لعبة البيسبول تتحول لإحصاء رقمي ! لم أكن ارغب بمشاهدة هذا الفيلم لأني لا احب أصلا الأفلام التي تستند لقصص البطولات الرياضية ، ربما لأنها تعتمد على عناصر التكرار والإثارة والنجومية ، ولكن بعد أن قرأت انه ينافس عشرة أفلام مرموقة على قائمة الأفلام المرشحة لجوائز النقاد السينمائيين قررت مشاهدته ، ولم يكن خياري خائبا فالفيلم يعد تحفة سينمائية من حيث السيناريو والإخراج والبطولة . انه يتحدث باختصار عن قصة مدير عام لفريق بيسبول أوكلاند واسمه بيلي بين ( الممثل براد بيت ) ومحاولاته المستميتة لاسترجاع مجد فريقه ضمن ميزانية متواضعة ، وذلك اعتمادا على تحاليل الحاسوب الإحصائية لاختيار أحسن اللاعبين . الفيلم من إخراج بينيت ميلر وسيناريو ستيفن زيليان وآرون سورتين ، وبطولة كل من براد بيت وجونا هيل وروبين رايت والممثل المخضرم فيليب سيمور هوفمان ، وهو يستند لكتاب ناجح ظهر في العام 2003 بنفس العنوان ومن تأليف ميشيل لويس .حصل هذا الفيلم على معدل 87% استنادا ل 41 مراجعة سينمائية نقدية ، وهذا يجعله فيلما منافسا على الاوسكار ، كما أنه حصل على ترشيحات هامة من معهد السينما الأمريكي كأحسن فيلم ، وحيث رشح براد بيت كأحسن ممثل وجونا هيل كأحسن ممثل مساعد ( وربما يفوز بها للأداء الطبيعي المبهر )، كذلك نسب نسب كل من ستيفن زيليان وآرون سوركي لأحسن نص سينمائي وسيناريو . وقد كان متوقعا من المخرج الفذ ستيفن سودربيرغ أن يقوم بإخراجه ( صاحب أفلام رائعة كترافيك واوشن 12 والعدوى )، واستعد بالفعل لذلك بإجراء مقابلات مصورة مع لاعبي بيسبول حقيقيين ، بغرض تضمينها للشريط ، إلا أن معارضة مدير شركة كولومبيا على التعديلات التي أجراها على النص الأصلي أدت لاستبداله بالمخرج بينيت ميلر .
القصة الحقيقية ! غضب بيلي بين ( براد بيت ) لفشل فريقه أمام فريق يانكي نيويورك في مباراة حاسمة أجريت في العام 2001 ، وتزايد غضبه مع ترك ثلاثة لاعبين محترفين لفريقه ( وهم ديمون وجيامي واسرنغهاوس ) ، ثم حاول جاهدا بناء إستراتيجية جديدة لاستعادة مجد فريقه ، ولكنها اصطدمت بسقف الميزانية المحدودة ، وخلال زيارته لكليفر انديانس التقى بالشاب الطموح بيتر براند (جونا هيل ) ، وهو خريج جديد من جامعة يال في الاقتصاد وصاحب أفكار ريادية في كيفية تقييم اللاعبين ، حيث قام بامتحانه نظريا طالبا منه تقييمه عمليا كلاعب سابق للبيسبول وقد فاجئه براند عندما أخبره بصراحة انه ما كان ليختاره لاعبا قبل الدورة التاسعة ، وانه كان ربما من الأفضل لبيلي أن يذهب للجامعة بدلا من احترافه لهذه اللعبة ! واجه الفريق الإداري الاستشاري المخضرم انضمام براند للفريق بسلبية وعدائية واضحة ، وخاصة باعتبار صغر سنه ، ونظرا لاسلوبه ألتقييمي الغير تقليدي والمبني أساسا على الإحصاء الحاسوبي ، بدلا من الاعتماد على الخبرة الانطباعية المتراكمة . وخاصة انه نجح بمساعدة براند في تشكيل فريق جديد من اللاعبين المهرة (قليلي الحظ ) وأصحاب قدرات كامنة ، وبمراعاة سقف الميزانية المتوفرة . ولكن هذا الوضع أدى لمواجهة صعبة بين بيلي بين ومستشاريه