* على سبيل البدء : باتت الأساليب السينمائية متعدّدة في المجال السينمائي المغربي، حيث أدّى تكاثر الإنتاج إلى تحقيق نوع من الاختلاف الفني بين هذه الأفلام ولو بشكل نسبيّ، ولا سيما بعد أن تحدّث النقد السينمائي، في كثير من الأحيان، عن مرحلة التشابه التي سادت في المرحلة الأولى من حيث توجه السينما المغربية نحو المواضع الاجتماعية والتركيز على البعض منها دون الآخر. هكذا أصبحنا نرى من جديد، ومن وقت لآخر، بعض الأفلام المغربية تتجه نحو سينما المؤلّف، وتحاول التوفيق بينها وبين سينما الجمهور، رغم أن هذا التقسيم النقدي الإجرائي بدأ يفقد لمعانه التحليلي السابق، وهو أمر مستحسن، إذ قدّم لنا أفلاماً مغربية مهمة، نذكر منها فيلم «في انتظار بازوليني» للمخرج داود أولاد السيد، وهو فيلم حظي باهتمام كبير في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، واعتبر من أجمل الأفلام العربية التي قدمت في هذا المهرجان، وفيلم «يا له من عالم جميل» للمخرج فوزي بنسعيدي الذي ترك هو الآخر صدى طيّباً في الأوساط السينمائية، واستطاع نيل بعض الجوائز، وفيلم «عود الورد» للمخرج لحسن زينون الذي أمتع المشاهدين وذوّاقي السينما في جميع الأمكنة التي عُرض فيها، و غير هذه الأفلام السينمائية المغربية كثير ... * فيلم "لعبة الحب" و لعبة الأقنعة : وفيلم «لعبة الحب» للمخرج إدريس شويكة، وهو فيلم حظي هو الآخر باهتمام بالغ في جميع المهرجانات التي قُدّم فيها، ومنها مهرجان تطوان السينمائي لسينما البحر الأبيض المتوسط ومهرجان الفيلم الوطني في طنجة وغيرهما. هذا الفيلم الذي تمّ اقتباس حكايته عن قصة للكاتب العالمي صموئيل بيكيت، وصياغتها من لدن الكاتب والناقد السينمائي المعروف محمد عريوس في سيناريو محكم الصنع وقوي البناء، تميّز بالإضافة إلى ذلك بكثير من الجمالية الإبداعية لغة وتشكيلاً بنائياً متكامل العناصر والرؤى. أما من حيث توزيع الأدوار فقد وُفِّق المخرج إدريس شويكة فيه إلى حدّ بعيد، حيث أسند الدورين الرئيسيين في الفيلم إلى كل من الفنان والموسيقي المعروف يونس ميكري والممثلة آمال عيوش، في حين وزّع بقية الأدوار على الفنانين حنان نزار وكوثر الوزاني.. يتطرق الفيلم إلى لعبة الحب، وإلى لعبة الأقنعة التي يتخذها تبعاً للطرفين المجسّدين له، إذ نرى الصور وهي تتوالى متّخذة أبعاداً رمزية وواقعية، موضحة سرّ هذه اللعبة، وكاشفةً معظم خفاياها. هذه اللعبة التي هي لعبة حربائية لا يمكن كشف سرّها العميق إلا بالمعاينة المستمرّة والفكر الثاقب. هكذا ينفتح الفيلم على أبعاد إنسانية مختلفة، يحكمها المسار الذي توجد فيه، إذ نرى منذ البداية أن بطلَي الفيلم، الرجل والمرأة، جالسان في سيارة تعبر بهما الطريق نحو المجهول، لكن في هذه الطريق الملتوية حدّ الرهبة يصادفان سيارة أخرى في حالة رهيبة؛ سيارة تعرّضت لحادث سير مميت، حيث فارق راكبا السيارة معاًَ الحياة. ومن غريب الصدف أنهما يتطابقان شكلاً مع بطلَي الفيلم. وهذا يولّد الحيرة لدى المتلقّي ويجعله يتساءل عن المقصود من وراء هذه اللعبة السينمائية ذات البعد الفلسفي الواضح. هل هذا المصير المقدم، ومنذ البداية، هنا هو بشكل من الأشكال نهاية مسبقة وموحى بها لهذين البطلين أيضاً، أم إن التشابه الحاصل يبقى في الشكل، في حين أن مضامين المسار الإنساني تختلف من علاقة إنسانية إلى أخرى؟ هكذا يدخلنا الفيلم عبر قصّته التي تتمركز حول ثلاث محطات رئيسية، عند بداية اللقاء بين الرجل والمرأة صدفة في طريق عام، ثم بعد مرحلة نضج العلاقة بين الاثنين وامتداداتها البعيدة، حيث يبدأ الوعي بالحب وبإمكاناته اللامحدودة المليئة بالسعادة الحقيقية والمتوهّمة معاً، ثم في المرحلة الأخيرة حيث يبدأ الزوجان في قراءة وإعادة قراءة تجربتهما في الحب وفي استخلاص العبر منها والنظر بعيداً نحو المستقبل الآتي. هكذا يُدخلنا الفيلم، كما قلنا، إلى لعبة المتاهة وإلى تعدّدية زوايا النظر وإلى نوعية المرايا العاكسة لها، أو على الأصحّ لتجلياتها. *بعيداً عن اليوميّ : انطلاقاً من الحوارات التي تدور بين بطلَي الفيلم، وتأخذ في مجملها طابعاً فلسفياً يحلّل النفس الإنسانية في مختلف تجلّياتها، تتأسّس قصّة الفيلم التي تمتدّ عبر فضاءات مختلفة... تمتدّ بامتداد الطريق الطويل الذي تعبره السيارة. الرجل يقود والمرأة تجلس إلى جانبه، وحين يقرّران ولوج أحد الفنادق الكبرى، تأخذ اللعبة طابعاً تأمّلياً عميقاً في ماهية الحبّ وفي الرغبات الإنسانية المصاحبة له. فحين يجلسان معاً في أحد أمكنة الفندق المنفتحة على الآخرين تنهض المرأة معلنةً عن أنوثتها مثيرة بعض الرجال الذين مرّت بالقرب منهم وهي تتجه إلى مكان النظافة، في حين يظلّ رفيقها هادئ النظرات ينظر إليها ويستطلع ما قد تؤول إليه الأمور. أما داخل غرفة النوم فتتجلّى اللعبة في أقوى لحظاتها التعبيرية، وهي تأخذ طابعاً تجسيدياً من طريق لعبة الاستعراض الجسدي، حيث تعلن الرغبة عن حضورها. ذلك كلّه يتمّ وفق منظور فلسفيّ، يبحث في كينونة الذات وفي الآفاق المعبّرة عنها، ما يجعل الفيلم أكثر من كونه تعبيراً عن مجتمع محدّد، وإنما عن العلاقة الإنسانية الرابطة بين الرجل وبين المرأة في حدّ ذاتها، وهو ما دعا في الغالب إلى اعتمادللغة الفرنسية في حوار الفيلم ا، طيلة زمن الفيلم، ذات النزعة التأمّلية البعيدة عن لغة اليومي، بغية التركيز على توضيح هذا الطابع الإنساني العام بالخصوص. * على سبيل الختام : لقد شكّل هذا الفيلم استثناء جميلاً في التجربة السينمائية المغربية، إذ سعى من خلاله المخرج إدريس شويكة إلى تقديم صورة إنسانية لا ترتبط بالواقع بل ترتبط بالذات، ولا يرتكز تجسيدها على الحركة الخارجية بل على الانفعالات الداخلية، كما أن قوّة التجسيد التي تفوّق فيها كل من يونس ميكري وأمال عيوش، منحت له شاعرية سينمائية غاية في الإمتاع والجمالية المؤثّرة. نور الدين محقق ''الفوانيس السينمائية''