تعرض الصالات السينمائية الهولندية هذه الأيام فيلم (المليونير المتشرد) Slumdog Millionaire للمخرج (داني بويل) والحائز على عدة جوائز نذكر منها ثماني جوائز أوسكار من بينها أوسكار أحسن مخرج.. الفيلم هو عبارة عن ظاهرة سينمائية جديدة تغلغلت بقوة داخل الوسط الفني الهندي وخلقت جدلية توافقية تدعو إلى مراجعة الأسلوب التاريخي لبليوود و تفكيك وتحليل نموذج المليونير المتشرد للوقوف على سر نجاحه العالمي، ولم لا يتم تكريسه كنظرية داخل المناهج السينمائية الهندية ؟. اقتبس الفيلم من رواية للكاتب الهندي (فيكاس سوراب) التي صدرت عام 2005 في نسختها الانجليزية والموسومة ب(كيو آند أي) (A & Q) أي سؤال وجواب، وقد حازت على جائزة كتاب الكومنولث قبل تحويلها للفيلم، الذي كشف لنا عن الحديقة الخلفية للهند مبتعدا بنا كل البعد عن الصور النمطية التي تحاول أفلام بوليوود ترسيخها في أذهان المتلقي، فرغم القصة الخيالية التي أثثت الشريط إلا أنه غاص في واقع موحل داخل المجتمع الهندي، ونقله لنا عبر ومضات زمنية خاطفة حددت ماهية هذا المجتمع والظواهر المحيطة به. تميز الفيلم بديناميكية مطلقة اعتمدت على تسارع الأحداث والفلاش بكات المتلاحقة التي تتداخل بانسيابية تامة معرية عن فترات ومراحل تاريخية عاشها البطل، وقد نجحت هذه التقنية تماما في تخطي حاجز الرتابة التي تتميز بها أغلب الأفلام الهندية، كما أنه جانب الأسلوب التقليدي المتبع في مثل هذه الأفلام لتمرير الخطاب، ونفذ من خلال الوسائل البصرية والذهنية لفكر الجمهور، دون الالتفاف ببلاهة حول الأحداث لخلق الإثارة والتشويق، وأول ما يلفت انتباه المشاهد، عنوان الفيلم، الذي وضع بذكاء مبتعدا عن العنوان الأصلي للرواية سؤال وجواب، وقد حدد لنا هذا العنوان مسبقا الإطار العام الذي سنتحرك داخله معتمدا على ثنائيات متضادة، المليونير والمتشرد، التي تجعلك تطرح علامة استفهام كبيرة جدا تحول اهتمامك كله وتركزه حول كيفية معالجة الفيلم لهذه الثنائية، التي تتكشف شيئا فشيئا داخل سياق الأحداث، كما أن حصول البطل على الملايين في نهاية الفيلم، ليست الهدف في حد ذاته، لأن العنوان حدد مسبقا النتيجة، بل أصبحت هذه النهاية فرعية أريد بها الوصول إلى نهاية أخرى أكبر وأعمق، نهاية تخاطب وجدان وفكر الجمهور في آن، وهذا خطاب فني ثوري في جوهره، راق في أسلوبه، قائم على الاحترام المتبادل بين المخرج والمشاهد. بداية الفيلم دفعتنا إلى اتخاذ موقف دفاعي تجاه الأحداث المتسارعة التي أخذتنا على حين غرة، عبر عدة أزمنة وأمكنة تختلف باختلاف السؤال المطروح، إذ حولت الدفة نحو اتجاه معاكس تماما للتخمينات المسبقة، تمثلت في جلسات التعذيب والاستنطاق التي عاشهما البطل داخل مركز الشرطة على اعتبار أنه مخادع ومحتال وله دراية بكل الأسئلة المطروحة، بعد وشاية من مقدم البرنامج، لكنه في الأخير نجح في اقناع الضابط ببراءته ليتم نقله إلى الاستوديو لإتمام المرحلة الأخيرة من برنامج المليونير الشهير، وفعلا ينجح في ذلك، ويتخطى الحاجز الأخير المستعصي للمرور إلى المليون، وفي نفس الوقت