مثلت قضية الوحدة الترابية، ومازالت، محددا هاما لسياسة المغرب الخارجية، حيث تضعها الدبلوماسية المغربية نصب أعينها في كل خطواتها على الواجهة الدولية، لهذا فهي أثرت على العديد من مواقفها تجاه القضايا الدولية، كما عكست مجموعة من تصرفاتها الخارجية، كما كّيف المغرب العديد من مواقفه وفق ما يتطلب استرجاعها، فقد أدت به أحيانا إلى التنوع في مواقفه تجاه قضية واحدة، كما وظفت من طرف بعض الدول -خاصة من طرف الدول الغربية- كورقة ضغط للتأثير على مواقفه. وقد حرص المغرب خلال السنوات الأخيرة على بلورة مقاربة جديدة في التعامل مع ملف صحرائه، سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى الخارجي، فقد أحدث الخطاب السامي الذي ألقاه العاهل المغربي محمد السادس في السادس من نونبر 2005 بمناسبة الذكرى الثلاثين للمسيرة الخضراء، اختراقا سياسيا ودبلوماسيا كبيرا في طريقة التعاطي مع قضية الصحراء في اتجاه إيجاد حل سلمي وعملي يؤدي إلى الطي النهائي لنزاع مرير فرض على المغرب خلال مسيرة استكمال وحدته الترابية، حين أعلن العاهل المغربي في خطابه إلى الأمة عن اعتزامه إجراء مشاورات حول إمكانية منح إقليم الصحراء حكما ذاتيا في ظل السيادة المغربية في محاولة لحل هذا النزاع. ومما لاشك فيه أن من الصور المرتبطة بالدبلوماسية وعبر تاريخها وكل مراحل تطورها أن المبعوث الدبلوماسي، الذي هو أداة الدبلوماسية في تحقيق غاياتها، يعتبر وجه البلد والمجتمع الذي أوفده ليمثله ويعبر عنه ويتحدث باسمه، ولذلك فإن خصائص هذا المبعوث بكل مكوناتها الشكلية والموضوعية ابتداء من مظهره وسلوكه وتصرفاته الضرورية وتعامله مع المجتمع الذي يعمل فيه حتى مستوى إدارته لعلاقات بلاده مع الدولة المعتمد لديها وما تطلبه هذا من حكمة وترو وثقافة وتكامل في شخصيته تساهم في تشكيل صورة البلد والمجتمع الذي يمثله المبعوث ويحكم بها عليه. وإذا كان الاهتمام بتأهيل الدبلوماسي المعاصر وتكوينه من الانشغالات والأولويات التي تعمل على بلوغه دبلوماسيات العالم بوضع قواعد وأسس صارمة للاختيار، كما تهتم بعملية التكوين والتدريب، فإن الأمر أصبح أشد إلحاحا بالنسبة للأجهزة الدبلوماسية للمملكة المغربية باعتبار تباين القضايا وتعقدها التي تتطلب وجود دبلوماسيين أكفاء، خاصة إذا تعلق الأمر بالوحدة الترابية وفي صلبها مقترح الحكم الذاتي. وفي هذا الإطار من المفترض أن يتحلى الدبلوماسي المغربي بمجموعة من الخصائص الشخصية والذاتية والموضوعية المتميزة وهو يؤدي وظيفته الدبلوماسية في إحدى البعثات لبلده، ومن المفروض فيه أن يبحث عن الآليات والوسائل الكفيلة بترجمة هذه الخصائص إلى أرض الواقع والتي من شأنها أن تصب في اتجاه تنفيذ أهداف سياسة بلده الخارجية، خاصة إذا كان من أهم مرامي هذه السياسة صيانة الوحدة الترابية للمملكة المغربية. أ - الإلمام الجيد بمضامين مبادرة الحكم الذاتي والتعريف بأهميتها يتحتم على الدبلوماسي المغربي الذي يقبل على المساهمة في إيصال مضامين مبادرة الحكم الذاتي إلى المسؤولين في الدولة المعتمد لديها، أن يكون هو أولا ملما ومستوعبا لهذه المضامين وعلى بينة بكل الإشكاليات التي تثيرها حتى لا يحرج أو يوضع في زاوية ضيقة حين يسأل عن ذلك، وبالتالي يضعف موقفه أمام الرأي