لم يكن إلياس العماري مجرد سياسي طموح استطاع أن يرتقي مدارج النجومية السياسية في ظرف وجيز ويخترق دواليب القرار والسلطة بسرعة استثنائية. لقد جسد أكثر من هذا الإنجاز، فهو شاب في زمن الشيوخ والمتقاعدين وريفي في خريطة تهيمن عليها العائلات التي توارثت تركة القيادة، وعصامي في مواجهة قبيلة المهندسين التي تحتكر المناصب والمسؤوليات. بدأت هذه الحكاية في سياق تأسيس الوزير المنتدب في الداخلية فؤاد عالي العمة الحركة الشهيرة "حركة لكل الديمقراطيين" التي مثلت النواة الأساس لحزب الأصالة والمعاصرة. حينها كان السياق السياسي ينذر بنهاية مرحلة وبداية أخرى وبرز الشاب الريفي كالمنقذ الذي يستطيع التصدي لطموحات الإسلاميين في الهيمنة والتحكم. ورغم أن الرجل كان يقر بأن مستواه الدراسي لم يتجاوز الرابعة إعدادي إلا أن أبواب السعد انفتحت أمامه ليرافق في سفينة حركة لكل الديمقراطيين الكثير من نخب اليسار القديم ويحتك بصناع القرار ويقدم في ظرف وجيز على أنه رجل المرحلة المقبلة. غير أن المرحلة المذكورة لم تكن تحتسب أو تترقب أن يقوم الشاب التونسي محمد البوعزيزي بإحراق نفسه ويفتح قوسا تاريخيا استثنائيا أطلق عليه "الربيع العربي" الذي ركب عليه حزب العدالة والتنمية ليقضي على طموحات الوافد الجديد. في 2012 تصدر الإسلاميون الانتخابات وحصلوا على رئاسة الحكومة في ظل دستور جديد. لم تكن تلك ضربة قاضية لإلياس بل فتحت أمامه المجال واسعا لإثبات الجدارة بالرهان عليه كبديل مكافئ لرجل مثل عبد الإله بنكيران. لقد حاول إلياس العماري أن يلعب خلال رئاسة عبد الإله بنكيران دور المعارض المثقف الذي يحب أن يحذر من أخطار التنظيمات الإسلامية والفكر المتطرف، ومثلت بعض خرجاته الإعلامية في هذا الإطار لحظات أثارت اهتماما كبيرا حاول من خلالها العماري ملأ فراغ الوظيفة المنبرية في حزب الأصالة والمعاصرة. ورغم التصفيقات بدا أن التواصل والظهور المفرط للرجل أتى بنتائج عكسية عن صورته وشخصيته كقائد وزعيم حزبي. وبدل أن تقتصر معركته على مواجهة الحكومة وحلفائها اكتشف العماري أن زمرة كبيرة من خصومه توجد داخل الحزب الذي يقوده. ولم تفلح محاولاته بناء إمبراطورية إعلامية تابعة لحزب التراكتور في بناء صورة جديدة عنه. فبدأ الجميع يحصر قائمة الخسائر، بدء بالهزيمة الانتخابية أمام الإسلاميين مرورا بفشل المشروع الإعلامي وصولا إلى العجز عن توحيد صفوف الحزب وتنقيته ممن تسربوا إليه من حملة المشاريع الانتخابية الشخصية. في 7 أكتوبر 2016 تلقى إلياس العماري رصاصة الرحمة بعد خسارته الانتخابات التشريعية وهو يرأس الحزب هذه المرة أمام حزب العدالة والتنمية. ومنذ تلك اللحظة أصبحت هواية الرجل هي تقديم الاستقالات ومغادرة الميادين. ولربما كان من أهم منجزات الرجل هو ذلك الانسحاب من المسؤولية كلما خسر معركة من المعارك. إذ لم يتردد العماري طويلا بعد هزيمة 2016 حتى قدم استقالته من رئاسة الحزب وهي الاستقالة التي ظلت معلقة لشهور طويلة قبل أن يتم إقرارها في 2018 ويتم اختيار خليفة له لقيادة التراكتور. فهل كان الرجل ضحية طموحاته الكبيرة؟ يبدو أن قصة الياس العماري بدأت وانتهت بسرعة كبيرة ربما لأن العوامل المعيقة التي اعترضت "البطل" كانت كثيرة ومتشعبة. فحتى شباب الريف الذين دشنوا حركة احتجاجية دامت لشهور طويلة لم يترددوا في دق إسفين آخر في نعش مسيرته عندما اتهمه ناصر الزفزافي على لسان محاميه بالاتصال به وطلب التآمر على الملكية معه. وعلى الرغم من أن محامي العماري سارع إلى تكذيب هذه الاتهامات إلا أن حمي التصريحات التي كان يطلقها الرجل بين الفينة والأخرى لم يعد لها حدود في وقت من الأوقات وبدأت مواقفه تتخذ أبعادا راديكالية أحيانا عندما كان يتحدث عن طموحاته في بلوغ ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم. هذه الاستقالة الأخيرة لإلياس العماري من رئاسة جهة طنجةتطوانالحسيمة تسدل الستار إذا على آخر فصول هذا الصعود السريع إلى الهاوية الذي حققه رجل صنعته مفاجآت التاريخ وقتله مفاجآت التاريخ أيضا.