الالتقاء بحبيبته التي من أجلها شارك في المسابقة. المليونير المتشرد عالج أحداثا درامية عن طريق سؤال جواب، وكل حدث معين ينبثق من سؤال معين يطرحه منشط برنامج المليونير في نسخته الهندية على جمال بطل الفيلم، لتنطلق بعد ذلك الكاميرا صوب المجهول مستكشفة أغوار المجتمع الهندي بتناقضاته، تارة تتجول داخل الأحياء الهامشية الفقيرة، وتارة أخرى تنقلنا معها إلى أماكن سياحية أو أحياء مترفة، تعكس الوجه الآخر للهند، وبين هذا وذاك يتبلور جواب السؤال، وكل جواب يعكس مرحلة معينة، قاسية، عاشها جمال بين أحضان المتشردين، متخذا من الشوارع ملجأ له، شوارع أضحت أداة ثقافية بشكل لم نعهده من قبل، ساعدت صاحبها على تسلق قمة الشهرة والمال بدون ولوج المدارس أو التوفر على ذكاء خارق للعادة، هذه الشوارع التي انبثق منها تياران واحد «موجب» والآخر «سلبي» إن صح التعبير، جمال، وسليم، إخوة في الدم لكنهما مختلفان تمام الاختلاف في كل شيء، واحد يفكر في الوصول بأية طريقة، متخذا الإجرام سبيلا، لتكون نهايته مأساوية، والآخر مستخدما عقله ورزانته في معالجة أموره، متخذا من حبه للاتيكا منبعا لحياته وسندا لاستمراريته. نجح المخرج (داني بويل) في بلورة رؤيته الفنية وإيصالها بشكلها المطلق إلى عموم المشاهدين في العالم أجمع، هذه الرؤية لن يتسنى لها النجاح لولا احتكاكه بالثقافة الهندية وتجوله داخل أروقتها الخفية، كما أن اعتماده على الرواية التي أعتبرها ذات بعد عالمي، إنساني، رغم انحصار أحداثها داخل مجتمع معين، ساعدته على كشف الرسالة الخفية التي لم تبق سجينة إطار محدد، بل تعدته لتشمل كل النواحي الإنسانية التي لا تكاد تخلو منها باقي المجتمعات الأخرى، هذه الرسالة التي لم تمسس ثقافة معينة بحد ذاتها، بل انتشرت وتغلغلت متخفية بطواق ثقافية متعددة، لم تترك للقارئ أو المشاهد المجال للإحساس بإشكالية الرفض والقبول، وهذا ما يؤرخ لفصل جديد من الموازاة بين الصورة والكلمة في عمقها التكميلي، الرواية والسينما، في حلة جديدة معاصرة، وبتقنيات سمعية بصرية تتطلب الإبداع قبل كل شيء، فالفيلم لم يترك المشاهد سجين خياله، بل دفعه إلى الغوص في مستنقع الأحداث والشخصيات المتلاحقة بأسلوب روائي سردي سلس، ترك الجمهور يقرأ الرواية من خلال الصورة، هذا التوازي، تركنا نعاين بدقة المصير الاجتماعي، والإنساني، والحضاري، في تحولاته المختلفة عبر مراحل داخل مجتمع منكفئ على نفسه ثقافيا، وكما قلت سابقا إن هذا المجتمع صورة متكررة من مجتمعات عدة تعيش نفس لحظة الفعل أي التحول الجذري من الماضي إلى المستقبل مرورا بالحاضر، ومن هنا فالرواية والفيلم معا شاركا في صنع ردة فعل متقنة كنتيجة طبيعية لمعادلة إبداعية جمعت بين روائي هندي عايش هذه التحولات ونقلها بأمانة من خلال الكلمات، ومخرج أجنبي حافظ على هذه الأمانة ليبلورها بعد ذلك عبر الصورة بطريقة فنية رائعة، دفعت بالفيلم إلى استخلاصها كموضوع نابض بالحياة. بقلم: زويريق فؤاد / كاتب مغربي مقيم بهولندا هذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته لفوانيس السينمائية