العام. فعليه أن يعي أن المبادرة المغربية للحكم الذاتي لجهة الصحراء لا تختلف كثيرا عن اتفاق- الإطار لسنة 2001 الذي وافق عليه المغرب وعارضته الجزائر وجبهة البوليساريو، لأنه يساعد على إدماج الصحراء بسهولة ضمن المغرب، كما يتطلب منه، وهو يسوق هذا المقترح، أن يركز على الأهمية السياسية والأمنية والإنسانية التي توفرها هذه المبادرة والتي يمكن إجمالها في: 1 - دعم الاستقرار السياسي في منطقة المغرب العربي إن المبادرة المغربية للتفاوض من أجل حكم ذاتي في الأقاليم الصحراوية جاءت تجسيدا لسياسة المملكة المغربية في دعم الاستقرار السياسي على المستوى الإقليمي وذلك من خلال ترجيح التسوية السلمية للنزاع في الصحراء المغربية التزاما بميثاق الأممالمتحدة، وخاصة الفصل السادس منه الذي يدعو إلى فض المنازعات الدولية بالطرق السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدوليين عرضة للخطر، وتجسيدا لمبادئ ميثاق الأممالمتحدة وخاصة المادة (33 ) منه التي تحث على اللجوء إلى التفاوض كأول وسيلة من الوسائل السلمية لتسوية المنازعات الدولية، وتجسيدا للمبادئ العامة التي ينص عليها ميثاق هيئة الأممالمتحدة من خلال الالتزام بتوفير سلطة تشريعية منتخبة بكل حرية وسلطة تنفيذية بموافقة ساكنة الإقليم الصحراوي وسلطة قضائية تهتم بتطبيق القانون حتى يتسنى تسيير شؤونها في الإقليم. وإن الحل الذي يطرحه المغرب اليوم والمتمثل بإعطاء سكان الإقليم الصحراوي حكما ذاتيا موسعا مع صلاحيات واسعة في تدبير شؤونهم المحلية تحت السيادة المغربية، يمكن أن يشكل إذن أرضية جيدة لتسوية هذا النزاع المزمن وتجاوز سنوات العداء، فالمقترح المغربي يسمح للصحراويين الموجودين في مخيمات تندوف العودة إلى وطنهم و الانخراط في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وبالتالي إنهاء نزاع دام أكثر من ثلاثة عقود بدون حل، وترتبت عنه مآسي إنسانية كبيرة لا تزال فصولها مستمرة حتى يومنا هذا، ناهيك عن استنزاف ثروات شعوب هذه المنطقة. إن حل مشكلة الصحراء من خلال تطبيق الحكم الذاتي سيساهم بلا أدنى شك في بناء المغرب العربي الذي أضحى حاجة جيو-سياسية ستساعد دول المنطقة على التعامل بنجاعة أكبر مع تحديات العولمة والتطور المستمر في محيطنا الإقليمي وفي الجوار الأورو-متوسطي وكذا في الشرق الأوسط. وتفعيل هذا البناء هو شيء إيجابي للشراكة الأورو-متوسطية بما يتيحه من فرص للتعاون المتوازي والتبادل التجاري، كما أنه إنجاز حقيقي عن طريق خلق الاندماج في سوق عربية واعدة وسوق أورو-متوسطية أكثر توسعا وانفتاحا. وإن تحقيق هذا الاتحاد سيمكن منطقة المغرب العربي من إعادة التموقع على الخارطة السياسية والاقتصادية الدولية كقطب موحد، فعال ومؤثر يستطيع الدفاع عن مصالحه ورفع قدرته التفاوضية في التعامل مع التكتلات الأخرى ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية والمساهمة في تثبيت الأمن والاستقرار الدوليين. وإن غياب اتحاد المغرب العربي يضعف فرص استفادة المنطقة من التدفقات المالية الاستثمارية، ويحول دون انتقالها إلى منطقة جاذبة للرساميل وسوق مال صاعدة كما هي الحال في بعض التجمعات الاقتصادية الإقليمية في جنوب شرق آسيا. وإذا كانت المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة