يكاد يكون كل حجر في طنجة أول الخيط لحكاية بلا ضفاف.. ويكاد الخطو، العارف هناك، أن يتردد في المسير كي لا يقلق أسطورة ما نائمة على الجنب.. فليس في طنجة مكان لم يعبره التاريخ، ويترك أثرا له فيه.. فقد عبرت الأسطورة الإغريقية هناك، وفوق ترابها تحاربت آلهتها، قبل أن يقف هرقل شامخا بانتصاره، ويسكن تلك المغارة التي لا تزال مزارا لكل الناس إلى اليوم. مثلما عبر الفينيقيون والقرطاجنيون والرومان والوندال وكل قوم ركب البحر بحثا عن المجهول.. إن ذاكرة الأمكنة في طنجة، هي من الغنى، ما يجعلها ريبرتوارا لمعنى تلاقح أرض المغرب مع العالم، بذلك الإمتداد اللانهائي لمعنى العالم، في شكليه الأفقي والعمودي ( بالمعنى الوظيفي والجمالي للأمر ). ولهذا السبب، فقد ظل الجميع يطلب ودها، ويسعى لحيازة أثر ظفائرها بين يديه، يفتلها بعشق وشغف ومحبة. وحين سينزل ذات يوم إزميل البحث في أركيولوجيا ترابها، لن تصعد فقط أركيولوجيا الآثار التي خلفها أبناء للحياة سابقون فيها، بل سوف تصعد أركيولوجيا معنى حياة أيضا.. ففي كل مرتفعاتها، من باب البحر، حتى الرميلات، ومن جبل الشرف إلى القصر الصغير، تحضن الأرض، بحنو من يخاف على كنزه من الضياع، على آثار متراكبة لحضارات عبرت تلك البلاد على مدى قرون وقرون. إنه رأسمال رمزي، مادي وثقافي هائل للمدينة، لم يلتفت إليه قط كما يجب حتى الآن. ويكاد إنهاض ذلك الكنز المدفون في ترابها، أن يهب للمدينة سلسلة من المواقع الأثرية ( من الميناء الإغريقي والفينيقي القديم باتجاه جبل الشرف، إلى فيلات القناصل الأروبيين والأمريكيين خلال القرون 17، 18 و 19 ، مرورا بقبر ابن بطوطة)، تسمح لها بإنهاض دورة كاملة من السياحة الثقافية، تعيد لطنجة مجدها العالمي، وتهب للبلاد بكاملها معنى كونيا في الحضارة.. فإذا كانت لوادي النيل أهراماته الخالدة، وللصين سورها العظيم، فإن للمغرب آثار طنجة المدفونة في التراب، التي تعكس قوة التفاعل المغربي مع العالم.. فالموانئ رحم البلاد التي تولد المصالح والمعاني والسلوكات والحضارة، بفضل التلاقح مع العالم. وطنجة ظلت رحما ولود للمعاني وللقيم وللسمو في ذاكرة الأيام المغربية. يستطيع الخاطر تصور مشروع وطني لإنهاض ذاكرة الأمكنة في طنجة، كمشروع لإنهاض عناوين حضارة. لكنه تصور سيبقى مجرد حلم، ما دام أن المدينة متروكة لحرب إسمنت مفتوحة، ولتجار المخدرات، ولمافيات الإنتخابات، التي لا يهمها غير العابر من الربح، أما ما ينفع الناس ويعلي من قيمة المكان في أعينهم ( والواهب للسمو في أعين العالم )، فإنه متروك للنسيان، تماما مثلما هي منسية ذاكرة الأمكنة في طنجة العالية.. العالية ليس فقط ب « سواريها»، ولكن أساسا بقصتها في التاريخ وفي الذاكرة.