متواضعة، تحترق من أجل الآخرين، لا تحب أن تتحدث عن نفسها، تبدع في صمت.. كلها صفات تتميز بها المبدعة نوّارة لحرش ، التي ألقينا عليها القبض في هذا الحوار متلبسة بنوافذ وجعها ..تتحدث سفيرة الجزائر في حركة شعراء العالم في هذا اللقاء عن بداياتها الأولى مع الشعر ومسارها الإعلامي ، مبدية رأيها في بعض القضايا المرتبطة براهن المشهد الثقافي في بلادنا ، وفي هذا الصدد تؤكد نوّارة أن المبدع الحقيقي سيصل إلى نقطة النور المفترضة مهما كانت المعوقات و أن الإبداع الحقيقي سيصل إلى نفس النقطة و إن طالت السنوات. * كيف تلقيتِ نبأ تعيينك سفيرة للشعر الجزائري في حركة شعراء العالم؟ نوّارة لحرش : لقد سبق وطرح عليَّ هذا السؤال كثيرا ، في الحقيقة و كما قلتُ أيضا مرارا فإن هذا الإختيار فاجأني جدا ، ولم أكن أتوقعه مطلقا لأنني لستُ من الذين يلهثون خلف الألقاب أو بعض المزايا التي تمنحها الألقاب عادة ، لأن لهثي الدائم و المديد هو الكتابة وكيف أرقى بها ولها و فيها ، كيف أبدع على مستوى نص ما أو كتاب ما ، أو فكرة ما ، كيف أؤثث لحظتي الشعرية بما هو أجمل و أعلى و أبهى ، هو لهثي المضيء و انشغالي المشتعل . لم يكن في الحسبان أبدا أمر السفارة هذا ،لكنه جاء بغتتة وعلى حين فجأة و أنا هنا لا أملك إلا أن أشكر وبحبّ شديد كل الذين اختاروني و وضعوا ثقتهم فيَّ وفي نصي . طبعا هناك أسماء كثيرة غيري جديرة بأن تكون سفيرة للشعر الجزائري بإمتياز . كوني على يقين عزيزتي أن هذا اللقب لا يعني أنني ألأجود أو الأوحد شعريا ، أو أنني الأهم ، أبدا هذا غير وارد بالمطلق، فالخارطة الشعرية الجزائرية فيها من الأسماء الشعرية المبدعة والفاعلة والمائزة الكثير والكثير ، وهناك أسماء كثيرة تستحق أن تكون سفيرة للشعر الجزائري . **: نوافذ الوجع هو عنوان مجموعتك الشعرية الأولى فهل يسكنك الوجع إلى الحد الذي يجعلك تختارينه عنوانا للمجموعة، لماذا لم تكن نوافذ للفرح أو الأمل؟ نوّارة لحرش: لو كانت الأبواب أكثر شاعرية من النوافذ لعنونت مجموعتي بأبواب الوجع ، لكن رأيت النوافذ أكثر شاعرية و أكثر إيحاءا وتلميحا من الأبواب ، لهذا جاء عنوان المجموعة هكذا " نوافذ الوجع " . لا يمكن أن تكون هذه النوافذ للفرح ، ببساطة ، لأن الوجع حقيقي جدا ومستفحل جدا ، قد تكون هناك كوة صغيرة من الأمل في زاوية ما من هذه النوافذ ، و قد يأتي نهارها الخاص ذات لحظة أو ذات عمر وتزهر . لكن الوجع كبير إلى الحد الذي يجعلني أخصص له نوافذ بحجم المدى. هذه النوافذ الهاطلة / الصاهلة بالشجن والغيم والأسئلة هي نوافذي حقا التي لا يمكن أن أتنكر لها أو أتملص منها ، هي وجعي حقا ، هي شتائي حقا. في زحمة هذه النوافذ المشحونة بالبرد ، الناصحة به ،المصابة بقشعريرته جدا ، يلزمني الكثير من المعاطف المعنوية كي أجعلها نوافذا للفرح ، لكن هكذا معاطف نادرة في الحياة / في حياتي على الأقل. **: لماذا لم تؤثثي نصوصك ببعض الإحالات والأقنعة التاريخية والأساطير على غرار معظم الشعراء؟ نوّارة لحرش : فعلا ، لحد الآن نصوصي غير مؤثثة بهذه الإحالات والأقنعة التاريخية والأساطير التي تتحدثين عنها ، ربما لأنّني على الأقل في الوقت الحالي تحديدا مكتفية بوجعي / ممتلئة به ، ولست في حاجة إلى أي إحالات أو أساطير أو أقنعة لتؤثث نصي أو أتأثث بها شخصيا أو لأتذرع بها أو أختفي خلفها ، مازلتُ لم أقل وجعي بما يكفي من كثافة وشاعرية و صراخ ، و ما زالت فلسفاتي الجوانية و الحياتية بحاجة إلى المزيد من مساحات القول الشعري كي تطرح عصافيرها و أشجارها وسماءها أكثر و كما تحلم وكما تحب . حين يكون الكون الشخصي للمرء/ للشاعر تحديدا طازجا بالوجع المذنب الآثم و المخيبات ، فإنه يؤثث نصه بإحالاته هو و بأقنعته وحقيقته بتاريخه الشاسع الكدمات ،والشاسع الجراحات ، بأساطيره هو التي خلقتها فيه الحياة كما جاءته بمعطفها الرث أو بعراءها المديد ، لهذا وفي الوقت الحالي تحديدا لا أظنني سألجأ أو أحتمي بأي إحالة أو أقنعة تاريخية أو أسطورية كانت كي أؤثث بها نصي أو كي أجمل بها وجعي ، لأن وجعي هو تاريخي الحالي ، تاريخي الشخصي جدا / الفردي جدا . **: أنت من الكتاب الناشطين على مستوى شبكة الانترنيت حيث أجريت العديد من الحوارات مع كتاب وشعراء عرب فما الذي أضافته لك هذه التجربة؟ نوّارة لحرش : نعم يقولون هذا كثيرا ، يعني من الكتاب الناشطين على شبكة الانترنت ، أتمنى أن أكون فعلا كما قلتِ وكما يقولون . شخصيا أرى أن الانترنت الآن وسيلة مهمة للكاتب وهي فرصته من بين الفرص المتاحة في عصرنا هذا بايجابيات كبيرة جدا . أما عن الحوارات فهي مسيرة بدأت منذ أوائل 2002 حيث أجريت فيها الكثير من الحوارات مع الكثير من الكتاب والشعراء العرب. ربما هذا راجع إلى علاقاتي و صداقاتي الطيبة مع جميع هؤلاء الأدباء والأديبات على مستوى الخارطة الأدبية العربية وهذا ما سهل لي إجراء كل هذه الحوارات وهي تجربة مهمة جدا و ثرية جدا ، حيث مكنتني من تعزيز مكانتي في الإعلام الثقافي العربي ، كما جعلتني أقرب الكثير من الأسماء الأدبية العربية للقارئ الجزائري وحتى للمشهد الثقافي الجزائري الذي تمكن من معرفة تلك الأسماء عن قرب و إن من خلال الحوارات التي هي أيضا عملية تقديم الكاتب بشكل كبير و توسيع مساحة انتشاره أكثر ، وهذا ربما ما جعل الكثير من الكتاب عندنا يقولون بأنهم تعرفوا على الكثير من الأسماء الأدبية العربية من خلال حواراتي ، وهذا فعلا منتهى فخري و غبطتي . حتى أن هناك الكثير من الأسماء التي ترفض إجراء الحوارات ، لكن استطعت أن أستدرجها إلى موائد الحوار كما حدث مع صموئيل شمعون أو اسكندر حبش أو هاتف جنابي وغيرهم . وهذا انجاز مهم وهو من بعض مكاسب الصداقة الكبيرة التي تربطني بهم و الحمد لله . **: كيف تقيمين المشهد الشعري في الجزائر؟ نوّارة لحرش : لا أدري كيف أقيم المشهد الذي أنتمي إليه ، فالتقييم عادة من إختصاص النقاد والدارسين و الأكاديميين ، هم وحدهم من يقدرون على مسألة التقييم هذه ، لأنهم ينظرون إلى المشهد من الخارج بعين المتفحص المتابع الدارس الناقد ، لكن نحن ننظر للمشهد بعيون أخرى ، عيون عاشقة للشعر و مولعة ، وهذا ما يجعلنا لا نقدر على التقييم كما يجب لأنها ليست مهمة الشاعر ، فالشاعر عادة لا يقيم ، بل يبدع ويكتب و ينثر هنا نصا