المخضرمين وعلى رأسهم آرت هوفي ( فيليب سيمر هوفمان ) قائد الفريق الميداني ، وأدى التحدي لقيام بيلي باستبدال لاعب نجم اسمه كارلوس بشكل مباغت ، لإجبار هوفي على تقبل الأمر الواقع ! كما أنه اضطر للدفاع عن خياراته أمام مالكي الفريق ومموليه ، وأدت هذه التوليفة الجديدة لأن يربح الفريق 20 لعبة متوالية مسجلا أسبقية في تاريخ البيسبول ، متفوقا بجدارة على فريق كانساس سيتي المشهور . يلعب براد بيت هنا دورا متميزا بطابع عصبي ( يذكرنا باسلوب آل باتشينو ولكن بلا مبالغة ) ، حيث يجمع في آن الهدؤ والقلق والتوتر مع قوة الشخصية ، وحيث يكون مع مساعده الشاب جونا هيل فريقا إداريا متكاملا وقادرا على اتخاذ القرارات الصائبة بسرعة وحزم ودونما تردد ، وفي لقطة صامتة معبرة نشاهد بيلي بين يحضر على غير عادته المباراة الحاسمة ، وذلك رضوخا لرغبة ابنته المراهقة ليشاهد انهيار فريقه فجأة بعد نجاح متلاحق يحبس الأنفاس ، وبراند يرمقه عن بعد بقلق وتعاطف ! هكذا أثبت بيلي في الختام نجاح نظريته الإحصائية الجديدة ، وضيع فرصة الحصول على منصب المدير العام لفريق بوستون ريدسوكس ، مما كان سيجعله أغلى مدير عام في تاريخ لعبة البيسبول ( براتب سنوي قدره 12 مليون دولار ) ، علما بأن الفريق المذكور كان قد نجح فعليا في تصدر البطولة في العام 2004 ، بفعل التطبيق الناجح لنظرية " بيلي-براند " الإحصائية ! ولكن لماذا رفض بيلي المنصب والثراء وجني ثمار جهده مع براند ، ربما لأسباب عاطفية تتعلق بحبه الأبوي لابنته المراهقة الرقيقة وخاصة انه منفصل عن زوجته , وربما لأسباب تعزى لطبيعة المبدعين اللذين لا يرون في المال والثراء وبريق الشهرة أهدافا جذابة ، وهنا تذكرت ستيف جوتس (مخترع الآي باد ومؤسس شركة أبل ) وتواضعه وسعيه الحثيث للإبداع والابتكار ، وبدا وكأن الثراء والمال لم يكن هدفه الأسمى إنما وضع نصب عينيه وهدف حياته الابتكار والإبداع ، حتى انه قال بعد أن تم عزله من أبل :" كان عزلي هو أفضل شيء يمكن أن يحدث لي ! بدلا من العبء الثقيل بسبب النجاح ، جاء العبء الخفيف بالبداية من نقطة الصفر ، وجعلوني أحسن بأن صرت حرا أكثر من أي وقت مضى ! " فهل فكر بيلي بنفس الطريقة عندما رفض المنصب الجديد ومغرياته ؟ وسأسمح لنفسي بالاستطراد والخروج قليلا من سياق الموضوع منوها بالنمط المتواضع لسلوك شخصيتي بيلي بين (في الدور السينمائي كمدير عام لفريق بيسبول ) وفي التواضع المهيب الذي كان يظهر به الراحل ستيف جوتس ( من حيث اللباس والسلوك والابتسامة )، وذلك بدون الإخلال بمتطلبات المنصب والحزم وقوة الشخصية ، وفي هذا السياق سأقتبس نصا معبرا من إحدى المقالات الرائعة للكاتب الأردني فهد الريماوي : " يندر أن تجد ثريا أو سياسيا أو مهندسا أو محاسبا أو طبيبا أو ضابطا أو موظفا أو مثقفا يتسم بالتواضع ، ويتصف بالتبسط ، ويتحلى بالاتزان والكياسة ونكران الذات ....فالكل مسافر في قطار الغرور ، والكل مبحر على متن الغطرسة ، والكل معبأ بأسوأ مفردات التكبر والادعاء والخيلاء !" ( صحيفة المجد الاسبوعية / العدد 517/ شباط 2007 ).