بين دول المغرب العربي تفرض توجها حاسما نحو تفعيل اتحادها، فإن العوامل الإقليمية والدولية تدفع بالاتجاه نفسه. فمشروع الاتحاد المتوسطي الذي أسست له قمة باريس في شهر يوليو الأخير لا يمكن أن يكلل بالنجاح من دون تعاون الدول المغاربية، نظرا لكونها تشكل الإمتداد الجنوبي للفضاء المتوسطي. كما أن الخطة الأمريكية الرامية إلى إقامة مركز قوة إفريقية لمواجهة ظاهرة الإرهاب والأخطار الناجمة عنها على طول منطقة الساحل والصحراء الكبرى تفرض بدورها تعاونا وتنسيقا بين الدول المغاربية. 2 - تجسيد حقيقي وواقعي لمبدأ حق تقرير المصير إن المتتبع للممارسة الواقعية لحق الشعوب في تقرير مصيرها عبر تاريخه سيلاحظ أن هذا الحق منح بداية للأمم أو الشعوب بمعنى الجماعات القومية التي أُجبرت على الخضوع لقوميات أخرى في مرحلة المد الاستعماري وترفض الخضوع وترغب بالحفاظ على هويتها وشخصيتها الوطنية أو استعادة استقلال كانت تتمتع به قبل أن تقع تحت الاحتلال. ولا يوجد ما يؤكد بأن حق تقرير المصير يعني الاستقلال أو الانفصال ،وفي جميع الحالات التي طبق فيها لا يوجد تطابق في الحالات بل كان يعود لكل امة اختيار نمط حياتها ومعيشتها وطريقة حكم نفسها بنفسها،فهناك شعوب اختارت الاستقلال التام وجماعات أخرى وجدت بالحكم الذاتي ضالتها ،بينما جماعات أخرى فضلت البقاء تحت سيادة الدولة المسيطرة، ولنا بما حدث في ايرلندا الشمالية أخيرا نموذجا، حيث اتفق الطرفان المتصارعان على تقاسم السلطة تحت التاج البريطاني. وعليه يمكن القول بأن حق تقرير المصير وجد كمبدأ ليمنح حرية الاختيار للشعب الذي يشكل أمة متميزة ويَخضع بالقهر لأمة أخرى ، أما القول بأن هناك شعبا صحراويا مُحتلة أرضه من حقه أن يقرر مصيره بغض النظر عن حسابات ومواقف الدول المجاورة أو التي يعيش بداخلها، فهو قول تعوزه الدقة، فلا يوجد شعب صحراوي بالمفهوم القانوني لكلمة شعب حتى يمكن أن نقول إن من حقه تقرير مصيره، إن ما يوجد هم مغاربة يسكنون الصحراء كما يوجد جزائريون يسكنون الصحراء الجزائرية، وهناك صحراء وسكان صحراء في كثير من دول العالم، فلا يعقل إذن أن نعطي لكل من سكنوا الصحراء أن يقرروا مصيرهم و يؤسسوا دولة خاصة بهم وإلا لتطلب الأمر إعادة النظر في الخريطة السياسية لكل دول العالم، بحيث يعاد تأسيسها مناخيا وتضاريسيا، لأنه لا تخلو دولة من سكان يقطنون الصحراء أو يسكنون الجبال أو السهول، وإذا ما منح الحق لسكان الصحراء بتأسيس دولة، فما الذي يمنع من أن يمنح نفس الحق لسكان الجبال وسكان السهول حتى أن جبهة البوليساريو لم تجد أي خصوصية تميز ما تسميه الشعب الصحراوي لتنسب إليها دولتها المنشودة فسمتها الجمهورية الصحراوية. كما يمكن اعتبار مقترح الحكم الذاتي الذي يطمح المغرب إلى تطبيقه في صحرائه تجسيدا حقيقيا لمبدأ حق تقرير المصير، فبمجرد التئام حوار بين الصحراويين حول هذا المقترح على مختلف مشاريعهم واتجاهاتهم وميولهم الفكرية والسياسية، يعني تمكين السكان المعنيين بحق الاختيار الديمقراطي من إسماع أصواتهم وانتقاداتهم ومطالبهم، وفي هذا الإطار يرى الباحث الدكتور عبد الله تركماني أن مقترح الحكم الذاتي الذي يقترحه المغرب يستجيب لتوجهين اثنين: اعتبار أنه في كل صراع دولي ليس هناك غالب واحد يمكن أن يأخذ كل شيئ، مهما كانت شرعية حقوقه، فهناك قاعدة لا غالب ولا مغلوب، وأن هذا الحل يعتبر أن القضية يمكن أن تحل على أساس انه لا إلحاق ولا انفصال، بل هناك وضعية خاصة تسمح للسكان بتدبير شؤونهم اليومية دون الارتقاء إلى شخصية دولية منفصلة. 