يعد الطيب منشد من المناضلين الذين رافقوا العديد من قادة الاتحاد، واولهم الشهيد عمر بن جلون، الذي يكشف لنا الطيب عنه جوانب خفية، انسانية وسياسية ونقابية. كما أنه يعود بنا الى تفاصيل أخرى تمس الحياة النقابية في بلادنا وكل مخاضاتها، باعتباره شاهدا من الرعيل الأول، ومناضلا ومعاصرا للمخاضات التي عرفتها الساحة الاجتماعية. هناك اشياء كثيرة أخرى، ومواقف عديدة تكشفها ذاكرة الطيب لأول مرة.. كان السي عبد الرحيم يتابع ما يجري في الساحة النقابية من خلال الاتصالات الفردية به دون أن يتجاوز ذلك حد التشاور والنصائح، وإذا كانت الاتصالات به تتم فرديا، فإنه في بعض المرات يطلب الاجتماع بكل الاتحاديين في المكتب الوطني في النقابة، كما حدث خلال فترة المفاوضات السالفة الذكر، وكما سيحدث خلال فترة التحضير لإضراب 10 - 11 أبريل 1979. لكن حدث بالصدفة، أن مرحلة من مراحل التصعيد بين نقابة التعليم والحكومة، لم يعلم بها السي عبد الرحيم عن طريقنا وإنما علم بها عن طريق الملك الراحل الحسن الثاني في أحد لقاءاتهما رحمهما الله، ويتعلق الأمر بالإضراب السابق لإضراب 10 - 11 أبريل، حيث أعلنت النقابة خوضه لمدة 72 ساعة، وكالعادة فإنه ما بين الإعلان والتنفيذ أكثر من 15 يوما، استدعي المكتب الوطني على إثر ذلك من طرف وزير التربية الوطنية السي عز الدين العراقي، وكان اللقاء قصيرا جدا حيث قال الوزير خلاله: إنه لا يملك شيئا يقدمه للنقابة، لكنه يطلب منها أن تلغي الإضراب، وفي مقابل ذلك سيرفع هو الملف الى جلالة الملك، كان ردنا «صراعنا مع الحكومة وليس مع جلالة الملك. فهذه الأخيرة هي من تتجاهل نضالاتنا على امتداد 3 سنوات الماضية، وإذا أراد السيد الوزير عرض الملف على أنظار جلالة الملك فهو أمر يهمه»، وانتهى الاجتماع. أصدرت النقابة على إثره بلاغا تؤكد فيه الدعوة الى تنفيذ الاضراب في موعده المعلن، كان ذلك بداية الاسبوع، وفي نهايته أي يوم السبت، توصل المرحوم عبد الرحمان الشناف الكاتب العام للنقابة الوطنية للتعليم باتصال شفوي من ولاية الدارالبيضاء يستدعي النقابة لحضور لقاء بوزارة التربية الوطنية يوم السبت الساعة الخامسة مساء. كان هاتف النقابة مقطوعا وهواتف كل أعضاء المكتب الوطني مقطوعة، تم الاتصال بي من طرف الأخ شناف، من أجل التأكد من صحة خبر اللقاء. اتصلت بوزارة التعليم فلم أجد أحدا، اتصلت بالسيد الوزير بمنزله فأكد لي أنه لا علم له بأي لقاء، كانت الساعة الثانية والنصف، سلمته رقما هاتفيا ليتصل بي إن اقتضى الأمر ذلك. في الساعة الرابعة، اتصل السيد الوزير يؤكد خبر اللقاء الذي سيحضره الى جانبه السيد وزير الدولة في الداخلية. طلبت منه تأجيل اللقاء الى الساعة السادسة بدل الخامسة. أخبرت المكتب الوطني حيث تشكل وفد لحضور هذا اللقاء يتكون من: عبد الرحمان شناف رحمه الله، الكبير البزاوي، محمد جوهر والطيب منشد، كان هناك تساؤل مطروح بيننا، هل الامر يتعلق بمفاوضات أم باعتقال؟ في انتظار وصول الاخوة من الدارالبيضاء، أعدت النظر في إعادة ترتيب أولويات الملف المطلبي لعرضها على الإخوان بعد وصولهم استعدادا للحوار إن كان. توجهنا الى مقر وزارة التربية الوطنية في الساعة السادسة، يراقبنا من بعيد الإخوان أعضاء المكتب المحلي بالرباط، بعد دخولنا كنا أمام مفارقتين: الاولى ان وزارة التربية تحولت الى ما يشبه ثكنة عسكرية، حيث العديد من رجال الامن باللباسين (المدني والعسكري) والوزير ومساعده «عبد الحفيظ بنهاشم» يشرفان على تركيب العديد من الآليات، فاستغربنا لماذا؟ وما المناسبة؟ والمفارقة الثانية ان السيد وزير التربية الوطنية يجلس في مكتبه مرتديا البيجاما وفوقها جلابة ومعه مدير مركز تكوين المفتشين آنذاك، السيد اليوسفي. دخلنا مكتب الوزير والذي أخبرنا على الفور أنه ليس لديه أي شيء جديد يزيد عما قاله لنا خلال اللقاء السابق منذ أربعة أيام، وجلسنا ينظر بعضنا الى البعض في انتظار دخول وزير الدولة في الداخلية الذي كان منهمكا في أشياء أخرى داخل الوزارة، حوالي الساعة السابعة التحق بنا وزير الداخلية والسيد عبد الحفيظ بنهاشم حيث خاطبه وزير التربية الوطنية قائلا: «أنا استقبلت هؤلاء النقابيين وقلت لهم، لا أملك شيئا أقدمه لكم، لكنني أطلب منكم إلغاء الاضراب، وسوف أعرض الملف على أنظار جلالة الملك، وأنا الآن، أؤكد لهم ذلك أمامك، أجابه الوزير الآخر أنا عندي ما أعطيهم بتعليمات من جلالة الملك، وطلب منا البدء باستعراض المطالب. شرعت في استعراض المطالب وشرحها، مبتدئا بالمطالبة بالسلم 8 للمعلمين في الابتدائي الذي كان يعتبر في تلك المرحلة حلما بعيد المنال، قاطعني وزير الداخلية بالقول ان هذا (السلوم) مطلب مهم، نحن متفقون عليه. استعرضت أكثر من أربعة مطالب عامة تهم كل مكونات القطاع، بما فيها التعاضدية العامة للتربية الوطنية، في كل مطلب كان الوزير يعلن موافقة الحكومة على ذلك. النقطة الخامسة كانت تتعلق بالأجور، حيث أجاب الوزير، لا يمكن أن نناقش أجور التعليم بمعزل عن أجور باقي الموظفين قلت نناقشها تحت عنوان «الرفع من تعويضات رجال التعليم» قال الوزير ذلك نعم، لكن أقترح عليكم ما يلي: بالنسبة للمطالب التي أعلنت موافقة الحكومة عليها، أنا مستعد للتوقيع معكم باسم الحكومة على بلاغ صيغوه كما شئتم هذه الليلة. وفي ما يتعلق بالتعويضات يوم الثلاثاء المقبل وهو موعد البدء في تنفيذ الاضراب، أنتم تلغون هذا الإضراب ونحن نلتزم بأن نتبدئ في نفس اليوم حوارا، تحضره الى جانبنا وزارة المالية والوظيفة العمومية بالإضافة الى النقابة المعلنة عن الاضراب وحدها للاتفاق على الرفع من تعويضات رجال التعليم. وحيث أنني كنت لحد الآن المتكلم الوحيد من الوفد وأن المرحوم عبد الرحمان شناف كان بعيدا عني، فقد كتبت ورقة أطلب منه اقتراح رفع الجلسة، سلمتها للأخ جوهر ليعطيها للأخ الكاتب العام، وفعلا طلب تأجيل الجلسة. اختلينا نحن الاربعة، قلت نحن أمام عرض مضمونه إيجابي مع عدم جزمي هل هو حقيقي أم مجرد مناورة، لكنني أقترح الدخول