هم قليلون الذين يحظون بشهرة عالمية كالتي حظي بها المخرج العالمي الراحل -مصطفي العقاد- في فلميه (الرسالة وعمر المختار) اللذين حققا حضوراً فاعلاً على الصعيد الشعبي والفني وشكلا طفرة نوعية في ترتيب تجربته السينمائية، إذ عدتهما الكثير من الأوساط السينمائية نموذجاً لرسالة الفنان الخالد الذي يعبر عن روح وأصالة الأمة في وجودها وكيانها وقيمها وأفكارها. إذ شكل هذان الفلمان نقطة انطلاق في رؤية التحول العصرية إزاء موضوعات الحس ألتأريخي من جهة والوعي التأريخي من جهة أخرى ، وتحليل قيمهما ومادتهما وإفساح المجال لهما بالتقولب مع الشكل والمضمون بغية التحرر من هيمنة الواقع التأريخي المنتج لها. وكما أكد في مناسبات عدة: إن رؤيتي السينمائية تتعلق بسؤال الحاضر القاتم الذي يتطلب منا الإفلات من رقبته الخانقة واللجوء إلى التحليل وإعادة قراءة التأريخ والمجتمع بحثا عن خطاب جديد. ولذا كانت تشكل هذه الرؤية قوة لفلسفته الفنية التي تحاول أن تعيد ترتيب المحدد والرئيس لدلالة الحكاية التأريخية وتحويلها او تحريكها داخل منظومة التطور الفكري السينمائي الذي يرى في النص القديم مولدا يفرض على الفن أن يجد له شكله المناسب. وبهذا المنطق أو الأسلوب سعي مصطفي العقاد إلى ترسيخ تجربته وتكريس مفهومه في تشكيل خطابه الفني المتميز في معالجات الواقع التأريخي. ومن دون أن تبهره حضارة الغرب وعلى وجه الخصوص مؤسسات (هوليوود) العملاقة بإمكانياتها التقنية والتكنولوجية التي أسهمت في صنع خبرته الفنية وذائقته السينمائية ليجد إن أصالته لن تتحقق ولا يمكن لها أن تنفرد إلا من خلال مفهوم خاص يستقل عن تأثير السينما النمطية والواقع الاستهلاكي لها. فنري في فيلم -الرسالة- لم ينظر إلى الإسلام كدين وعقيدة في سياق الحركة والظهور التاريخي وأينما كان ينظر إلى المسألة من زاوية نشوء حضارة تقوم على تحول جذري في حياة وأوضاع البداوة والوثنية التي كان يغرق بها المجتمع العربي . وهنا حري بنا أن نسأل: إذا كانت النسخة العربية في الفيلم تحمل بعضا من معطيات هذا الفهم في تجليات الخطاب المعرفي للموضوع، فماذا أراد أن يحقق في النسخة الانكليزية؟ مما لا شك فيه، إن النظرة السلبية عند الغرب تتحدد كما يذهب (روتر) إلى أن الإسلام والمسلمين جميعاً يتسمون أصلاً بالعنف والعدوانية وبذلك فهم يمثلون تهديداً للحضارة الغربية، وهذا بالطبع غير خاف عن أنظار القارئ العربي الذي وجد من قبل مثل هذا الانحراف والتطرف مأخوذا من فرضية العدو الوهمي التي شكلت علي مراحل تأريخية متفرقة الكثير من الأحابيل والأباطيل المزعومة والموهومة ومن ثم تمتد في سياق المخاوف الغربية لتضاعفها نظرية هنتنكتون في صدام الحضارات كي يتبلور داخل المتخيل الغربي بإسقاط أوهامه على علاقته بالإسلام.. وخصوصا مفهوم الجهاد، فالغرب لا يفهم معني الجهاد وقصور هذا الفهم خلق منطقا استعماريا جديدا كما يعتقد السويدي -انكمار كارلسون- في التعامل السلبي تجاه المفاهيم الإسلامية الراقية التي لا تسوغ أي منطق لشكوك الغرب، ولكن ظلت هذه الصورة تشكل عنصر التهديد الوهمي لأغراض إيديولوجية في المقام الأول كما أشار إلى ذلك المفكر الفرنسي غارودي. نعود الآن إلى تساؤلنا السابق بشأن ما أرادت أن تؤكده النسخة الانجليزية من الفيلم، رغم ادراكنا المسبق أن المحتوى ينبع من ذات النص وبذات المواصفات والقياسات التي تؤهله فنيا / أدبيا وفكريا سواء كانت النسخة عربية أو أجنبية والأنكى من ذلك إن لغة السينما هي بأختصار قطعة موسيقية عابرة للقارات كما يحدثنا جان رينييه ، ولكن كان يعرف بالضبط متى تحتاج هذه الصناعة إلى عوامل الإسناد في استقطاب التلقي / المشاهدة لفلمه ، وفي هذا الصدد يقول الممثل العالمي المعروف -انطوني كوين- كان هذا الفيلم مناسبا تماماً أن يقلص المسافة بين الأديان وأن يعيد إلى الواجهة إمكانية التعايش الروحي والإنساني والأخلاقي. في حين أكد بعض المخرجين العالميين ومن ضمنهم -ميكائيل انجلو انطوينوني- وكما هو معروف عن هذا الفنان الايطالي تميزه بدقة الملاحظة في تقويم الأفلام على مختلف مستوياتها وتشكلانها وكان من المرشحين دائماً لهيئة التحكيم الدولية، قال عبارة مشهورة بصدد فيلم الرسالة نوردها بالنص ...