3 - تحقيق الأمن الدولي يتفق الكثير من الدارسين أن أمن المنطقة الأورو-أطلنتية مرتبط بشكل كبير بأمن المغرب العربي، ولذلك فإن المجتمع الدولي وبتعاون مع دول شمال إفريقيا أولى اهتماماً خاصا لبذل جهود أكبر للحؤول دون بروز مناطق غير مراقبة أو ما يسمى ب« no man?s land » تشكل غالبا ملاذا آمنا للإرهابيين والمتطرفين. وهناك قناعة تتشكل يوما بعد يوم، بالنظر إلى الأحداث الإرهابية التي عرفتها المنطقة مؤخرا، أن المناطق التي تغيب عنها سيادة الدولة وغير المراقبة بشكل كاف خاصة على طول الساحل الصحراوي الممتد من شمال موريتانيا إلى شمال تشاد والذي يخترق جنوب الجزائر، يشكل مصدرا حقيقيا للقلق، وهو قلق يهم دول المغرب العربي وأوروبا وكذلك الولاياتالمتحدةالأمريكية. ولعل نزاع الصحراء يشكل بدوره مصدر عدم استقرار جيو-سياسي، وهو الأمر الذي يصب في صالح تنامي مختلف أنواع الفوضى وتنامي ظاهرة تهريب الأسلحة والمخدرات والبشر في منطقة الساحل والصحراء التي تحولت أيضا إلى ممر للهجرة غير الشرعية والتي يمكن أن تمتد تأثيراتها إلى الجوار الأوروبي-المتوسطي، خاصة وأن هذه المنطقة الشاسعة الأرجاء لم يعد بمقدور الحكومات المركزية أن تراقبها أو تبسط عليها سيطرتها الأمنية. والأكثر خطورة من ذلك، تشكيل قاعدة خلفية للإرهابيين في تنظيم القاعدة، حيث ما فتئت العديد من التقارير الدولية تتحدث عن ارتباط جبهة البوليساريو بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وتورطها في العديد من عمليات اختطاف الأجانب، ومن بين أبرز التقارير التي تحدثت عن وجود تنسيق بين البوليساريو وتنظيم القاعدة، تقرير صادر عن المركز الأوروبي للاستخبارات الإستراتيجية والأمن ببروكسيل، الذي اعتبر أن (جبهة البوليساريو) توجد حاليا في مرحلة متقدمة من التفكك تجعلها تشكل تهديدا جديا للاستقرار الإقليمي وأنها أصبحت إحدى خزانات التجنيد الرئيسية لمنظمة القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، كما أشار إلى أن غياب التعبئة وتأثر شريحة من البوليساريو بالفكر السلفي يصبان، في الواقع، في مصلحة منظمة من قبيل القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي التي لديها حاجة ماسة في تجنيد مقاتلين جدد. ويعزو التقرير علاقة التكامل بين «البوليساريو» وتنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» إلى حاجة هذه الأخيرة لامتدادات محلية وحاجة هذه الحركة الانفصالية للاستفادة من الدعم المالي والزخم الإيديولوجي، الذي تقدمه الجماعات الإسلامية المتطرفة. 