وهنا مفردة وهنا شجرة من الجمل والكلمات ، لكن ما يمكن أن يقال على المشهد الشعري الجزائري أنه ورغم الجوائز المتباينة التي يحصدها عربيا هو مشهد متذبذب بعض الشيء ،هناك اتجاهات شعرية جزائرية متداخلة،هناك قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية والقصيدة النثرية ، وهي تجارب متعددة الأصوات والملامح ، في حين السائد الآن عربيا وبقوة هي قصيدة النثر، أما عندنا في الجزائر فقصيدة النثر مازالت تحبو وتخطو خطواتها في خجل وببطء ،و هذا ما جعل المشهد الشعري عندنا متداخلا وغير جلي بشكل جيد، لكن هذا لا يعني أنّ المشهد سيء أو على درجة عالية من العتمة . أبدا ففي المشهد الكثير من الملامح الشعرية المضيئة جدا وهناك أسماء مبدعة بحق ( لا يتسع المجال لذكرها كلها) تشتغل على نصها بجمالية عالية وبشعرية لافتة لها القدرة على الإدهاش وهذا يكفي . وقد سبق لي و أن قلت في حوار سابق و أكررها اليوم و غدا وبعد غد : " أن الجيل الجديد ، جيل مشاغب فنيا يكتب بوعي إبداعي أكثر وبحساسية فنية أدبية أرقى وأعلى، فيها من النضوج الإنساني الجمالي ما يبهج حقا" . وهذا يكفي أيضا، لأن هذا هو حقا ما يميز الجيل الجديد. **: ماذا عن الحركة النقدية؟ نوّارة لحرش : الحركة النقدية هي النائم الأبدي في المشهد الثقافي العام عندنا ، النائم الذي لا يستيقظ إلا نادرا، و أحيانا يكون استيقاظه في غير محله وفي غير أوانه وفي غير جهته ، النقد الحاصل عندنا هو نقد قليل وضئيل قياسا بالجانب الإبداعي الذي يتسم بالكثير من الحراك على مستوى الرواية والشعر خاصة وبدرجة أقل القصة القصيرة ، ففي هذا الجانب هناك نتاج واضح ومكثف أحيانا لكن في الجهة المقابلة فلا حراك لافت ولا حركة نقدية بارزة ، نعم النقد نائم ، نائم جدا ، ولا يستيقظ إلا نادرا من أجل رواية ما أو مجموعة ما . وهو استيقاظ من المبدعين أنفسهم و ليس من الأكاديميين الذين يجب أن يواكبوا كل ما ينشر ويطبع لأن هذه مهمتهم بالأساس ، إذن وما يمكن أن يقال عن الحركة النقدية عندنا أنها فعلا في حالة سبات للأسف الشديد. ** : لماذا لم تشاركي في مسابقة أمير الشعراء؟ وكيف تنظرين إلى هذا النوع من المسابقات ؟ نوّارة لحرش : لماذا لم أشارك في مسابقة أمير الشعراء ؟ ، ببساطة لأنني لم ( ولا ) أفكر مطلقا في هكذا مسابقات وحصص، ولن أفكر أبدا في مثل هذه الأمور ، لا يمكن أن أحمل حقائبي و أوراقي إلى جهة ما لأستعرض عضلاتي الشعرية من أجل جائزة ما ، أو أمكث تحت الأضواء لزمن معين ، لأقول شعرا من أجل الفوز أو الظفر بلقب ما ، أو أتنافس على لقب شخصيا لا أؤمن به . لا أحب ولا تستهويني الألقاب مهما كانت ومهما كان بريقها ومهما كانت العوائد المادية أو المعنوية منها ، يكفي أن أشتغل على نصوصي بصمت نبيل بعيدا عن أي ضجيج أو ضوضاء الأضواء ، لكن هذا لا يعني أنني ضد هكذا حصص بالمطلق ، أكيد أنّ الجانب الجميل فيها هي أنها تمنح للشعر انتشارا واسعا على مستوى القاعدة الجماهيرية التي تتابع مثل هذه الحصص التي تسمى برامج الواقع ، وهناك من يؤيد هذه البرامج وهناك من تعنيه ومن يسعى باستماتة للمشاركة فيها والظهور عبر