أعادت إلى جمهور القراء المغاربة والعرب، مبادرة مجلس الجالية المغربية، من خلال إصدار كتاب حول مدينة باريس، للراحل الكبير محمد باهي، جميل المصالحة مع الكتابة الصحفية، حين تكون بحبر أصيل، مثل الحبر الذي كان ينحت به الباهي مقالاته. لأنه، ما أن تبدأ في الأسطر الأولى للكتاب، حتى تكون قد دخلت إلى بحر من المعرفة، كان الراحل وحده مغربيا ومغاربيا وعربيا، الذي يعرف كيف يأخدك إليه بمحبة وشغف. ذلك، أن المعلومات تنتال متتالية، مثلما تبني الآلهة عوالم وجودها، منظومة، سلسة، متناهية الدقة، تقودك إلى الإيمان بالفكرة وبقوة المنجز الباهرة. حين كان الصديق والأخ مبارك بودرقة، يقدم ورقة تفصيلية عن الكتاب، بالمعرض الدولي للكتاب بالدارالبيضاء، كانت هامة محمد باهي تعود شامخة أمام الحضور النوعي الوازن الذي حضر ذلك اللقاء. كان الجميع يتتبع مشدوها، كيف أن الرجل لم يحز أية شهادة تعليمية رسمية، غير تلك الشهادة التي تشربها من الحياة ومن مدرسة عائلته الصغيرة ( عائلة العلم والشرف والإباء ) في شساعات بلاد شنقيط. ثم كيف انتقل إلى دكار واشتغل بالصحافة الإذاعية، ثم قاده موقف وطني أصيل منه بعد نفي الملك الوطني محمد الخامس، إلى أن يغادر تلك الإذاعة ويتجه رأسا صوب الفعل الميداني المغير للأوضاع، ضمن صفوف جيش التحرير المغربي، الذي أصبح فيه المكلف بالإعلام والتواصل. وهي المهمة التي ستعيده إلى قلب الإعلام المغربي، حين فاز في مباراة الإلتحاق بجريدة «العلم» محتلا الصف الأول ضمن المتبارين. ولأن الرجل شعلة فكر وشعلة موقف وشعلة كتابة، فقد اختير كي يرافق دخول أبطال جيش التحرير الجزائري إلى أرض الحرية في الشقيقة الجزائر سنة 1962، بقيادة بن بلة وبومدين، من ثخوم المغرب الشرقي صوب مغنية ووهران والعاصمة الجزائر. فكان الصحفي الوحيد في العالم الذي كان يقدم التفاصيل إلى العالم من خلال مقالاته وتغطياته، لأنه كان إلى جوار صناع الحدث في الجزائرالجديدة. الجزائر، التي سيدعوه رئيسها هواري بومدين في بداية السبعينات لوضع اليد معه، من أجل حلم جمهورية ما في المغرب، فكان أن انسل إلى باريس، ومنها كتب مقالته الشهيرة « إذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون»، فكان جوابا وطنيا مغربيا أصيلا منه. محمد باهي، الذي قدمت أيضا تفاصيل للعموم لأول مرة، حول مشروعه الإصلاحي للإعلام الإتحادي الذي قاده إلى الموت قبل وضعه على سكة التنفيذ، منحنا مجددا من خلال كتابه عن باريس، أن نفرح بالكتابة التي لا تفرط في جديتها مع نفسها. تلك الجدية، التي تمنحها ألق الديمومة، وتحولها إلى مرجع لا تجاوز عنه في دنيا الناس وفي ذاكرة الأيام. هناك في ذلك الكتاب مرة أخرى، يستيقظ باهي الكبير، ذلك الصحفي الباهر، الذي يجعلك تتتبع معه خيوط تكون مدينة، منذ صلصالها الأول حتى مقبرة كلابها ( تلك المقبرة التي كان يحرص أن يزورها ويقرأ على قبور كلابها قصائد ذي الرمة). فالصحفي هنا يأخذك إلى الأصل في تشكل تربة باريس، وكيف أنها نتاج صراع تاريخي بين ماء الجليد القادم من الشمال، وماء البحر المالح القادم من الشرق، وأنها أرض وجدت لتبقى، ولتعطي المعاني الباهرة في ذاكرة شعوب أروبا والعالم.. بمثل تلك الكتابة، لا يموت الرجال. ومحمد باهي حرمة ولد بابانا، نوع ناذر من رجال هذه البلاد.