انطلاقًا من الإشكال المرتبط برصد التّحوّلات الجنسانيّة الّتي تعيشها المرأة المغربيّة، يمكن أن نركّز على حقول اجتماعيّة، تبدو لنا جدّ مترابطة: كالتّعليم، والمهن، والعمل الجنسيّ. المرأة وتحوّلات حقل التّعليم: إذا أخدنا بعين الاعتبار الاستثمار المجتمعيّ في مجال تعليم المرأة في العقدين الأخيرين، نجد أنّ انفتاح النّساء على المدرسة )سواء النّظاميّة أو غير النّظاميّة(، أفرز نوعًا من صراع القيم بين المرجعيّات الإسلامويّة المحافظة، والمرجعيات الحداثيّة المعاصرة )ليس بالضّرورة صراعًا سلبيًّا(، صحيح أنّ هذه التّحوّلات الاجتماعيّة والثّقافيّة ضرورة حيويّة بالنّسبة إلى مختلف الأجيال، لكن وجب أن نشير إلى أنّه إذا كانت هذه التّحوّلات القيميّة تمسّ البنيات الموضوعيّة والشّروط الاجتماعيّة بشكل بسيط؛ فإنّه في الفترة المعاصرة اتّخذت مستويات أكثر ارتباطًا بالشّروط والبنيات الذّهنيّة الفرديّة، وعلى سبيل المثال؛ أصبح للنّساء موقف وشرط موضوعيّ خاصّ داخل الأسرة، فيما يتعلّق بالتّمدرس، اللّباس، العلاقة مع الجنس الآخر…، ما يحيل إلى نوع من الانتقال القيميّ المعاصر في طبيعة العلاقة بين المرأة والأسرة، ورفض الهيمنة والتّوجيه والخضوع للأسرة، حتّى أنّنا نتحدث – في بعض الأحيان – عن توجيه نسويّ للأسرة على المستوى الماديّ والقيميّ والتّنظيميّ، ويظهر الأمر حين يعجز الرّجل أو الأخ أو الأب عن توفير الاستقرار المادّيّ للأسرة، وتوجيهها بالنّموذج البطريريكيّ للسّلوك والتّعاملات، وفي سياق هذه الوضعيّة، يمكن أن نورد – هنا – التّحليل الّذي يقدّمه عالم الاجتماع المغربيّ عبد الصّمد الدّيالمي، في حديثه عن الانتقال الجنسيّ في المجتمع المغربيّ ؛ حيث يؤكّد أنّ المجتمع المغربيّ يعيش نوع من "الانفجار" ، والتّضخّم في مؤشّرات السّلوكيّات الجنسيّة )النّسويّة خصوصًا(، نظرًا إلى كون المعايير الجنسيّة محافظة وإسلامويّة، بينما السّلوكات متقدّمة ومنفتحة، لذلك كان ظهور أنساق ومرجعيّات قيّمة مستحدثة ومعاصرة، يدلّ على الصّراع السّوسيو – تاريخيّ بين الأجيال من جهة، والتّجلي السّوسيولوجيّ للانتقال القيميّ للمجتمع من النّسق القديم إلى النّسق المستحدث والمعاصر من جهة أخرى. النّساء المغربيّات بين المجال المهنيّ والمجال المنزليّ: نظرًا إلى ارتفاع نسب التّمدرس في صفوف النّساء، وارتفاع نسب النّساء حاملات الشّهادات الجامعيّة مقارنة دائمًا بالعقدين الماضيين، نرصد ارتفاع نسبة عَمَالة المرأة واختراقها لسوق الشغل ، بالتّالي، بروز نسق من الاستقلاليّة المادّيّة النّسائيّة، الأمر الّذي ينعكس على الشّروط الاجتماعيّة للموقع الاقتصاديّ والجنسيّ للمرأة داخل الأسرة والمجتمع المغربيّ المعاصر، فكيف يمكن تفسير هذا الوضع سوسيولوجيًّا؟ بالعودة إلى عمل الدّكتور عبد الصّمد الدّيالمي ، نرصد أثر الموروث الثّقافيّ على بناء الهويّات الجنسانيّة للإنسان العربيّ، بين قطب المهَيمِن وقطب المهَيمَن عليه، الّذي أصبح يعرف تحوّل شموليّ مع بروز الشّغل كونه مؤشّرًا بنيويًّا لانتقال الأدوار النّوعيّة وتبادلها داخل الأسرة والمجتمع. يمكن أن نعزو الأمر إلى تداخل مجموعة من الشّروط الموضوعيّة المركّبة والشّموليّة الّتي نفسّر في ضوءَها هذه الظاهرة – ارتفاع نسب تمدرس الفتيات، عملهنّ، العولمة، وسائل الإعلام، …، المرتبطة بالانسحاب التّدريجيّ للمرأة من عالم المنزل المنغلق، والأعمال المنزليّة الأنثويّة ، وإقبالها على العمل الوظيفيّ العامّ والخاصّ، نتيجة ارتفاع فرص عمل النّساء في بعض المجالات ، ما يحيل إلى بروز هامش كبير من الحرّيّة والاستقلاليّة المادّيّة والجنسيّة للمرأة، خارج الأسرة والمنزل، باسم مواكبة التّحولات العالميّة الّتي أفرزتها العولمة، وتحت ثقل اختراق المرأة للفضاءات العامّة، ونشير – في هذا الصّدد – إلى التّجربة التّونسيّة الرّائدة في مجال تمكين المرأة من التّمدرس وولوج سوق الشّغل ، الّتي أبانت استعدادًا كبيرًا لدى النّساء لقلب الصّورة النّمطيّة الثّقافيّة المسوّقة عنهن، وإعادة إنتاج الشّروط الاجتماعيّة والبنى الموضوعيّة المحرّكة للعلاقة بين النّوعين، وللأطر المرجِعة المتحكّمة في وضع النّساء داخل المجتمع والثّقافة بشكلٍ عامّ. يتّضح – ممّا سبق – أنّ الجنسانيّة النّسائيّة تعرف تحوّلا بنيويًّا مقترنًا بارتفاع نسب تمدرس الفتيات، وتمكين المرأة من ولوج عالم الشّغل والمجالات العامّة، والتّحرّر، والاستقلاليّة المادّيّة والاجتماعيّة للمرأة عن الأسرة والمجتمع والمؤسّسة الزّوجيّة في تفضيل العمل المهنيّ على العمل المنزليّ، ولو بنسب ودرجات متفاوتة، ورغم كون هذا التّحوّل لا يعطينا صورة عامّة وشاملة تنطبق على وضعيّة النّساء داخل المجتمع القرويّ مثل الحضريّ، لكن وجب أخذ هذه الشّروط الموضوعيّة بعين الاعتبار، في ظلّ الحديث عن أنّ الأفراد – عمومًا – أصبحوا يحملون تصوّرات وأفكار، تتّجه نحو التّحرّر والانفلات من النّظم والمعايير الاجتماعيّة المؤطّرة للجيل السّابق، وهو الأمر الّذي سيوضّحه لنا "تضخّم " الجنسانيّة النّسائيّة قبل – الزواجيّة . التّحوّلات الجنسانيّة: تضخّم الجنسانيّة النّسائيّة قبل الزّواجيّة: لقد أصبح النّشاط الجنسيّ )للرّجال والنّساء( يتّجه – أكثر فأكثر – نحو الانفصال عن هدف الزّواج، ليخضع لأهداف أخرى، مثل: إشباع الرّغبة، تجسيد الحبّ، استهلاك متع الحياة، الحصول على خدمة، الهجرة، النّسيان، تأكيد الذّات، …إلخ، أو ليصبح قيمة في حدّ ذاته )المتعة من أجل المتعة(. وقد أظهر بحث ميدانيّ لعالمة الاجتماع المغربيّة سميّة نعمان جسوس في فترة نهاية التّسعينيّات )بداية القرن الحادي والعشرين(، أنّ 65 % من الفتيات اعترفن بأنهنّ مارسن الجنس مرّة واحدة – على الأقل – قبل الزّواج، وكما يشير الدّكتور عبد الصّمد الدّيالمي ؛ فإنّ الأمر لا يتعلّق دائمًا بممارسات جنسيّة كاملة، بقدرما يتعلّق ب "ممارسات جنسيّة بديلة " )جنس سطحيّ، فمويّ، شرجيّ، …إلخ(، إضافة إلى بروز ظاهرة رتق البكارة وترميمها، الّتي