حادثة السير الكبيرة التي تسببت فيها مدونة السير على الطريق من مجلس النواب إلى مجلس المستشارين تستدعي إجراء محضر معاينة للوقوف على ظاهرتين أساسيتين لا يمكن التغاضي عنهما، لما أحدثتاه من عاهة مستديمة في المجال السياسي والثقافي لمغرب العهد الجديد. أولى هاتين الظاهرتين هي كل هذه الشراسة التي تصدى بها المهنيون في القطاع لمشروع مدونة السير. وقد نسي هؤلاء المهنيون أن المدونة إنما تقنن المجال الطرقي، الذي هو مجال عملهم هم دون غيرهم. أما نحن عموم المواطنين فلا ندخل معهم هذا المجال إلا للاستغلال لوقت محدود وفي أمكنة محدودة، إنهم يقضون فيه نصف يومهم أو يزيد كثيرا. وبالتالي فإن الأولى بهؤلاء هو المطالبة باستصدار المزيد من البنود الحمائية لمجال عملهم من كل المتطفلين الذين يتربصون به، من السكارى إلى المتهورين إلى مجانين السرعة، وسماسرة الرشاوى واستغلال النفوذ واسترخاص الأرواح، وهلم جرا.. السير على الطرقات هو مورد رزق هؤلاء المهنيين، وبالتالي فهم عرضة أكثر من غيرهم لمخاطرها. وإذا كانت الذعائر مرتفعة والتنقيط مضرا فإن ذلك موجه إلى هؤلاء المجرمين مع سبق الإصرار الذين يقتحمون عليهم أماكن عملهم. أما المهني الذي من مصلحته أن يحترم قانون السير وأن يحترمه معه الوافدون على مكان عمله، فإنه في مأمن من هذه العقوبات المالية والجسدية التي جاءت بها المدونة ما دام محترما للقانون. بل من واجبه، كما من حقه، أن يفرض على الآخرين احترام قوانين مجال عمله؛ اللهم إن اختار عن سبق إصرار وترصد أن يجعل مكان عمله مجزرة حقيقية، والتي لا بد أنها ستؤدي به هو يوما، قبل غيره، عاجلا أو آجلا. ثاني الظاهرتين هي هذه الأحداث التي عرفها قطاع النقل الطرقي بالمغرب غب مناقشتها في المؤسسة التشريعية، وهي جديرة بالمدارسة السياسية والانتروبولوجية خاصة الإضرابات والإضطرابات التي أعلنت عنها بعض الهيئات النقابية والجمعوية، وتمكنت من خلالها من شل الحركة على الطرقات في مغرب النقل. من المعروف أن المغرب يعدد مركزياته النقابية على أصابع اليدين، وهي الأكثر تمثيلية. لكن من أين جاءت هذه الخمسين، نقابة وجمعية نقابية، أو يزيد قليلا، التي أطرت الإضرابات وشلت بكل هذه القوة حركة السير على المستوى الوطني؟ أحد أمرين وارد في هذا الباب، إما أن المركزيات النقابية، إذا كانت أكثر تمثيلية في قطاعات أخرى، فإنها في هذا المجال أبعد ما تكون عن ذلك، إلا من تمثيلية تمويهية عرى عليها عجز هذه المركزيات عن التحكم في منتسبيها إبان هذه الأزمة التي أثارتها مناقشة المدونة في المؤسسة التشريعية. وبالتالي من المسؤول عن تهريب هذا القطاع واعتباره شكلا جديدا لحملة السلاح الممنوعين أصلا من التنقيب.. وللناس في اقتصاد الريع مآرب أخرى.. وإما أن جهات أخرى كانت تؤمن هذا المجال بنوع آخر من التنقيب يتجاوز الطرح النقابي السائد في الساحة النقابية المغربية، وهذا أشبه ما يكون بالموجة الجديدة من التحزيب السياسي في المغرب الجديد، والتي جاءت بالبديل السياسي الذي يتجاوز كل ما هو قائم في البركة الآسنة للسوق السياسية المغربية.. إن ما وقع يدعو كل المعنيين إلى التأمل في خطورة خلق كيانات صورية لتمييع العمل النقابي حماية لحقول سياسية تعتبر ريعية بامتياز، ذلك أن هذه الكيانات يمكن أن تشكل تهديدا في أي وقت لمصالح من خلقوها، وما مثال الكيانات الدينية التي تم خلقها يوما بدافع حصر المد اليساري والتقدمي والحداثي ببعيد.