ما زِلْتُ أُؤَكِّدُ على دَوْرِ العَقْلِ في تَحْصِين الإنسانِ ضِدَّ كُل أشْكالِ التَّطَرُّف والانْحِراف. فالإِنْسانُ، في جَوْهَرِه، هو العَقْلُ، أو أنَّ العَقْل، بتعبير أبي العلاء المعري، «إمَامٌ»، فهو مَنْ يقُودُ الإنْسَان، أو أنَّ الإنسان، هو مَنْ يَقُودُ نفسَه بنفسه، لأنَّ العَقْلَ طَرِيقٌ، أو هو طريقَةٌ في التّأمُّل والنَّظَر، وطريقةٌ في التّفكير، وفي مُساءَلَة الوُجودِ، وفي البحث والتَّقَصِّي. لا يمكن ل «النَّصّ»، مهما كانَ مَصْدَرُه، ومهما كانتْ طبيعَتُه، أن يكون بديلاً عن العقل، أو يُلْغِي العَقْلَ، لِيَصِيرَ هو العَقْلُ، أو البَديل عن العَقْل. كُلُّ النُّصوص، دون استثناءٍ، هي أفْكار، وهي طريقَة في التَّأَمّلِ والنَّظَر، وهي صادِرَةٌ عن «عَقْلٍ»، ما يجعل العَقْلَ، في حاجَةٍ لِمُساءلَتِها، ومُراجَعَة، ما تَنْطَوِي عليه من أفكارٍ، وما تَقْتَرِحُه من طُرُقٍ في تأمُّل الأشياء والنَّظَر إليها. وإذا كان الإنسانُ هو مَنْ تَعْنِيه هذه النُّصوص، قبل غيره، فهو مَعْنِيّ بِمُساءَلَتِها، لا بالتَّسْلِيمِ بِما تحتويه من أفْكارٍ، أو بما تَدْعُو إليه من «إيمانٍ» و «اسْتِسْلام»، وَحَثٍّ على «التَّبَعِيَّة» دون نَظَرٍ واخْتِبار. الذين، يدعُون إلى «النَّصّ الدِّيني»، أو إلى الإيمان، ببعض تأْوِيلاتِهِم لهذا «النَّص»، أو ببعض ما ترتَّبَ عنه من نصوص فقهية، أو غيرها، مِمَّا له صلة بالدِّين، يُجْهِزُون على العَقْل، في ما هُم يُجْهِزُون على الإنسان، ويُبْطِلُون إِمَامَة العَقْل، لِيَسْتَبْدِلُوها بإمامة هذه النُّصوص، التي حَوَّلُوها إلى عُقُولٍ تُبْطِلُ العَقْل وتَشُلُّه، أو تَفْرِضُ عليه رَقابَةً، وتُصادِرُ قَلَقَهُ، و مَا قَدْ يَعْتَرِيه من رَغْبَة في المعرفة، وفي اختبار طَاقَة هذا النَّصّ نفسِه، على قَوْل «الحقيقة»، أو وَضْع بعض مُؤَشِّراتِ هذه «الحقيقة» بين يَدَيْه، ليس باعتبارها حقيقة مُطْلَقَة، بل باعتبارها طريقة في النَّظَر إلى الوُجود، قابِلَةً للأخْذِ والعَطاء، كما يُقال. مُعْضِلَتُنا اليوم، في «العقل العربي»، أو في «العقل الإسلامي»، بالأحرى، هي أنَّ هذا العَقْلَ مُعْتَقَلٌ، مُصادَرٌ، وممنوع من النقد، والمُساءَلَة، والتَّأمُّل، أو هو ما دامَ يَسْأَل، ويُفَكِّر، ويَخْتَبِر، فهو عقلٌ مُتَّهَم بالانحراف، وبالتَّشْويشِ على «الحقيقة»، في صُورتِها الدينية الغَيْبِيَةِ، وبالتَّالِي فهو عَقْلٌ كافِرٌ، مارِقٌ، يأْتِي بالبِدَعِ، ما يُؤَكِّدُ ضَلالَتَه وانْحِرافَه. فالتَّطَرُّف الدِّينِيّ، هو إيمانٌ بدون عَقْلٍ، وشَلٌّ كُلِّيّ، وكامِلٌ لِعَقْل الإنسان، الذي يتحوَّل إلى آلَةٍ، أو قَالَبٍ، نَمْلأُه بِما نَشَاء من أفْكار، ونَشْحَنَهُ بِما نُرِيد من قراءاتٍ وتأويلاتٍ، لِنُطْلِقَه في الرِّيحِ يَعْبَثُ بحياة البَشَرِ، ويَسْتَهِينُ بها، دون أيّ وَعْيٍ، أو إدْراك لفظاعَةِ ما يفعلُه، ويقومُ به، من قَتْلٍ وتَدْمِيرٍ باسم