تلجأ إليها الفتيات في حالة فقدان البكارة الأصليّة، عبر عمليّات جراحيّة بسيطة يتأرجح ثمنها بين ) 60 – 500 دولارًا أمريكيًّا( في مدينتي الرّباط والدّار البيضاء . ورغم محدوديّة الأبحاث السّوسيولوجيّة المرتبطة بالجنسانيّة العربيّة قبل – الزّواجيّة عمومًا، إ أنّها لا تنفي وجود انفتاح جنسانيّ قبل – زواجيّ غير "بغائي " )غير مقترن بالعمل الجنسيّ(، نظرًا إلى بروز ما يمكن تسميته ب "الاعتراف المجتمعيّ بالجنسانيّة قبل – الزّواجيّة النّسويّة" ، المرتبط بإقران الرّجال النّسائيّين( Feminist )، بين مجموعة من الألفاظ المتناقضة في القاموس الجنسيّ العربيّ الأبويّ التّقليديّ، وهكذا أصبح الحديث عن الفتاة )غير المتزوجة طبعًا( "الّتي تمارس الجنس بشكل معقول ومحترم "، كما بدؤوا ينعتون الفتاة المستقرّة جنسيًّا بالفاضلة، وتشير هذه المواقف إلى أنّ الحبّ والإخلاص أصبحا عند أقليّة عربيّة– مغربيّة بشكل خاصّ – من القيم الّتي تعطي مشروعيّة اجتماعيّة للنّشاط الجنسيّ النّسويّ قبل الزّواج . التّحوّلات الجنسانيّة للمرأة المغربية: العمل الجنسيّ أنموذجًا إنّ استعمال مصطلح"العمل الجنسيّ " يتقاطع – إبستيمولوجيًّا – مع التّوصيفات العاميّة للمجتمع: العاهرة، البغي، الدّاعرة، نظرًا إلى ما تحمله من أبعاد قيميّة وأخلاقيّة، تصم المرأة الممارسة للجنس مقابل أجر، أو مقابل مادّة، وتساهم في عرقلة التّعامل الموضوعيّ للباحث مع الظّاهرة، والقطعية الإبستيمولوجية مع آراء الحسّ المشترك وأفكاره، في بحث سوسيولوجيّ ميدانيّ لعبد الصّمد الدّيالمي حول العمل الجنسيّ في المغرب ، نرصد نتائج جد مهمّة حول ارتفاع نسب الإقبال على العمل الجنسيّ، فإذا كانت العلاقات الجنسيّة تبدأ في سن الثّالثة عشر أو الرّابعة عشر، بالنّسبة إلى كلا الجنسين، فإنّها تظلّ – في كثير من الأحيان علاقات سطحيّة، وغير مكتملة، تحافظ على ما يسمّى بالبكارة الاتفاقيّة أو التّوافقيّة ، لذلك؛ يمكن أن نتحدّث عن أنّ التّعلم الجنسيّ )بالنّسبة إلى الفتيات( أصبح يتحرّر نسبيًّا من اللّجوء إلى العاملة الجنسيّة، وفي نفس الوقت؛ بدأ التّعلم الجنسيّ ينفكّ نسبيًّا عن إطار الزّواج بالنسبة إلى الفتاة، لأنّها لم تعد تنتظر الزّواج لتعيش تجربتها الجنسيّة الأولى ، لكن وجب الإشارة إلى أنّ كثيرًا من الشّبان عاجزون عن الحصول عن شريك جنسيّ، أو – حتّى في حالة الحصول عليه – لا تكون التّجربة الجنسيّة مكتملة ارتباطًا بانعدام الفضاء المناسب من جهة، وبهاجس الحفاظ على غشاء البكارة أو تجنّب حمل غير مرغوب فيه من جهة أخرى، لذلك؛ نجد أنّ الحصول على تجربة جنسيّة مكتملة وتعلميّة، لازال مقترنًا بالعاملة الجنسيّة )العالم القرويّ خصوصًا(. يخلص هذا البحث إلى أنّ ما يعيشه المجتمع المغربيّ من تضخّم بنيويّ، اجتماعي وذهنيّ، للعمل الجنسيّ، لا يكمن في توظيف الجسد بقصد ضمان التّعلّم الجنسيّ، والإعالة الدّنيا الضّروريّة )رغم أنّ الفقهاء أباحوا ذلك(؛ بل في الاستجابة العمياء لمطلب