الواقعية الحافلة بالتفاصيل المذهلة ! الفيلم مصاغ بطريقة واقعية حافلة بالتفاصيل الدقيقة ، يدفعك كمشاهد لن تركض لاهثا ، مركزا على الأحداث التي تدور خلف كواليس اللعبة ، مكتفيا بلقطات رياضية مختصرة ومعبرة ، وكأنه يحاول شرح معادلة رياضية للمشاهدين ، بغرض إقناعنا بصحة النظرية الإحصائية ، مؤكدا أن النجاح يبدأ في الذهن والإرادة الحديدية وركوب المخاطر سعيا للريادية والإبداع ، ولا يكون بالضرورة مع نمط التفكير التقليدي ، كما انه يثبت مقولة " الحاجة أم الاختراع " ، فلولا الميزانية المتواضعة والإمكانات المحدودة لما أقدم بيلي بين على مغامرته واختياره لشاب مبتدئ ذكي لكي يواجه مجموعة مخضرمة من الخبرات التقليدية العريقة بغرض اجتراح المعجزات . يقول براند لبين في اول لقاء بينهما أن الأهم هو الفوز وليست أسماء اللاعبين ونجوميتهم ، وهذا ما لاحظناه في المباراة النهائية لكأس العالم بكرة القدم والتي عقدت في جنوب أفريقيا ، عندما تغلب الفريق الاسباني لبراعة المدرب وحسن تخطيطه وإدارته للفريق ، وحيث خرجت من التصفيات النهائية فرق عالمية مشهورة لأنها اعتمدت أكثر على نجومية اللاعبين ومهاراتهم الفردية ! وربما لو اخذت نظرية الإحصاء هذه بجدية لأحدثت ثورة في عالم مباريات كرة القدم وغيرها من الرياضات العالمية الجماعية ، مما قد يؤدي لإضعاف مفهوم النجومية والكسب والإنفاق الطائل للأموال وقد يغير ذلك من مسار الأعمال وسوق النجوم ، وهذا طبعا لن يعجب الكثير من المنتفعين وعلى رأسهم نجوم الرياضة والكرة تحديدا وأصحاب الأندية الرياضية ! بقي أن أقول أن شخصية الشاب " بيل جيمس " الذي ظهر كمساعد لبراد بيت كخريج لامع في الاقتصاد من جامعة يال ، فهو في حقيقة الأمر شخصية حقيقية ، درست بالفعل الإحصاء المتقدم للاعبي البسبول ، ويدعى واقعيا " أب قياسات سابر " ( الاسم المختصر للجمعية الأمريكية لأبحاث البيسبول ) ، كما أن العديد من الممثلين الثانويين اللذين ظهروا كلاعبين في الشريط يملكون بالفعل خبرة حقيقية كلاعبين محترفين ، وهذا ما أضفى على الفيلم لمسة واقعية مدهشة جعلته يتقارب أحيانا مع الفيلم التسجيلي ، كما أن قوة الفيلم تنبع من استناده لقصة حقيقية ، مما يعطيه طابعا جديا يؤهله مع الإخراج الرائع لدخول حلبة المنافسة على الاوسكار . مهند النابلسي خاص ب: ''الفوانيس السينمائية'' نرجو التفضل بذكر المصدر والكاتب عند الاستفادة