في تفاصيل الاتفاق. كان رد أحد الاخوان أن هذا العرض عبارة عن مناورة تستهدف نسف النقابة من الداخل، ودون أن يتدخل أحد آخر، رجعنا ليعلن الاخ شناف ان هذه المقترحات المقدمة، يجب أن يؤكدها السيد وزير التربية الوطنية. هذا الاخير أجاب بوضوح تام أنه لا علم له بأي شيء وبالتالي هو متمسك بإلغاء الاضراب، وهو سيعرض الملف على أنظار جلالة الملك. وبدأ الاجتماع يأخذ طابعا آخر بالتدريج، كان وزير الداخلية في البداية يحاول إقناع الوفد بالموافقة وان هناك إمكانية لحل هذا النزاع بين الحكومة والنقابة والذي طال أمده، بينما كان خطابنا يؤكد على ضرورة تحمل وزير التربية الوطنية لمسؤوليته. الساعة التاسعة والنصف ليلا ستحمل لنا الجواب عن التجهيزات التي كانت تقام بالوزارة، حيث ان الجنرال الدليمي سيتصل بوزير الداخلية، ويقرأ عليه بلاغا صادرا عن القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية حول أحداث خطيرة وقعت بمناطقنا المسترجعة، قصد إبداء الرأي في البلاغ قبل صدوره، هذه الأحداث التي ذهب ضحيتها تلاميذ بعض المدارس. بعد الاستماع لهذا البلاغ، رجعنا للمناقشة من جديد، وبدأت لغة الحوار في التصاعد، وصلت حد اتهام الوزير للنقابة، متسائلا عن السر في تزامن الهجوم على مؤسسات تعليمية وإعلان النقابة الإضراب في نفس الآن. أكدنا حرصنا ككل مكونات الشعب المغربي على الوحدة الترابية واستعدادنا للدفاع عنها، وأن شغيلة التعليم ليست في حاجة الى من يعلمها الوطنية. هنا أجاب الوزير أن الوطنية ليست بلاغاً يصدر بجريدة «المحرر». قلنا له إن كانت لك حسابات مع أصحاب المحرر فأنت تعرفهم، هنا نقابة لها ملف مطلبي، ولها قواعد تناضل من أجل ذلك. قال الوزير ان هذا الكلام لا يقال لمثله ، أي هناك نقابة وهناك حزب، فهو يعرف أن الحزب هو النقابة، والنقابة هي الحزب، استمر هذا النقاش المتوتر لغاية منتصف الليل، حيث أوقفه الوزير وهو يقول: «أعلم أنكم ستؤولون كلامي بما شئتم، لكنه الحقيقة التي أحسها وأشعر بها، أنا أتمنى لو كان لي جهاز مثل جهاز (CNE النقابة الوطنية للتعليم) نفذوا إضرابكم المعلن، فهذا حقكم، لكنني أعلم كذلك، أنكم إذا كنتم أنتم حريصين على تنفيذ الإضراب في أجواء روح المسؤولية، فإن من بينكم من يعمل على حرق (النوايل)، إذا نفذ الإضراب داخل المدارس، فكل شيء سينتهي بسلام، كما انتهت الإضرابات السابقة، أما الخروج الى الشارع، فسنتصدى له بقوة، وانتهى الاجتماع. أتذكر بعد خروجنا من باب الوزارة أن السيد عبد الحفيظ بنهاشم جاءني وقال: «أنا قصدتك باعتبارك اتحادياً أكثر منه نقابياً، الفرصة التي أضعتموها اليوم ستتضررون منها نقابة وحزباً، والفرصة لم تضع بعد، فنحن سنقضي الليل بالوزارة، وإذا شئتم الاتصال بنا، فنحن رهن الإشارة، أما رفض وزير التربية الوطنية يقول السيد بنهاشم فهو مبرر، لأن نقابة الوزير ستكون مبعدة من حوار الثلاثاء المقبل. نفذ الإضراب إذن، ونفذ في أجواء تكاد تكون عادية، لكن أجواء الحوار المشار إليه