4 - تجسيد للوحدة وضد التجزئة والبلقنة إن إعمال حق تقرير المصير في المنطقة العربية وداخل كل بلد عربي دون روية ستكون له أبعاد خطيرة، ليس لأنه يتناقض مع الفكر القومي الوحدوي والسعي للوحدة العربية والمغاربية ،بل لأن إعماله من طرف دول المنطقة وفي إطار المناكفات السياسية سيؤدي إلى الانقلاب على هذه الدول نفسها، لأنه سيشجع بعض الجماعات العرقية أو الدينية وبدعم خارجي على المطالبة بحق تقرير المصير ضد وحدة هذه الدول. من هنا، فإن أهمية مشروع المغرب للحكم الذاتي تكمن في كونه يجسد من جهة نموذجا جديدا و متطورا للحكامة الرشيدة، ومن جهة أخرى يمثل دعامة قوية ونموذجية للمدرسة الجديدة للقانون الدولي الذي يعمل جيل جديد من المتخصصين على إعادة قراءته وفقا لمتغيرات العالم، خاصة على ضوء نهاية الحرب الباردة، ودخول العالم في عولمة بنيوية من أهم خصائصها نبذ البلقنة ومشاريع الكيانات المنهارة على اعتبار الكيانات المنحلة و الفاشلة خطيرة على الانسجام الإقليمي وضارة بغنى الحضارات وتنوعها الثقافي. وقد أثبتت التجارب مع مرور الوقت أن الأقاليم التي عرفت تطبيق مبدأ تقرير المصير عن طريق الانفصال عن الدولة الأم كيف أصبحت ظروف عيشها أسوأ مما كان وعرفت انتشارا واسعا للفساد والعنف وانعدام الأمن، كما هو الحال في تيمور الشرقية بعد استقلالها عن إندونيسيا. ب - الانفتاح على المجتمع المدني في الدولة المعتمد لديها في عالمنا المعاصر أصبح من الواضح أن المجتمع المدني يلعب دورا كبيرا في التأثير في مواقف الدول والمساهمة في صناعة سياستها المحلية أو الخارجية، ولم يعد تأثير هيآت المجتمع المدني مقتصرا على الدولة المنتمية إليها، بل يمكن أن يتعدى حدودها ليصل هذا التأثير إلى دول أخرى، حيث أصبحنا نتحدث عن المجتمع المدني العابر للقوميات والمجتمع المدني العالمي. رغم الجهود الكبيرة التي بذلت بصدد قضية الصحراء المغربية التي تحقق بشأنها إجماع وطني انخرطت فيه كافة القوى السياسية، والنتائج المهمة التي تحققت في هذا الإطار، تميزت مقاربة هذا الملف في البداية بنوع من الانغلاق، حيث احتكرت وزارة الداخلية تدبيره بالشكل الذي أضفى على هذه المقاربة طابعا أمنيا حال دون مساهمة العديد من الفاعلين الرسميين وغير الرسميين في إغنائه وتفعيله، وقد بدا واضحا قصور هذه المقاربة في أواخر التسعينيات عندما تبين وجود عدة دول على الهامش اقتنعت بطروحات الخصوم وتجاوبت معها بشكل مثير. وبعد تولي المعارضة لعدة مناصب حكومية في أواخر التسعينيات في مرحلة أولى، واعتلاء الملك محمد السادس للحكم، بدا أن هناك حاجة ملحة لإحداث تغيير على السياسة الخارجية المغربية وبخاصة على مستوى تدبير هذا الملف الحساس، وهو ما تبلور على مستوى عدة واجهات، مع إشراك أكبر لوزارة الخارجية في تدبيره وتعيين سفير منسق لدى بعثة الأممالمتحدة في الصحراء (المينورسو). ودون مبالغة، يمكن القول إن تأثير الدبلوماسي المغربي في الرأي العام والمجتمع المدني بالخارج ضعيف جدا مقارنة مع ما حققه الانفصاليون بخصوص ملف الصحراء، ولفهم هذا لا مناص من الرجوع مثلا إلى تاريخ العلاقات المغربية الاسبانية، فلقد برزت طيلة عهد حكم فرانكو، ومنذ استعادة المغرب لسيادته سنة 1956، نظريتان تحكمان رؤية اسبانيا بخصوص المغرب تتناوبان على مواقع التأثير. النظرية الأولى التي تعاكس المغرب، ومن السهولة بمكان أن تقع في إغراء استثمار التحفظ، بل العداء الجزائري اتجاه المغرب، وبالتالي الوقوف بجانب الانفصاليين بدون قيد ولا شرط، والنظرية الثانية، تقوم على توطيد أجواء الثقة بين مدريد والرباط، وهي المتخلصة من هاجس استعمال الجزائر ضد المغرب. وإذا كانت النظرية الأخيرة (المساندة للمغرب) هي