289 مسناً من الجنسين ، وجدوا أنفسهم، على حين غرة، عرضة للجحود من قبل فلذات الأكباد! بينهم أمهات وجدّات يحملن جروحا عميقة من العسير محو آثارها القوية في نفسيات منكسرة لدرجة يعجز القلم عن الإمساك بكل تفاصيلها... من بينهن (مي زاهية 85 سنة)، التي عاشت بفرنسا، لتستيقظ يوما، وتجد نفسها أمام بوابة مركز تيط مليل، بقرار من ابنيها، اللذين اختفيا عن الأنظار!! تختفي وراء جدران المؤسسة الاجتماعية دار الخير «بتيط مليل» قصص اجتماعية بطلاتها نساء كن في وقت قريب يقمن بتوفير لقمة العيش لأبنائهن، وبرعايتهن وتلبية كل ما يحتاجون إليه. لكن الزمن غدر بهن لتجدن أنفسهن في آخر المطاف داخل الخيرية دون أهل ، أو بالأحرى، دون معين يقدم لهن يد المساعدة. 289 مسناً بينهم أمهات وجدات تأوي دار الخير 289 مسناً، من بينهم أمهات وجدات تعرضن لإهمال / جحود قاس من طرف أبنائهن بعد أن رفض هؤلاء رعايتهن، إما بسبب إصابتهن بمرض مزمن أو عجز مادي أو إعاقة حركية مستديمة أو لظروف خاصة، هذه المؤسسة تتكفل بهن كليا ، وذلك عبر توفير مأوى قار لهن ينقذهن من حالة الضياع والتشرد، بعد أن تخلى عنهن أبناؤهن ورفض الأهل رعايتهن. مسنات تظهر على ملامحن علامات الأسى والحزن جراء تصرف لم يكن يعتقدن يوما أن أقرب الناس إليهن سيرميهن إلى المجهول! قصص عديدة وحزن واحد داخل الجناح 8 الذي يأوي حوالي 64 امرأة مسنة، تظهر المعاناة الحقيقية لهؤلاء الأمهات والجدات اللواتي يحاولن التغلب على قساوة التخلي عنهن في صمت مخيف، فوراء كل نزيلة قصة اجتماعية مؤثرة تدمع لها الأعين ويخفق لها القلب بحرقة، فهن يتحدثن عن مشاكلهن بمرارة كبيرة ويسترجعن تفاصيلها المؤلمة بصعوبة أكبر، ولاسيما عن «غدر الزمن» الذي ترك بصمته عالقة في أذهان ومخيلات معظمهن. تتوزع نزيلات هذا الجناح على تسع غرف، بالإضافة إلى غرفة خاصة بالأكل، كما يضم الجناح مساحة شاسعة بالوسط ليس بها سقف تجلس بها بعض النزيلات كل صباح لاستنشاق هواء نقي، في حين تفضل أخريات الجلوس قرب الباب تنتظر قدوم زائر ينسيهن، ولو للحظة ، همومهن. تعيش مجموعة كبيرة من مسنات هذا الجناح وضعاً صحياً صعباً، بفعل شيخوختهن، إذ تشتكين من أمراض الروماتيزم والسكري والضغط الدموي، أمراض القلب، العجز عن الحركة، الربو، فقدان السمع والبصر بصفة نهائية، بالإضافة الى الخلل العقلي بالنسبة لبعضهن، ناهيك عن الأمراض النفسية، بسبب بعدهن عن أفراد أسرهن. داخل الجناح تتناوب أربع سيدات على رعايتهن في فترات الليل والنهار، بالإضافة إلى المساعدة الاجتماعية التي تبذل كل ما في جهدها من أجل مساعدتهن على تجاوز آثار «الجروح» والخيبات التي واجهنها في حياتهن الماضية. وأنت تتجول بين الغرف، ترى نساء بأجساد رخوة ووجوه شاحبة، وأعين قد جفت من كثرة البكاء، يعانين الكبر والمرض، أغلبهن مستلقيات على أسرّتهن في أوضاع مختلفة. أمراض ، إعاقات ، جروح