سابقاً ظلت حاضرة كعنصر من عناصر تأزيم الوضع الاجتماعي. في ظل هذه الظروف، سيعلن عن إضراب 11/10 أبريل 79 وقبل اتخاذ القرار من طرف المجلس الوطني تجمعت لدى المكتب الوطني للنقابة الوطنية للتعليم عدة مؤشرات تفيد أن هذا الإضراب سيواجه بقمع شرس، كإنذار موجه للبديل النقابي المعلن عنه في نونبر 78 من خلال ضرب أهم مكونات ذلك البديل. كلفت من طرف الاتحاديين في المكتب الوطني بإحاطة الكاتب الأول للحزب بما نحن مقبلون عليه في النقابة، لكن السي عبد الرحيم، والذي كان يتوفر على نفس المعطيات التي تشير إلى قمع محتمل لشغيلة التعليم، ومن بين تلك المعطيات، التعديل الحكومي الذي ذهب بحكومة السيد أحمد عصمان التي رفضت الانخراط في هذا المسلسل القمعي وجاء بحكومة المرحوم المعطي بوعبيد، لكن السي عبد الرحيم طلب أن يلتقي بكل اتحاديي النقابة الوطنية للتعليم. وقد تم ذلك في اجتماع لاحق، وبعد الاستماع لعرض قدمه المرحوم عبد الرحمان الشناف، حرص المرحوم السي عبد الرحيم على أن يستمع الى رأي كل الإخوان، وأتذكر هنا أن الجميع تدخل باستثناء الأخ محمد جوهر الذي فاجأه السي عبد الرحيم قائلا: لم أسمع رأيك يا جوهر، فأجابه أنا اتفق مع ما قيل من طرف الإخوة، قال عبد الرحيم: أريد أن أسمع منك التعبير عن هذا الاتفاق. وقد تدخل الأخ جوهر في نفس الإطار الذي عبر عنه الجميع. أكد بعد ذلك السي عبد الرحيم أن الإضراب سيواجه بالقمع، ومادامت إرادة الشغيلة التعليمية هي خوض الكفاح دفاعاً عن مطالبنا، كيفما كانت الظروف، فإن الاتحاديين كانوا مسؤولين أو مناضلين في النقابة، وجب أن يكونوا في الطليعة، أما الحزب يقول السي عبد الرحيم فسيتحمل مسؤوليته في مواجهة كل الاجراءات التي تحاول التضييق على العمل النقابي أو الحد من نشاطه. وآخر كلمة خلال هذا الاجتماع قالها المرحوم عبد الرحمان شناف « إننا سنطلب من المجلس الوطني أن تكون مدة الإضراب هذه المرة 48 ساعة بدل 72 ساعة التي مارسناها خلال المرات السابقة». وبعد اجتماعه مع الاتحاديين في المكتب الوطني، اجتمع السي عبد الرحيم مع الفريق النيابي الاتحادي بمجلس النواب. لم أحضر هذا اللقاء، لكن الذي حكى لي عنه الأخ أحمد بنجلون شفاه الله، والذي كان يشتغل آنذاك مع الفريق. قال الأخ أحمد ما معناه لقد خاطب السي عبد الرحيم أعضاء الفريق قائلا: زارني الاتحاديون بالمكتب الوطني للنقابة الوطنية للتعليم، حيث أخبروني أن قطاع التعليم مقبل على خوض إضراب دفاعاً عن حقوقهم، هذا الإضراب الذي تشير كل المؤشرات الى أنه سيواجه بقمع شرس، لذلك عليكم كنواب أن تتجندوا للدفاع عن الحريات النقابية وعن حماية الحقوق. تدخل أحد أعضاء الفريق قائلا (يردف الأخ أحمد بنجلون) إذا كان الإضراب سيواجه بالقمع، فلماذا لا يتأجل؟ فأجابه السي عبد الرحيم ليس من حقكم أن تقرروا في محل الشغيلة، وعلى كل حال، فالذين لهم الحق في أن يقولوا ذلك، قالوا كلمتهم. أعلن المجلس الوطني للنقابة الوطنية للتعليم، وبعد نقاش صاخب، عن خوض إضراب لمدة 48 ساعة يومي 10 / 11 أبريل. بعد هذا الإعلان، اجتمعت اللجنة الادارية للنقابة الوطنية للصحة العمومية بهدف الإعلان عن إضراب في نفس التاريخ. وللحقيقة، أؤكد أن الكاتب العام (الكونفدرالية د. ش) قام بمجهود كبير لإقناع الإخوة في قطاع الصحة بتأجيل قرارهم الى وقت آخر، لأنه هو كذلك، كان مقتنعا أن القمع آت مع هذا الإضراب لامحالة. أتذكر الأخ نوبير الأموي الذي التحق بقطاع الصحة المجتمع في الرباط، ولما لم ينجح في إقناعهم طلبني بالهاتف حوالي الساعة 12 ليلا فالتحقت به فطلب مني الجلوس مع الإخوان في قطاع الصحة في محاولة لإقناعهم بعدم الدخول في الإضراب مع قطاع التعليم، كانت جلستي معهم صعبة يتذكرها الإخوة عبد المجيد بوبكري ومحمد الدحماني، حيث كان من داخل القطاع من يعتقد أن هناك كعكة يريد قطاع التعليم أن يفترسها يومي 10 و 11 أبريل وحده. وقد دخلوا في النهاية الإضراب، وقد اقتسمنا معا كعكة يوم الإضراب حيث طرد ما يقارب 1000 موظف من القطاعين من عملهم، وقبل ذلك، نال كل من القطاعين نصيبه من عملية القمع الممنهج طيلة فترة التحضير للإضراب، والتي لم تعرف الساحة الاجتماعية مثيلا له. خلال فترة التحضير، كنت على اتصال يومي بالسي عبد الرحيم، أحيانا كنت أكون مصحوبا بالأخ عبد الهادي خيرات لنضعه في صورة التطورات التي يعرفها الإعداد للإضراب والآخذة في التصاعد يوما بعد يوم، كما اتفقنا معه على زيارته صبيحة يوم 10 أبريل أي يوم الإضراب، في الساعة الثامنة صباحا، وقبل قيامنا بزيارة السي عبد الرحيم، توجهنا الى مقر النقابة حوالي الساعة السابعة صباحا، كان المقر مكتظا بالمضربين الذين توافدوا على مقر النقابة، وخصوصا من قطاع الصحة، فالمقر يكاد يختنق بهم، وكان تواجد العنصر النسري لافتا للنظر، أما قطاع التعليم، فالحضور كان رمزيا لأنهم تعودوا على الإضراب، لكن اللافت أنه بحلول الساعة السابعة والنصف، طوقت منطقة ديور الجامع بكل أنواع الأمن، وأغلقت كل الممرات المؤدية للمقر، وأصبح على ساكنة الحي إثبات هوياتها ليتمكنوا من المرور، تركنا المقر تحت هذا الحصار، وتوجهنا الى منزل السي عبد الرحيم (أنا وعبد الهادي)، أحطناه بالمعطيات التي توفرت لدينا منذ ليلة الإضراب وصباحه، كان يردد باستمرار: «يجب الصمود، فالوقوف في منتصف الطريق يكون أكثر سلبية من أي نتائج سيئة تحصل في نهاية المطاف». وأخبرنا أنه ذاهب للتو لحضور اجتماع مجلس الدفاع عن (الصحراء)، صحبة الأخ عبد الواحد الراضي، وطلب منا أن نجتمع به مرة أخرى على الساعة الواحدة، رجعنا الى مقر النقابة، لنجد أن الشرطة أفرغت المقر من المضربين وضربت حصاراً حوله لمنع الوصول إليه. كان قمع المضربين إثر إضراب 11/10 أبريل شديداً، قد يكون من بين أسبابه الحوار بين المكتب الوطني ووزير الداخلية، وقد يكون محاولة لضرب البديل النقابي الجديد (78) من خلال ضرب أهم مكونات هذا البديل وهما النقابة الوطنية للصحة والنقابة الوطنية للتعليم، وبقدر ما تفننت الدولة بكل