من إن السينما تستطيع أن تحقق ما يعجز عنه فلاسفة وكتاب كبار. أما الروائي المعروف -غونتر غراس- قال بعد مشاهدته الفيلم انه جسد لي في النهاية قيمة إحياء الرموز بشكل مذهل خطاب فني متكامل، لم تعتمد مشاهده على تفسيرات لنصوص دينية بقدر ما كان يرمز ويركز على عدة عوامل مشتركة فيما يتعلق بجوهر وروح الإسلام، وهذا بحد ذاته رؤية جديدة تضاف لهذا المخرج الذي فلت من عقال هيمنة المخرجين الذين كرسوا الرؤية الدينية في الغرب نحو ظواهر تنحصر في نزعات لا تخلو من (نظرية دارون أنموذجا).. وهي إشارة إلى فيلم (محاكمة القرد) الذي انتصر فيها الأصوليين البروتستانتيون علي أستاذ جامعي ومنعه من تدريس نظرية دارون في أصل الأنواع، وهو سياق كثيراً مل لجأت إليه السينما الغربية في تحميل الظاهرة الدينية تبعات الفكر العقائدي والإيديولوجي خاصة فيما يتعلق بالصلة بين الباعث الأصولي ومشروع الحداثة. أما المخرج الأمريكي -ستانلي كوبريك- الذي اشتهر بمواقفه المناهضة للنزعة العسكرية وتحديه المستمر لعالم تسيطر عليه الغرائز والقوة كما رأينا ذلك في الكثير من أعماله ومنها فيلم (البرتقالة الآلية) الذي يزيل من خلاله الحدود بين الحقيقة والمبالغة ليقدم لنا -اليكس- أحد السياسيين الكبار لمحاولة تخليصه من روحه العدوانية ولكن تلك الروح الشريرة تبقي على ما يبدو تحمل معها عيوبها إلى النهاية، أشار هذا المخرج لأسلوب العقاد في فيلم الرسالة، بأنه رسالة حقيقة فعلاً إلى هذا العصر ومدرسة تعيد إلينا أمجاد العمالقة مثل ايزنشتاين وبازوليني وفلليني، انه ضاعف من نظريات السينما في محاكاة التأريخ للواقع عبر مشاهد إنسانية تعني بالعقل والروح معاً. أما في فيلمه التاريخي الآخر -عمر المختار- فكان نموذجاً لفيلم المقاومة الباسلة ضد الاستعمار، وكما سجلت اليابان شريط الحرب والبشر للمخرج -ياما موتو- وكما سجلت يوغسلافيا العديد من الأشرطة البطولية الرائعة ذات البعد التأريخي الذي جسد بطولات الشعب اليوغسلافي ضد النازية والاحتلال بقيادة -جوزيف بروز تيتو- وكما نري إن الكثير من الأمم سعت إلى تقديم فيلم المأثرة وفيلم التضحية والمأساة والبطولة والتحرير والمقاومة والبسالة، اختار العقاد أسلوبه الخاص في تجسيد بطولة الثائر العربي الليبي -عمر المختار- على الشاشة، إذ تميز هذا الفيلم بتحليل المنطق الأخلاقي والاجتماعي لحقيقة الظرف التأريخي والمطلق الميتافيزيقي (الديني) الذي يتحرك فيها البعد النفسي والعاطفي بشكل ملحوظ وتنعكس بالتالي على شكل شحنات لروح المقاومة. إن الفيلم لا ينتهي كما يتصور بعضهم بإعدام عمر المختار في قريته وأمام شعبه بل يسعي برؤى وجدانية إلى ما وراء حدود الحقيقة إذ يخاطب الفيلم كل حواس الإنسان وجوارحه فكل مشهد يدور ضمن لغة سينمائية لها استجابة عميقة على ترك أثرها في المدى البعيد. وكأن ما أراد أن يصنعه عبر هذه الأفلام التاريخية بالتحديد ، هو أن يضع معياراً جديداً للفيلم التأريخي تجاه ثقوب العالم السود وكما وصفها المخرج الفرنسي -ألان رينيه- بأنها ثقوب قد تدمر بشكل كبير وهائل معطيات العصر في نهاية المطاف ، وعلى هذا الأساس علينا أن لا نهمل الذاكرة في إنتاج الإلهام والرؤى التي تساعدنا علي الكشف عن الوجه الحقيقي لسفاكي دماء الشعوب. ولذا كانت شخصيات العقاد في الفيلم تتبلور بطبيعة الحرب اللانسانية بشكل غير عادي، إذ نري الحالات النفسية والروحية تستمد من تراثها العربي لحمة وتعاضداً وهوية فاعلة في رهان المنازلة، فأن الزغاريد التي ترتفع لحظة الشنق وسقوط النظارة التي يلتقطها الصبي أثناء تدافع الحشد كلها رموز تتحرك في أعماق وصميم المشاعر وتساعد علي خلق أجواء حميمة ليس فقط للتعاطف الإنساني والحسي والنفسي مع الحدث بل في تجليات الرؤية المستقبلية للحدث التأريخي . عباس خلف علي ''الفوانيس السينمائية'' نرجو التفضل بذكر المصدر والكاتب عند الاستفادة