الطريقة التي تعامل بها التيار العام والغالب داخل الأوساط السياسية والديبلوماسية والإعلامية الإسبانية مع ملف الانفصالية أمينتو حيدر، على امتداد الأيام الماضية، تطرح سؤالا كبيرا وعميقا يتجاوز المعطيات الظرفية لهذا الملف وملابساته وتداعياته المباشرة. ويمكننا أن نصوغ هذا السؤال على الشكل التالي: هل تنطلق إسبانيا في تعاطيها السياسي والديبلوماسي مع القضايا المغربية من عقيدة أو مذهب استراتيجي بالمعنى المتعارف عليه لهذه المفاهيم في دنيا العلاقات الدولية، أي مجموعة من المبادئ والمرتكزات المرجعية التي تصنع، في تفاعلها، رؤية شاملة ومتكاملة، تتداخل في تحديد معالمها تقديرات موزونة لمصالح موضوعية، تقود عمل وسلوك وتفكير متخذي القرارات، أم أن هذا البلد الأوربي الجار القريب منا جغرافيا حد التماس، لا يفصل حدوده الجنوبية عن حدودنا الشمالية سوى بوغاز ترى ضفتاه بالعين المجردة، ينطلق، في كل خطوة يخطوها، وفي كل مبادرة يقدم عليها، حينما يتعلق الامر بقضايانا، من حساسية مفرطة، أو من خلفية هي أقرب الى العقدة منها إلى العقيدة الاستراتيجية؟ كيف يمكننا أن نفسر، بغير العقدة (وليس بالعقيدة الاستراتيجية) أن يحرك سلوك تافه لسيدة تسعى الى النجومية بأي ثمن، كل هذا اللغط السياسي والإعلامي على الضفة الأخرى من البوغاز؟ كيف يمكننا أن نفسر، بغير العقدة (وليس بالمذهب السياسي أو الجيوسياسي) أن تتم، على الضفة الأخرى من البوغاز، عملية تعبئة واسعة لنوع معين من القواميس، واستظهار نوع معين من المحفوظات الحقوقية دفاعا عن قضية خاسرة بكل مقاييس العقل والمنطق والقانون؟ تذكرنا مجريات الحملة الإعلامية والهيجان السياسي الذي شهدته الأوساط الإسبانية خلال الأسبوعين الماضيين في ارتباط مع ملف الانفصالية أميناتو، تذكرنا، من بعض الوجوه، بما عشناه من أجواء أثناء أزمة جزيرة ليلى حيث بدا وقتها، لأيام وأسابيع، كما لو أن الدولة الإسبانية لم يعد لها من مجال آخر لتصريف عقيدتها الاستراتيجية غير جارها الجنوبي، وحيث تبين وقتها كذلك أن الأمر كان يتعلق بتصريف عقدة أكثر مما كان تصريفا لعقيدة استراتيجية بالمعنى الذي يفهم به الدارسون والممارسون للعلاقات الدولية مفهوم العقيدة الاستراتيجية. يحار المتتبع في تفسير هذه العقدة الإسبانية أو استجلاء دلالاتها كلما تعلق الأمر بالتعاطي مع قضايا تهم المغرب: فهذا بلد أوربي استعاد مكانته في الفضاء الأوربي كاملة غير منقوصة بعد نهاية المرحلة الفرانكفونية، هذا بلد وسع من دائرة حضوره، ومسؤولياته في مختلف المنظمات الأوربية، والذي أصبح قوة متوسطة بمقياس العلاقات الدولية الراهنة، هذا بلد تؤهله إمكاناته الاقتصادية، ومعطياته الثقافية، في عالم يتجه الى تعدد الأقطاب، لأن يلعب دورا أساسيا ومتميزا، بحكم مكانته الرمزية في أفريكا اللاتينية ضمن البلاد الناطقة بالإسبانية، وفيها الآن قوى يحسب لها حسابها، هذا بلد، انفتحت أمامه إذن دوائر الفعل الدولي والنفوذ الدولي كقوة متوسطة تساهم مع غيرها من القوى المتوسطة في رسم توازنات جديدة للعلاقات الدولية في هذا المنعطف من الألفية الثالثة، يظل مشدودا بألف وثاق ووثاق لعقد ماضوية كلما تعلق الأمر بعلاقاته مع جاره الجنوبي. والى أن تترك العقدة، من جانب الإسبان مكانها للعقيدة الاستراتيجية، فإن العلاقات المغربية الاسبانية ستبقى محكومة بالانفعالات عوض الحسابات الموزونة. وإلى أن تتم هذه النقلة التطورية النعية، فإن الخطاب الإعلامي الإسباني مثلا، وهو نافذ ومؤثر على مستوى رسم توجهات السياسة الخارجية الإسبانية، سيظل مهووساً بتصريف التحريض عوض تصريف التنوير أو التثقيف السياسي الرصين، حينما يتعلق الأمر بقضايا يكون المغرب موضوعها أو طرفاً فيها. سيظل هذا الخطاب المراد له تكييف الرأي العام مهيكلا على الآخر بنزعة تحامل تذكرنا بكتابات ما كان يعرف بالمتخصصين، من كل نوع أكاديمي وصنف سياسي، في القضايا الافريقية AFRICA في بداية القرن العشرين، قبيل مؤتمر الجزيرة الخضراء. وهكذا مثلا، فإن من يطالع اليوم مقالات الرأي المواكبة لسلوك الانفصالية أمينتو، في أكبر الصحف الإسبانية مقروئية (إيل باييس، أب سي وإيلموندو، ) رغم الاختلاف الموجود في خطوطها التحريرية حينما يتعلق الأمر بكل القضايا الأخرى غير تلك التي تهم المغرب) أن من يطالع هذه الصحف لا يمكنه ألا يعثر على صدى ناطق بحقيقة ذلك اللاوعي السياسي والتاريخي لدى النخبة الإعلامية والسياسية الإسبانية، وكأن مائة سنة ونيف التي تفصلنا عن بداية القرن الماضي لم تجعل هذه النخبة تتعلم شيئاً أو تنسى شيئاً كلما تعلق الأمر بالتعامل أو التعاطي مع شؤون المغرب وقضاياه. تبقى الإشارة إلى أن إحدى الغرائب الكبرى لهذا التوجه، أن كل المتياسرين والمتطرفين الإسبان، الموجودين على الهامش في كل شيء، لا دور لهم ولا موقع داخل المؤسسات، ولا مكان لهم في تصريف أي وجه من وجوه السياسة الإسبانية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وفي مجال السياسة الخارجية إجمالا، هؤلاء المتياسرون والمتطرفون الباحثين عن التعبير المكرور عن نزعات إنسانوية زائفة ومتهالكة (في تندوف مثلا)، لا يجدون، في كل مرة، مجالا آخر لتصريف تلك النزعات إلا بخصوص قضايا أو موضوعات تهم المغرب بالذات، وهم، في كل مرة كذلك، يكتشفون نظرات وغمزات الرضى من طرف عدد من الدوائر الإسبانية الرسمية تشجعهم على المضي قدماً فيما يفعلون. يصعب أن نجادل على ضوء هذا، وعلى ضوء ما يطفو على السطح من ردود أفعال متشنجة كلما ظهرت بوادر خلاف أو مشاكل ولو صغيرة، أن عقدة وليس عقيدة استراتيجية هي ما يحكم السياسية الخارجية الإسبانية.تجاه المغرب وقضاياه. ومع ذلك، يبقى الأمل قائماً في أن مستقبل العلاقات المغربية الإسبانية قابل لأن يصاغ على أرضية أخرى غير عقد الماضي وأثقاله.