في الغرفة الثانية، توجد «مي زهرة» التي تبلغ من العمر 76 سنة ، تعاني من فقدان البصر والسمع وتقوس في العمود الفقري، بالإضافة الى إصابتها ب «خلل عقلي» مما يجعلها تصرخ أثناء الليل بدون مبرر. «مي زهرة» تعد من بين الحالات الصحية الصعبة التي تتطلب عناية خاصة جداً. وبالغرفة المجاورة تقيم « مباركة» التي تبلغ من العمر 36 سنة، تشكو من إعاقة حركية بيديها ورجليها. فهي لا تستطيع القيام بأي شيء، حتى الكلمات تجد صعوبة في نطقها، إذ تظل عاجزة عن البوح بما تشعر به. فقد تخلى عنها أهلها بسبب عجزهم عن رعايتها وتحمل نفقاتها المادية. إن «مي زهرة» و «مباركة» ما هما سوى نماذج تعكس الواقع المرير الذي قاد هؤلاء النساء إلى هذا الجناح. تآزر بين النزيلات أما بالغرف الأخرى، فيقل عدد المسنات من ذوي الحالات الصعبة، إذ يحتفظن بالحد الأدنى من قواهن العقلية والجسدية، فهن يعتمدن على أنفسهن في القيام بأغراضهن، إذ كانت إحدى النزيلات منهمكة في تحضير «الكسكس» بالقرب من سريرها، الذي تضع بجانبه بعض الأواني المنزلية والخضر، بالإضافة الى قنينة غاز صغيرة، أما صديقتها عزيزة فقد كانت منشغلة في «تقشير السردين» تقول: «إنني أفضل أن أقوم بتحضير كل ما أشتهيه بنفسي». بالإضافة الى الطبخ، تقوم عزيزة بإعادة خياطة الملابس للنزيلات دون أجر، لأنها تعلم أن حالتهن الاجتماعية ليست بأحسن حال من وضعيتها، إذ تشير إلى أن العيش داخل هذه المؤسسة أحسن بكثير من العيش بالشارع، مضيفة: «إنني كنت أشتغل بالمنازل، أنظف، أطبخ، لكن بعد أن فقدت صحتي وجدت نفسي أتسول وأنام بالشارع العام دون معين». كان من الصعب على عزيزة أن تتذكر اللحظة التي اقتادتها فيها إحدى دوريات دار الخير الى المؤسسة الاجتماعية، واستطردت قائلة: «لقد أصبحت أكره استرجاع الماضي». في السياق ذاته ، هناك بعض النساء يقمن بتقديم يد المساعدة للنزيلات اللواتي لا يستطعن مغادرة الفراش، كتغيير حفاظاتهن و غسل ملابسهن، بالإضافة إلى مساعدتهن على تناول الأكل. رغم المشاكل التي تعاني منها النزيلات، إلا أنهن يحاولن خلق جو عائلي بينهن من أجل تجاوز مختلف المعيقات. «مي الزاهية» .. من فرنسا إلى تيط مليل من بين المسنات اللواتي يتواجدن بالجناح 8، «مي الزاهية » التي تبلغ من العمر 85 سنة، فهي أم لولدين، التحقت بالمركز منذ ثلاث سنوات. لم تتمالك أعصابها وهي تتحدث عن ظروف ولوجها هذه المؤسسة، فبكت بحرقة وهي تسترجع الطريقة التي ألقيت بها أمام باب المؤسسة من طرف ابنيها. تقول «مي الزاهية»: «إنني كنت أعيش رفقة ولدي بفرنسا لمدة ثلاث سنوات، لكن بعد أن تزوج كل واحد منهما قرراً ، ودون سابق إنذار، أن يتركاني بالمغرب، وبالضبط بالخيرية، لأنني ليس لدي أقرباء هنا»، وتضيف بنبرة حزينة: «إن الذي يؤلمني كثيراً، هي الطريقة التي تخليا عني بها أمام باب المركز، فهما لم يكلفا نفسيهما عناء إدخالي والاطمئنان