بين ما يقلقني، ويجعلني شديد التوتر والانزعاج، هذا الوضع الذي نحن فيه، لا شيء، عندنا، استقام، ولا نحن خرجنا من منطقة الغموض والالتباس، إلى ما يمكن اعتباره وضوحا في الرؤية. العقل الذي هو محك الإنسان في مواجهة كل ما يقف في طريقه من مشكلات ومعضلات، يبدو أننا أَرَحْناه من التفكير والتعب، ورأينا أن نتركه خارج التفكير، بل وجعلناه يصلح لغير ما يصلح له، وحوَّلْناه إلى خشبة تطفو في الماء. ما نرى عليه الإنسان، عندنا، بات، في ذاته مشكلة، بل بين أخطر المشكلات، أو المعضلات التي تُؤثِّر في صيرورة المجتمع، وفي تطور فكر الإنسان نفسه. فحين يصبح الإنسان بلا عقل، أو هو خارج ما يدفع العقل ليشتغل ويفكر، فهذا معناه أن هناك أمراً جللاً يحدث في وجودنا، وأن المجتمع لن يكون بغير ما هو عليه من اختلال واضطراب، وما قد يبدو لنا أمْناً، هو أمن خادع، لأن أخطر ما يمكن أن يؤثر في المجتمع ويجعله مجتمعاً مرتبكاً، غير متوازن، وتَعُمُّ فيه الاضطرابات، ليس بمعناها المادي، بل بالمعنى النفسي، هو توقف العقل عن العمل، أو عمل العقل بطريقة هي ضد العقل نفسه، أي حين يُعَطِّل العقل نفسه، ليتحوَّل إلى سلاح قاتل، أو إلى قنبلة قابلة للانفجار في كل وقت. وهذا ما أعنيه، هنا، بهزيمة العقل، وبانطفاء جدوته، مثل الجمرة التي تتحوَّل إلى رماد، أو هباء، تذروه الريح في كل اتجاه. أعود إلى التربية والتعليم، وأعود، تحديداً، إلى الأسرة والمدرسة، وإلى غياب رؤية واضحة لما نعنيه بالإنسان عندنا، هل هو المواطن الصامت، الخانع، الخاضع، من يتبع ويطيع، فقط، لا يفكر بذاته، بل بغيره، بما يأتيه من خارح نفسه وذاته، أي أن عقله يعمل بالأمر ويصدع لما يُؤْمَر به، أم هو المواطن المثقف، المُشارك في المجتمع بالفكر، وبالبناء، وباقتراح الحلول، أو بالملاحظة والقراءة والتحليل والنقد، أعني المواطن الفاعل الذي لا يقبل أن يكون عالة على نفسه وعلى المجتمع، بل هو أحد أعمدة وأسس هذا المجتمع، لأنه موجود بذاته، بما يراه ويُدْلِي به ويقوله، غير تابع، ولا يقبل أن يكون صدًى، أو رجع صدى للحزب، ولا للدولة، ولا لأي كان ممن يعملون على تسخير الإنسان ليكون في يدهم أداة، عقله لا يعمل إلا بما يملأونه به من تعليمات وبرامج، مثل الحواسيب التي تعمل وفق برمجيات، تنفذها بالحرف، دون زيادة ولا نقصان!؟ كلما تأملت وضع العقل، عندنا، وجدته عاطلاً، وحتَّى حين يعمل، فهو يعمل في الاتجاه الخطأ. وهذا العقل، هو العقل الذي يبرر خرق القانون، ويبرر الفساد، كما يبرر الاغتناء غير المشروع ويدافع عنه، أو يخرجه من طائلة المتابعة والمحاسبة والمحاكمة، وهو العقل نفسه الذي نستعمله في الدين، لا ليؤمن باقتناع، ويكون عقلاً يفكر لصالح العدل والمساواة، بل إنه يتحوَّل إلى عقل يستعمل الدين خارج المعنى الديني، يحوله إلى سلاح، وإلى وسيلة للقتل والاغتيال، عقل ينشر الرعب والخوف، ويحول الإنسان إلى وحش ضارٍ، وإلى حرب على العقل نفسه، وهو العقل الذي يكون جاهزاً لكل شَرٍّ، إلا أن يكون خيراً، ما يدفعني إلى التساؤل عن المكان الذي فيه نشأ هذا العقل وتربَّى وكبر، وعن العلوم والمعارف التي تلقَّاها ليكون عقلاً بهذا المعنى القاتل، الذي هو ضد المجتمع، وضد الطبيعة، وضد المدينة، لأنه عقل يُعَطِّل المجتمع والطبيعة والمدينة، ويمنع عنها الاستقرار والتطور، ويكون أحد أسباب تَعتُّرها وتخلفها، وأحد أسباب انحطاطها. فما لم ننتبه إلى دور ووظيفة العقل في تطور وصيرورة وتقدم المجتمع، وما لم نعمل على إعادة العقل إلى وظيفته ودوره، وإلى ما خُلِقَ له من أعمال ووظائف، فهو سيكون عقلاً يُجابه العقل، أو عقلاً فقد عقله، امتلأ بالشطط، والرذيلة، وبالاستعداد لكل شيء، إلا أن يكون عقلاً، بالمعنى المنتصر للعقل المفكر، العقل الذي يقود الإنسان إلى الخير، وإلى البناء والعمل، وإلى الإبداع والابتكار. العقل، عندنا، يكاد يتلاشى، لم نستثمره للعمل في أراضيه، تركناه يعمل في الطبيعة، أعني في الخلاء، ولم نفكر أنَّ العقل انتصر على الجهل والنزوعات الحيوانية، وخرج من الطبيعة إلى الثقافة، بالثقافة نفسها، هذا الاكتشاف العظيم الذي كان هو أساس بناء المدن والحضارات، وهو الأساس في بناء الإنسان، هذا الذي أفْرَغَتْه الثقافة من حيوانيته، وأدخلته إلى المجتمع ليكون فيه مُشاركاً، وموجوداً بما له من أفكار بها يساهم في العمران، ويساهم في تسهيل الحياة، وتسهيل الوجود على نفسه، وعلى الآخرين، بابتكاراته، وما يخرج من رأسه من مشروعات وخُطط، ومن برامج وسياسات تُساهم في رخاء ورفاه الإنسان، وفي رفاه ورخاء المدن. كل ما تجري به الريح في غير هذا الاتجاه، سيكون حتما، هزيمة للعقل، وبالتالي، فهو هزيمة للإنسان، وهزيمة للمجتمع، لا محالة.