السائدة، إلى حد ما في الأوساط الحكومية الرسمية، فإن النظرية الأولى (المناهضة للمغرب) ما زالت مؤثرة في المجتمع المدني الاسباني، وهذا ما قام به الانفصاليون بدعوى من الجزائر. وبالتالي أصبح لوبي الانفصاليين نشيطا، كما أضحى قويا بشكل خطير، ولم يعد وجوده يقتصر على إسبانيا وإنما أصبح نشيطا جدا في مختلف أرجاء أوروبا وفي دول أخرى. ت - الاعتراف بدور الجالية المغربية بالخارج يعيش في الخارج أكثر من ثلاثة ملايين مغربي، أي قرابة عشرة في المائة من مجموع سكان المغرب الذي يتجاوز 35 مليون، ويوجد في أوروبا وحدها 85 من المائة من مغاربة الخارج. وإذا كان خصوم الصحراء المغربية والمناوئين لمقترح الحكم الذاتي قد تحركوا بفاعلية على مستوى الترويج للطروحات الانفصالية من خلال تجنيد قنوات هيئات المجتمع المدني في هذا الشأن، فإن المغرب وبفضل جالياته المتواجدة بمختلف دول العالم والمقتنعة والمؤمنة بشرعية قضية الصحراء- شأنها في ذلك شأن كل المغاربة- قادرة على الانخراط الإيجابي في دحض طروحات الخصوم والترويج للقضية من وجهة نظر المغرب، وهو ما يتطلب تنسيقا وتواصلا دائما بين هذه الجالية وبين البعثات الدبلوماسية والقنصلية المغربية في الخارج، كما أن الطفرة النوعية التي يعرفها المجتمع المدني المغربي بالخارج واحتكاكه بالجالية المغربية في كل انشغالاتها ومشاكلها بإمكانها المساهمة بشكل ملموس في هذا الاتجاه. ولضمان التفاعل الايجابي للجالية المغربية مع ما هو منتظر منها اتجاه القضايا الوطنية، على الدبلوماسي المغربي أن لا يحسس هذه الجالية أن دورها يقتصر فقط على استمرار تدفق تحويلاتها المالية وتحسنها كل سنة، والعمل من أجل ذلك على تحسين ظروف الاستقبال وقضاء العطلة فحسب، بل يتعين أن تفتح أمامهم آفاق جديدة وواسعة للانخراط الجدي والفعال في مسيرة التنمية الشاملة على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، خاصة إذا علمنا أن هذه الجالية تحوي جيلا من الشباب من ذوي الكفاءات العلمية والتقنية والسياسية وتحتل مراتب مهمة في مراكز صنع القرار في دول الاستقبال بفعل خبرتها ومهارتها. وبموازاة ذلك على صانع القرار الخارجي المغربي أن يستوعب حقيقة أن الجالية المغربية لا تتركز في دول أوربا فقط، ولعل من أخطر تداعيات هذا الاعتقاد فتح المجال للمعادين لسياسة المغرب في الصحراء من أجل تقديم معطيات مغلوطة ومزيفة للدول غير الأوروبية بالشكل الذي يجعلها تقتنع بطروحاتهم ومواقفهم من قضية المغرب الترابية. وإذا كان المغرب إدراكا منه لأهمية ودور الجالية المغربية في الخارج قد أحدث عدة مؤسسات خاصة ترعى مصالح هذه الجالية وتعالج انشغالاتها، ممثلة في الوزارة المنتدبة المكلفة بالجالية المغربية ومؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج ومجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج والمجلس العلمي المغربي لأوروبا، إلا أن أهداف هذه المؤسسات تبقى ذات طابع ثقافي وديني واجتماعي بعيدا عن الأهداف السياسية التي من شأنها أن تخدم المصالح السياسية الوطنية في غياب لأي تنسيق بين هذه المؤسسات لعدم وجود إطار قانوني يضمن ويؤسس للتعاون بينها. ومع ذلك، لا يمكن إغفال تحرك بعض جمعيات الجالية المغربية المتواجدة بالدول الأوروبية