الفضائيات التي ترعاها ، لكني لست من الذين يسعون إلى مثل هذه البرامج ولن أتشرح أبدا للمشاركة فيها ، و أضيف لكِ أنني حتى على مستوى المشاهدة لا أتابعها ، ليس من باب المقاطعة ولكني لا أجد وقتا لمتابعة هذه النوعية من المسابقات الشعرية المباشرة والتي تلجأ أكثر إلى التصويت عبر رسائل الهاتف النقال لتقصي هذا و تلغي هذا وتتوج هذا ، ما كان يجب أن يحدث هذا في الشعر تحديدا ، لكنه حدث ، و من معه أكثر سيتوج ابن بلده وعشيرته ومن ليس معه سيبقى يلوك اللعنات سواء في محلها أو في غير محلها . **: ما هن المعوقات اللاتي تقف في وجه المبدعين الشباب؟ نوّارة لحرش : المعوقات كثيرة جدا ، لكن أهمها صعوبة النشر ، فعادة لا يوجد كاتب خاصة من الجيل الشاب يملك المقدرة المادية لطبع كتبه ، هذا من المعوقات الكبيرة ، لكن الكاتب الطموح يبقى يمارس الكتابة بحب ودأب كبيرين ،حتى وإن تأخر النشر لسنوات وسنوات ، لأنه يؤمن أن النشر عملية ستتحقق عاجلا أم آجلا ، لأنها من المسلمات اللاحقة التي لا شك أنها ستتحقق و إن بعد سنوات ، طبعا من الأجمل أن تتحقق في وقتها وفي أوانها ، لكن مشكلة النشر هذا العام انفرجت كثيرا ، وتحقق هذا الحلم للكثير من الكتاب والمبدعين بفضل تظاهرة الجزائر الثقافية ، فهناك أسماء كثيرة كانت حاضرة ومنذ سنوات في المشهد الأدبي وبقوة ، لكن بدون كتب ، تمكنت هذا العام من طبع أعمالها وهناك من طبع أكثر من كتاب في السنة وهذا من أهم انجازات السنة الثقافية . إذن فالنشر من أكبر المعوقات التي تقف في وجه المبدعين الشباب ،إلى جانب بعض سياسات التهميش و الإقصاء التي مازالت للأسف تُمارس بنوع من الفوقية المرضية في حق الكثير من الكتاب . لكن المبدع الحقيقي سيصل إلى نقطة النور المفترضة مهما كانت المعوقات و الإبداع الحقيقي سيصل إلى نفس النقطة و إن طالت السنوات . **: في الأخير نعود إلى البداية، كلمينا قليلا عنها، كيف دخلتِ مملكة الشعر؟ نوارة لحرش: دخلت مملكة الشعر ككل الأطفال المشاغبين الخجولين الذين يدخلون عالم الدهشة أول مرة بكثير من العبث و اللامنطق . لم أكن أدري وقتها أنني دخلت أكبر ورطة وجودية على حد قول محمود درويش : "الشعر ورطة وجودية ". كنتُ أعتقد أنها لعبة مفرداتية ولفظية آنية، سرعان ما أملها أو أتركها . لكني تورطت فيها عميقا. لم أدخل المملكة عن قصد أو عن تخطيط ، فجأة طرقني الشعر بإلحاح فدخلني واستفحل في البقاء والمكوث في جوانياتي وفي حياتي.ورطني فتورطت داعبني فاستسلمت ، غازلني فاستكنت. حين طرقني الشعر باكرا شعرتُ أنّ الحياة هي التي طرقتني، الحياة الأولى التي كانت كريمة معي إلى درجة الإساءة . طرقتني فجأة من خلال الشعر فكان الشعر أكرم منها معي واحتواني وذهب بي صوب الشمس التي بخلت بها الحياة عليّ ؟؟ . ما أجمل أن تطرقنا الحياة الأكيدة في صيغة الشعر. يقول الشاعر اللبناني زاهي وهبي : " يجب أن نتعلم كيف نكون أوفياء للحياة ". وبالموازاة أقول يجب أيضا أن نتعلم كيف نكون أوفياء للشعر. الشعر الذي يطرقنا والذي نشعر معه أنّ الحياة هي التي تطرقنا يجب أن نكون أوفياء له تماما.. تماما جدا حاورتها : عقيلة رابحي