أجهزتها القمعية في التنكيل بالمضربين والمضربات من خلال الطرد الجماعي للمئات، والحجز التعسفي في مخافر الشرطة والدرك والتضييق على المناضلين والمناضلات قبل وخلال فترة الإضراب، وتنظيم محاكمات صورية، أصدرت أحكاما قاسية في حق العديد من المناضلين والمناضلات، فإن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (المكتب السياسي، اللجنة الادارية، اللجنة المركزية، الكتابات الاقليمية، والقطاعات والإعلام الحزبي)، كان الى جانب المضربين مدعما لنضالاتهم، لمواقف السلطات العمومية، كما أنه نظم حملة لجمع الدعم المادي لضحايا القرارات التعسفية المتخذة من طرف الحكومة، وفي أحد اللقاءات بين جلالة الملك الحسن الثاني والسي عبد الرحيم رحمهما الله، قال جلالة الملك مخاطبا السي عبد الرحيم: «من حقكم كحزب أن تستنكروا ما قامت به الحكومة تجاه المضربين والمضربات، ومن حقكم كذلك، أن تدعموا هؤلاء، لكن عليك أن تعرف أنني أرسلت لهؤلاء النقابيين، خصوصا، أصحابك من يعطيهم كل مطالبهم، فرفضوا ذلك، فاستنتجت أنهم لا يريدون مطالب، فكان لابد للدولة أن تتدخل للدفاع عن نفسها»، بعد أن حكى لي السي عبد الرحيم عن هذا اللقاء، حكيت له ما جرى في ذلك الحوار مع وزير الداخلية (مبعوث الملك) وهو الحدث الذي لم يكن السي عبد الرحيم يعلم به، وكان لحظة ثقيلة عليّ، وأنا أستشف في كلمات السي عبد الرحيم نوعا من العتاب على عدم إحاطته بهذا الخبر في حينه، وذلك أحد جوانب العظمة في شخصية هذا الرجل، فحتى العتاب عنده له نكهة خاصة. كان السي عبد الرحيم رحمه الله يقرأ دائماً الأشياء في نهايتها، ولا ينظر إليها فقط في بدايتها فخلال احتكاكي به كاتحادي بالمكتب الوطني للنقابة الوطنية التعليم، كان يقول باستمرار من يريد أن يكون نجاراً، عليه أن يعرف كيف يدق المسمار، وعن الإضراب كان يقول من السهل اتخاذ قرار الدخول في الإضراب، لكن من الصعب الخروج منه، كما أنه لم يكن من هواة الإعلان عن القرارات العنيفة دفعة واحدة، إنما يعمل على تصريفها على دفعات. وبهذه المناسبة، أتذكره رحمه الله حين زيارة شمعون بيريز الرسمية للمغرب، حيث كان هناك اتجاه لإصدار بلاغ في الموضوع، بينما كان موقف السي عبد الرحيم، وهو مع مضمون البيان، لكن كان يفضل تصريفه على دفعات من خلال 3 أ و 4 افتتاحيات في الجريدة. خلال الجلسات مع السي عبد الرحيم، يمكنني أن أقول إنه انتقل الى جوار ربه وهو يحمل أثر بعض الأحداث التي تعرض لها، يمكن أن أذكر منها: 1 خيبة الأمل بعد اعتقاله سنة 1981 من ردة الفعل الاتحادية والشعبية، فالحزب الذي كان يعرف مشاكل داخلية حالت دون القيام باحتجاجات على اعتقال هذا القائد الذي كرَّسَ حياته لخدمة هذا البلد أرضا وساكنة دون كلل. 2 تردد السي عبد الرحيم كثيراً قبل تنفيذ قرار المؤتمر الثالث، بالانسحاب من البرلمان، تردد كثيراً في اختيار الوقت المناسب، وعندما أعلن عن القرار أصيب بخيبة من الترددات التي صدرت عن بعض أعضاء الفريق، وأظن أن الأخ الحبيب الشرقاوي هو من يستطيع التعبير عن ردة فعل عبد الرحيم تجاه هذا الحدث، خصوصاً حينما اتصل به ليسأله، هل يتسلم منهم (أي البرلمانيين) مساهماتهم بعد رجوعهم الى البرلمان كأفراد. وتظهر عظمة الرجل أكثر حين نعرف أنه هو من أعاد هؤلاء إلى تشكيل فريق للاتحاد داخل البرلمان. 