الرامي إلى دعم مشروع الحكم الذاتي بالصحراء في إطار سيادة المغرب ووحدته الترابية، وفي هذا الإطار نشير إلى المظاهرة التي نظمت خلال شهر نوفمبر من السنة الماضية بمشاركة المئات من المواطنين المغاربة المقيمين في إسبانيا بساحة الكاتدرائية الشهيرة في العاصمة الكاطالانية ببرشلونة، بحضور العديد من رؤساء الجمعيات الصحراوية في إسبانيا والجمعيات الكاطالانية من أصل مغربي وعدة منظمات المجتمع المدني. وتأتي هذه المظاهرة، التي دعت إليها الجمعيات الكاطالانية من أصل مغربي وجمعيات المغاربة في كاطالونيا، في إطار تعبئة المغاربة في إسبانيا استجابة إلى الخطاب التاريخي لصاحب الجلالة الملك محمد السادس بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء يوم 06 نوفمبر 2009 . وشهدت هذه المظاهرة، التي نظمت تحت شعار «نعم لنظام الحكم الذاتي في الصحراء المغربية». حضور المئات من المغاربة القادمين من مختلف المناطق الاسبانية بالإضافة إلى الصحراويين بالأقاليم الجنوبية للمملكة وفيدرالية الهيئات الثقافية الكاطالانية وجمعية المهاجرات بكاطالونيا. وفي نفس السياق دعا ممثلو عدد من جمعيات الجالية المغربية بالخارج، الذين شاركوا في الدورة الثالثة لمهرجان بوجدور، التي اختتمت خلال الأسبوع الأخير من شهر دجنبر 2009، إلى مزيد من التعبئة للتصدي لكل المخططات التي تستهدف وحدة المغرب الترابية. وأكدوا في «ميثاق بوجدور»، الذي أصدروه في ختام المهرجان، دعمهم لجهود الدولة المغربية في طرح حل واقعي ينهي مشكل الصحراء المفتعل، الذي دام لعقود بناء على تجاذبات إقليمية وحسابات إستراتيجية. كما عبروا، في هذا الميثاق عن انخراطهم في تعزيز التمثيل الدبلوماسي، وتفعيله بطرق احترافية، للتجاوب مع الحاجيات المتعددة للجيل الجديد من المهاجرين، داعين إلى «وضع إستراتيجية مشتركة بين الدبلوماسية الرسمية والمجتمع المدني، من أجل استغلال أمثل لإعلام الدول المضيفة، دفاعا عن قضايانا السياسية والاقتصادية والاجتماعية». وشدد الميثاق على ضرورة فتح قنوات للتواصل مع البلدان، التي يوجد بها عدد مهم من الجالية المغربية، للتعريف بمبادرة الحكم الذاتي وبالمؤهلات الاقتصادية، التي تزخر بها الأقاليم الجنوبية. كما لا ننسى تجمع مئات من المغاربة المقيمين في مختلف الدول الأوروبية، يوم الجمعة 20 دجنبر 2009، أمام مقر مجلس الاتحاد الأوروبي ببروكسيل، لتجديد التأكيد على مغربية الصحراء، والتنديد بالمناورات المدبرة لأعداء الوحدة الترابية. وخلال هذه التظاهرة، التي نظمت بدعوة من تجمع جمعيات المجتمع المدني في أوروبا، أدانت الجالية المغربية، وخصوصا ببلجيكا وهولندا وألمانيا وفرنسا، «بشدة» التصرفات المعادية للمغرب، والرامية إلى المس بالقيم المقدسة للمملكة، وتقويض مسلسل المفاوضات التي تجري برعاية الأممالمتحدة،، الذي يؤكد «جدية ومصداقية» المبادرة المغربية بخصوص الحكم الذاتي بالأقاليم الجنوبية للمملكة. ث - ابتكار وسائل وسبل التواصل الناجعة المؤثرة من البديهي أن عمل الدبلوماسي المغربي في الخارج ليس سفرة سياحية من أجل الاستجمام والترويح عن الذات والنفس وليس صفقة تجارية تتراكم فيها الدولارات كي تمتلئ بها الجيوب، بعيدا عن عيون فرق النزاهة والتفتيش، فالمغرب اليوم هو في أمس الحاجة