ثمة شبه إجماع، أننا لسنا مجتمعاً قارئاً. وثمة شبه إجماع أن الكِتَاب في أزمة. لا توجد عندنا مؤسسات استطلاع، بالمعنى العلمي الدقيق الذي نجده في الغرب، نعرف من خلالها ما الذي يجري بالفعل، وهل، حقّاً، نحن لسنا مجتمعاً قارئاً، وأن الكُتُب عندنا لا تجد من يقرأها، وهي موضوعة على الرفوف يأكلها الغبار، أو تتآكل بفعل النسيان. المعرض الدولي للكتاب، هو دائما فرصة لاختبار سوق الكتاب، ولمعرفة علاقة الناس بالقراءة، رغم أننا لا نستطيع أن نعرف ماذا يقرأ هؤلاء، وما الذي يشُدُّهُم إلى هذا الحَفْل السنوي، وهم كثيرون، من شرائح، وأعمار اجتماعية مختلفة، لكنهم، هنا، يَقْتَنُونَ الكُتُب، ويُقْبِلُون عليها، كُلّ حسب ذوقه، واهتماماته، وما يميل إليه من علوم ومعارف، ومن كُتُب، مهما كانت قيمتها، وطبيعة موضوعاتها، فهي كُتُب في النهاية، ثمة من تَسْتَهْوِيهِ، لأنه يَجِد فيها مُتْعَةً، ويقرأها بشَغَفٍ وانتباه، وما يجده فيها، ربما لا يجده في غيرها من كتب، لها هي أيضاً قُرَّاؤها، ومن تستهويهم، ويجدون فيها ضالَّتَهُم. لا أتحدَّث هنا عن القارئ النَّهِم، أو القارئ المُحْتَرِف الذي لا يحيا ويعيش دون قراءة، ودون كتاب، فهذا قاريء، حتَّى وهو يهتم بحقلٍ ما من حقول المعرفة، فهو يُفَرِّعُ ميولاته وانْشِغَالاته، ويجد نفسه، بالضرورة مَشْدُوداً إلى حقولٍ هي جداولُ النَّهْر نفسه، وهي كلها، في النهاية، تصُبُّ في المَصَبِّ نفسه، المعرفة والحق والخير والجمال. أما القارئ العام، فهو، بالطبيعة، يميل إلى جنس دون جنس، ونوع دون نوع، ويشُدُّه كاتب دون آخر، كما تشدُّه طريقة وأسلوب في الكتابة وفي النظر، غير باقي الطُّرُق والأساليب التي قد توجد عند آخرين، ولو كانوا من كبار الكُتَّاب. هذا القارئ، بالذات، هو من يَشُدُّ انتباهي في كل معارض الكتاب التي أزورها، سواء في المغرب، أو خارجه، لأنَّه هو القاريء الذي نتوجَّه إليه، ونعمل على وضعه في سياق ما نكتبُه، لأنه هو من يعطي الكتاب حياةً، يُحاوِرُه، ويقرأه بمتعة والْتِذاذٍ، عكس القاريء المحترف، الذي قد يقرأ، حتَّى والكتاب الذي بين يديه لا مُتْعَةَ فيه، لأنَّ قراءته، هي قراءة معرفة، وتساؤل، وقراءة تفكيك، وتحليل، ونقد. فالممارسة، وامتلاك أسرار القراءة، وأسرار الكُتُب والمعارف، وأدوات القراءة والتحليل، تجعل القاريء المحترف ينزل إلى الطبقات السُّفْلَى للكتاب، يقرأها بشغف الاكتشاف، لأنه يَسْتَنْطِقُ الكتاب، ويَسْتَمِع إليه وهو يتكلم، ويُحاوِرُه مثل المُحقِّق، الذي يستجوب مُتَّهَماً ما، ليعرف منه «الحقيقة». ربما هذا النوع من القراءة، هو ما يدفع هذه الفئة من القُرَّاء، التي تأتي إلى معرض الكِتَاب، وهي تعرف ما تُرِيدُه، وغالباً ما يكون في يَدِ كُلّ واحد لائحةَ كُتُب مُحدَّدَة يبحث عنها، ونسبة الصُّدْفَة في اقتناء الكُتُب، تكون ضئيلة، في مثل هذه الحالة. أما القارئ العام، فهو يدخل المعرض، ليكتشف، ليتفرَّج، يُشاهِد ويرى، ويَدُهُ تأخُذُه إلى كُتُبٍ، ربما لم يكن يُفَكِّر في اقتنائها، لذلك، فهو يتصفَّحُها لوقت أطول، ويُقلِّب صفحاتها، قبل أن يتركُها، أو يُؤدِّي ثمنها، ويعود ظافراً، بما سيكون زادَ معرفته، واكتشافه، وما قد يسْتَشْعِرُهُ من مُتْعَةٍ وفَرَح. هناك قُرَّاء. هناك بشرٌ يقتنون الكُتُب، هناك إقبال على معرض الكتاب، وهناك شغف بالمعرفة، ووحده الناشر، دائماً، من يدَّعِي أن الكُتُب لا قُرَّاء لها، وأن سوق الكُتُب تعرف رُكوداً، ولا أحد من هؤلاء بارتْ تجارتُه، أو أغلق دار النشر، وغيَّر حِرْفَتَه، بل هم مُسْتَمِرون، وينشرون الكُتُب، بغض النظر عن طبيعتها، وعن الانتقائية التي يمارسونها، قَهْراً، على جنس دون جنس، ونوع دون نوع، لكنهم ينعمون بالحياة، بفضل الكُتُب والكُتَّاب، وبفضل من يقرؤون في المجتمع، مهما كان عددهم، لكنهم يقرؤون.