادمين من مغنمة! الشعر أيضا مرضنا الكبير، داؤنا الذي يجعلنا نرى بعيون كثيرة، نعم عيون كثيرة: الظلال، الأصوات حيث الصمت، اللون حيث الليل، القبرات حيث السيوف، والحب حيث ...الحديد. . الخروج إلى النهار، من سديم بلا معنى إلى سديم بالكلمات، بصيغة واقعية لكي نعيش أحلام بيتاغور، أو نعيد تركيب بورتريه روبو لأبي تمام وروني شار، في غرفة للدردشة، بعيدا عن الأرض. غرفة بعيدة يملك مفاتيحها قاريء نهم ومتعدد الاستعارات..! لا تزعجه الوحدة أبدا، لكنه يشتاق دوما إلى أشباحه يوزعها على غرفه العديدة ويمتثل مثل راهب لما فيها من أصوات لا تسمع. سأرفع هذا الصدى اليوم إلى أعلى ما فيه: الجبل أو الدمى، وأرتكن إلى صداقة قديمة معهم كلهم، من أحمد بركات إلى البوجبيري، إلى بنطلحة، إلى مراد ونجمي.. وقتها نسعى إلى أن نحول الذكرى إلى قصيدة، وقتها لا يكون بوسع الشعر سوى أن يكون صداقة نائمة .. سأرفع الصدى عاليا قليلا إلى أن يكون موجة موجة غامضة هي ما يملكه الناس كفكرة عن جماعة المتحرشين باللغة وبالقمر ... وحتى بالحديد إلى أن يكون حدادا على ما مات فينا كجيل من قدرة على الحريق وعلى التشظي.. اللغة لا تنطق لذاتها إلا في الشعر.. فلا أعرف كلمة تحدث صوتا بدون الحاجة إلى أفواهنا مثل كلمة شعر. في الهواء، وفي القوانين غير المرئية للفيزياء، وفي المياه، وفي كلمة أحبك من فرط اليأس، في النظرة المغلقة إلى مقر العزلة، وفي خوخة شاعر الهايكو، تنطق اللغة بذاتها وتحدث صوتها، إنها المفاجأة الكبرى في يوم الشعر: اللغة لا تحتاجنا دائما لكي تكون قصيدة، اكتشاف رهيب لعله يعلم الكاتب أن يكون صغيرا أمام السماء، وأمام العاصفة وأمام قطرة ندى صغيرة على طرفي لسانها. ليكن صغيرا هذا العالم لكي يحمله جناح طائر، أو تحمله الريح إلى الليل الكبير لشاعر ينتظر فكرة.. بلا مقدمات وبلا موعد وبلا ساعة منبه! ليكسر هذا الشعر ما تبقي من طوطم لدينا وليخلق ما لم نره بعد... ليمحو الأنفاس التي نغطي بها مرآة العالم الأولى..