إلى السفراء النشطاء الذين يتحركون في الليل والنهار من أجل ترسيخ وإبراز هوية الوطن في الخارج وتقريب وجهات النظر وتحسين العلاقات وتجميل الصورة والانتصار لمصالح الوطن بكل أشكالها وأبعادها، خاصة إذا كان محور هذه المصالح الوحدة الترابية. والدبلوماسي المغربي النشيط يجب أن يبتكر الوسائل والسبل التي تمكنه من التواصل مع كل القوى الفاعلة في الدولة الموفد لديها وأن يحسن اختيار أنجعها لإيصال أفكاره وتحقيق أهدافه ويوظف في ذلك الخبرات والكفاءات الأنسب، سواء من بلده أو الدول الأخرى. وتمثل وسائل الإعلام أخطر وأنجع الآليات التي يجب على الدبلوماسي المغربي التركيز عليها واستغلالها لبلوغ أجندته والترويج لمقترح الحكم الذاتي باختيار أشهر القنوات والإذاعات في الدول المعتمد لديها للظهور فيها والحديث عبرها والالتقاء بالمراسلين المعروفين، ولا تخلو الكثير من الدول من هذه الوسائل المتطورة خاصة في أوروبا وأمريكا. ومما لا شك فيه أن وسائل الإعلام تعد سلاحا يمكن استخدامه في زمن السلم والحرب على حد سواء، لما لهذه الوسائل، خاصة التلفزيون، من قدرات على تسليط الضوء على موضوع معين وجذب اهتمام جماهير عريضة، فهي قادرة أيضا على تشكيل المخزون المعرفي لهذا الجمهور وتكوين الصور الذهنية لديه عن قضية معينة أو شعب معين. والمتتبع لتاريخ الأزمات بين الدول يدرك أن لوسائل الإعلام دور بارز في وضع هذه الأزمات على جدول الأولويات السياسية للدول المعنية، بل والمساهمة الفاعلة في وضع الإطار الذي يقنع الأطراف المعنية بالأزمة بالدخول في مفاوضات مباشرة لحلها. فالدور الدبلوماسي لوسائل الإعلام هو دور لا يمكن إنكاره أو تجاهله، فنحن في زمن لم يعد في إمكان الدبلوماسيين تجاهل التلفزيون أو الابتعاد عن كاميراته وأضوائه ومراسليه وصوره التي بإمكانها التقاط أدق التفاصيل، كما أن عهد «الدبلوماسية السرية» والمفاوضات خلف الكواليس قد ولى، ودون مبالغة تعد حاليا دبلوماسية الإعلام من أحدث الأسلحة السياسية التي تستخدمها الدول خلال الأزمات للوصول إلى جماهير عريضة داخل دولة أخرى وبصورة شرعية لا تتنافى مع الأعراف والتقاليد المرعية في العمل الدبلوماسي، منطلقة من فرضية أن إقناع الرأي العام، والفعاليات الاجتماعية الأخرى، ستكون ذراعا ضاغطا على الحكومة للتخفيف من التوتر في علاقاتها مع الدولة الأخرى. * المراجع المعتمدة - السيد أمين شلبي، «بين الدبلوماسية القديمة والحديثة»، السياسة الدولية، العدد 140، مركز الأهرام، مصر، أبريل 2000 . - عبد العليم محمد، مفهوم الحكم الذاتي في القانون الدولي(دراسة مقارنة) لبعض الأنماط والمشكلات، مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، الأهرام، القاهرة، 1994 ص: 165 - إبراهيم أبراش، حق تقرير المصير بين القانون الدولي والممارسة السياسية: قضية الصحراء نموذجا، 2007/0530، الركن الأخضر www.grenc.com/show_article_main.cfm?id=719 - المصطفى الرزرازي، «الانفصال مفهوم شوفيني لا تتبناه إلا العقول العنصرية»، الاتحاد الاشتراكي، 23/12/09. - إدريس لكريني، « تطور السياسة الخارجية المغربية ازاء الصحراء المغربية»،مجلة التاريخ العربي، جمعية المؤرخين المغاربة، عدد 35 ، الرباط، صيف 2005 . باحث في العلاقات الدولية / الناظور