علي، بل اكتفيا برميي أمام الباب في حالة لا إنسانية كأنني لم أحملهما يوما في بطني »! تجهش «مي الزاهية» بالبكاء، حين تتذكر حجم المساعدات المادية والمعنوية التي قدمتها لابنيها لتضمن لهما حياة موفقة. وتجدر الإشارة إلى أن «مي الزاهية» انتقلت خلال شهر رمضان الماضي إلى بيت أحد المحسنين الذي كان يرغب في التكفل برعايتها، لكن بعد مرور 15 يوماً على تواجدها بمنزله رفقة أفراد أسرته، قررت العودة إلى المركز، لأنها لم تستطع العيش معهم، تقول: «إن العيش داخل المركز أحسن بكثير من العيش في أي مكان آخر» شاكرة أسرة المحسن على مبادرتها الإنسانية. من أجل إسعاد النزيلات تلعب فاطمة الزهراء سكري، المساعدة الاجتماعية دوراً مهماً في حياة مسنات الجناح 8، إذ تسخر وقتها وجهدها للعناية بهن، وتقدم لهن يد المساعدة رفقة أربع سيدات [رقية، حادة، حفيظة، سعدية]. فاطمة الزهراء تحاول كل يوم إيجاد أسلوب جديد للتعامل مع نساء ترك فيهن الزمن تغيرات جسدية ونفسية، فقد أضحت بمثابة الإبنة لهن، فهي تلبي جميع متطلباتهن، مثلا في مناسبة عاشوراء تقتني لهن الطعارج والبنادر من أجل الترفيه عنهن. تقول: «إنني أمنح كل وقتي لهؤلاء الأمهات اللواتي سخرهم الله لي كنعمة بالإضافة الى كوني لا أبخل عليهن بحناني وعطفي، علما بأنني أم لثلاثة أطفال». أشارت المساعدة الاجتماعية إلى أن من أصعب اللحظات التي تمر منها إلى جانب صديقاتها بالعمل، تلك التي يجدن أنفسهن فيها مجبرات ، بحكم عملهن، على البقاء إلى جانب مسنات يواجهن سكرات الموت، إذ يخففن عنهن آلامهن بوضع قطرات الماء في أفواههن وتنظيف أجسادهن وتجفيف العرق المتصبب من وجوههن وتلقينهن الشهادة. أما حفيظة أحولين ،التي تبلغ من العمر 53 سنة، فإنها تمارس هذه المهنة منذ 23 سنة، إذ أكسبتها سنوات قربها من المسنات قدرة على معرفة حاجياتهن التي تعمل على توفيرها لهن قدر المستطاع، من خلال الإطلاع على نقط ضعفهن فتحاول تفادي إحراجهن بها، كما أنها تتسلح بالصبر والقوة حينما تقوم بخدمة بعض النساء المصابات بشلل نصفي أو المعاقات حركياً وذهنياً، فهؤلاء النسوة يتطلبن رعاية خاصة جداً من حيث تغيير الحفاظات لهن ومساعدتهن على تناول الأكل. تقول: «إنني أنسى مشاكلي الاجتماعية حينما أكون بين المسنات، خاصة عندما أستمع لقصة كل واحدة منهن، وأتجاهل أنني مثقلة بالديون وأن حالي ليس أفضل من حالهن». وللإشارة، فإن حفيظة أرملة وأم لطفلين، تقطن بالمركز الاجتماعي التابع لدار الخير بمنطقة العنق تتكلف بجميع مصاريف المنزل. أما بخصوص «مي رقية» فهي تجتهد للتخفيف عن النزيلات، لكن بطريقة مختلفة، وذلك عبر تزيين أيادي المسنات ، مثلا ، بالحناء ، وتوزيع الكحل والسواك عليهن من أجل الزينة، بالإضافة الى أشياء أخرى. «فهذه الأمور البسيطة، حسب «مي رقية» ، تضفي نوعاً من الحميمية على علاقتنا مع النزيلات وتنسيهن معاناتهن، ولو للحظات »