الاستهلاك السّائد، وفي إرادة الاغتناء أيًّا كانت الوسيلة ، إنّه استجابة لأزمة شغل. مؤشّرات العمل الجنسيّ في المغرب: عرف العمل الجنسيّ في المغرب مجموعة من التّحوّلات السّوسيولوجيّة في العقدين الماضيين؛ حيث برز ما يمكن تسميته )العمل الجنسيّ الرّجوليّ(، كمنافس قويّ للعمل الجنسيّ النّسويّ، الّذي يرتبط أساسًا بأسباب مادّيّة، ويشكّل – أيضًا – غطاءًا للمثليّة الجنسيّة المقترنة باللّذة الجنسيّة المرفوضة اجتماعيًّا وثقافيًّاً. إنّ تطوّر هذا النّمط من العمل الجنسيّ، يقترن – أيضًا – بتحوّلات بنيويّة تخصّ مفهوم "الجنس " و "الجنسانيّة "، داخل فضاءات عامّة واجتماعيّة تعرف حركيّة فكريّة وإيديولوجيّة متماهية مع قيم "العلمنة و "اللّيبراليّة الجديدة "، يتعلّق الأمر بالجامعة كونها فضاء فكريًّا وأكاديميًّا تحوّل إلى "قلعة مصفّحة ،" لإنتاج الشّروط الاجتماعيّة والموضوعيّة والفكريّة لبنية الجنسانيّة المعاصرة. العمل الجنسيّ الذّكوريّ: في ظلّ غياب دراسات سوسيولوجية حول تطوّر العمل الجنسيّ الرّجاليّ، يصعب تقديم تفسيرات عامّة حول الشّروط الموضوعيّة والاجتماعيّة الّتي تدفع الرّجال إلى اختيار العمل في مجال الجنس، أو حتّى إحصاءات حول نسب العمالة الجنسيّة الذّكوريّة، لكن يمكن الإشارة إلى أنّ المعطيات الميدانيّة الأوّليّة تبيّن لنا اقتران العمل الجنسيّ الذّكوريّ مع نساء الطّبقات العليا، دلالة على قلب موازين القوى الاجتماعيّة استنادًا إلى البعد المادّيّ، وبروز منافسة قويّة لعمّال الجنس المغاربة من طرف عمال جنس إفريقيا جنوب الصّحراء الموجودين في المغرب. في ظلّ هذه التّحوّلات الجنسانيّة المعاصرة الّتي مسَّت حقل العمل الجنسيّ، يمكن الحديث عن تغيّر في تمثّل الرّجل لجسده، فبعدّه أداة جنسيّة، أصبح جسد الرّجل – بدوره – منجمَ متعة جنسيّة، ورأس مال يوظّف في السّوق الجنسيّة من أجل تحقيق مكاسب مادّيّة، وأصبح الجسد سلعة جنسيّة قابلة للبيع والشّراء ، والعمل الجنسيّ الذّكوريّ – كما أشرنا سابقًا – مقترن بشكل كبير بالعامل المادّيّ والاقتصاديّ، ففيما مضى كان الشّباب المغاربة يحلمون بالهجرة إلى الغرب من أجل اقتناص المتعة الجنسيّة، اليوم، نشاهد العكس؛ الشاب يجعل من قدراته الجنسيّة وسيلة للهجرة ، ويتحوّل البحث عن الهجرة – بفضل الجنس – إلى بداية الوقوع في العمل الجنسيّ. في بحث وطنيّ – كميّ وكيفيّ – شمل مجموعة من المدن المغربيّة، حول الصّحّة الإنجابيّة والهويّة الرّجوليّة ، خلص الباحثون إلى كون التّعامل الاجتماعيّ والثّقافيّ مع العمل الجنسيّ المثليّ، أصبح–نسبيًّا – أكثر تفهّمًا ومرونة، لأنّه يدرَك – كونه عملا جنسيًّا – يبحث بالرّجل عن كسب لقمة عيشه أكثر ممّا يدرك الشّاذّ؛ حيث يقال: إنّه يضطر إلى عرض جسده بسبب انعدام فرص الشّغل، وإنّه يضحّي من أجل إعالة نفسه وأسرته ، على عكس الجنسانيّة المثليّة "النّفسيّة " الّتي توصم أخلاقيًّا بأنّها )فعل لارجوليّ ، ولا إنسانيّ او ثقافيّ( أحيانًا. علاء عسلي