3 الحسرة مما عرفه اليوم الأول من المؤتمر الخامس، حيث كانت محاولة لتجاوز زعامة عبد الرحيم، ورغم أن المؤتمرين والمؤتمرات أنصفوا عبد الرحيم، وجعلوه يعود الى المؤتمر كقائد لمسيرة الاتحاد بدون منازع، فإن أثر الخدش الذي لحقه في تلك الليلة ظل يصاحبه. آخر جلسة مع السي عبد الرحيم كانت لي معه وقد اشتد به المرض كنا أربعة: الأخ نوبير الأموي، الأخ عبد الهادي خيرات، الأخ عبد الحق المنطرش، والطيب منشد، كان ذلك قبل الوفاة بمدة قصيرة، صعدنا عنده الى غرفة النوم، أجلسه أحد أبنائه (علي أوبراهيم) على المقعد، وإذا كانت الكلمات تخرج من شفتيه بصعوبة، فإن فكر الرجل كان كما هو الشأن دائما، منظماً مركزاً ومحدداً. أتذكر أنه تحدث ونحن نستمع في ثلاثة ملفات: 1 التحولات التي كان يعرفها الاتحاد السوفياتي بقيادة غورباتشيف، حيث اعتبر رحمه الله أن هذه التحولات ولو أنها تهم شعوب الاتحاد السوفياتي، فإنها قد تلحق أضراراً بالتوازنات العالمية، وتتضرر منها العديد من شعوب العالم. 2 الوضع في الجزائر، و التي عرفت انتخابات جماعية فازت بأغلبيتها جبهة الإنقاذ، وكانت في تلك اللحظة شائعات حول إمكانية تدخل الجيش للقضاء على هذه التجربة، حيث اعتبر السي عبد الرحيم أن ذلك إذا تم سيكون خطأ قاتلا في حق الديمقراطية الجزائرية، وقد يجز بالبلاد في حرب أهلية. 3 وجه خلاله الخطاب إلينا قائلا: «عليكم بالاستمرار في الدفاع عن مصالح الشعب المغربي، وعليكم أن تعلموا أن هذا الشعب لن ينسى، من خدمه وأخلص في خدمته مهما بدت من سلبيات في مواقفه (أي الشعب)، وحتى يبقى المناضلون والمناضلات في موقع المدافع المخلص على مصالح الشعب المغربي، يجب أن يوقفوا الحملات ضد بعضهم البعص». بعد الصلاة على جثمانه الطاهر بمسجد السنة، وبعد أن حمل الجثمان على متن سيارة الدفع الرباعي (لاندروفيل) التصقت بتلك السيارة، وبعد الوصول الى ساحة الشهداء، مكنني التسلق بباب السيارة أن أرى عن اليمين وعن الشمال وفي كل الاتجاهات، تلك الأمواج المتلاطمة من سكان الرباط وسلا، والذين خرجوا بتلقائية لتوديع مناضل لا ككل المناضلين، وقائد لا ككل القادة، رجل انتدب نفسه لخدمة هذا الوطن وساكنته، وتنازل عن كل المغريات التي كان يتعرض لها متجاهلا ما كان يمكن أن يحققه لو اختار الضفة الأخرى. خرجت الجماهير إذن في جنازة لا تكون إلا للعظماء، تذكرت وأنا أرى هذه الجموع المحتشدة في كل مكان ما قاله السي عبد الرحيم، من أن هذا الشعب مهما ظهرت منه من سلبيات، فهو لا ينسى من أخلص في الدفاع عن مصالحه وأخلص له، قلت في نفسي، لعلهم يكونون بذلك قد أنصفوا هذا القائد الخالد بعد وفاته، بما لم يقوموا به سنة 81 بعد اعتقاله.