الدِّين، أو باسْم هذا الدِّين الذي قِيلَ له إنَّه هو الدِّين كما أرادَه الله. ليس من السَّهْل إقْناعُ إنسانٍ بالانفجار في وَجْه إنْسانٍ آخَر، وهو في كامِلِ وَعْيِه، يُدْرِكُ جَسَامَةَ ما سيقوم به، وما سَيُخَلِّفُه وراءَهُ من آلامٍ، وما سيترتَّبُ عن فعله هذا من أمُورٍ عظيمَة، قد تَقْلِبُ مفهوم الإنسان لِلدِّين نفسِه، كما تَقْلِب سياسات دُوَلّ، و أُمَمٍ، مثلما نرى اليوم، في ما أقْدَمتْ عليه فرنسا، وأوروبا كامِلَةً، من إعادة مراجعة دستورِها، وما يحتويه من قوانين، رَغْبَةً في مواجَهَةِ هذا الوضع الطَّاريءِ الذي باتَ يُهَدِّدُ استقرار حياة البشر في الأرض. فَكُلّ «إنسانٍ» يُحَوِّل جِسْمَهُ إلى قُنْبَلَة، أو رصاصٍ قاتِلٍ، فهو إنْسانٌ فَقَدَ السَّيْطَرَة على عَقْلِه، أو انْقَلَبَ عقلُه عليه. فالعَقْل في العربية، هو الرَّبْط، والقَيْدُ، لَيْس بمعنى الأسْر، والاسْتِعْباد، أو العَمَى بل بمعنى السَّيْطَرَة والتَّحَكُّم، أي سيطرة الإنسان على نَفْسِه «الأمَّارَة بالسُّوء»، وعلى انفعالاتِه، وعلى ما قد يُصيبُه من جُمُوح وإفْراطٍ، في النَّظَر، وفي إصْدار الأحْكام. ألَيْسَت القوانين، والشَّرائع التي تَصْدُر عن الإنسان، هي انعكاس لهذا العَقْل الذي يَسْعَى لتدبير العلاقات بين البشر، في المجتمع، وفي بناء وتنظيم المُؤسَّسات، حتَّى لا يبقى هذا الإنسانُ «مُتَوَحِّشاً»، لم يَخْرُج من طَبْعِه الحَيوانِيّ، أو كأنَّه يعيش في غابَةٍ، أو في وضْع ما قبل العَقْل، والفِكر، والقانون. ومفهوم الدَّوْلة، في سياقه القانونِيّ، هو هذه الشَّرائِع، وهذا النِّظام الذي يَحْكُم علاقة البشر فيما بينَهُم، ويُنَظِّم كُل المُعاملات، مهما كان شأنُها، وفق ما هو مُتعارَف عليه في التَّشْريعاتِ والقوانين الكَوْنِيَة، التي هي مِنْ وضع الإنسان، أي هي نتيجة للعقل، والنَّظَر. لا أسْتَثْنِي بعض ما جاء في «النَّصّ الديني»، لكن، هذا النَّصّ، أو ما جاء فيه، لَيْس مُغْلَقاً، ولا مُمْتَنِعاً عن الصَّيرُورة والتَّطَوُّر، أو ما يُسَمِّيه بعض العُلماء المُتَنَوِّرِين، بالاجتهاد. فالنَّصّ المُغْلَق، الذي صَمَتَ عن الكلام، ولَمْ يَعُد ناطِقاً، أي أنَّه قال ما عِنْدَه منذ قُرونٍ خَلَتْ، واكْتَفَى بهذا الماضي، هو، وفق هذا المنظور، إمَّا نَصٌّ مَيِّتٌ، أو نَصّ بلا لِسانٍ، أو أنَّ كلامَه صَلُح لِزَمَنٍ دون غيره، أو أنَّه نَصّ لا يعترف بالإنسان، ولا بالعقل، أي أنَّه نَصٌّ يُناقِض نَفْسَه، ويَنْقَلِبُ على نَصِّيَّتِه، أو أنَّ هذا النَّص، تَعرَّض إلى التَّشْوِيه، والتَّحْرِيف، ليس في نَصِّيَتِه، بل في طريقة قراءتِه، وفي تأويلاتِه، التي بَاتَتْ هي النَّصّ، في ما النَّصّ اخْتَفَى، وتَلاشَى خَلْفَ هذه القراءات، وهذه التأويلات، ومَعَها اخْتَفَى العَقْل واحْتَجَبَ، وبالتَّالِي اخْتَفَى الإنسان، وحَلَّتْ مَحَلَّه الآلَة، والحَجَر الأصَمّ. ألَيْس من هذا المُنْطَلَق قال ماركس، إنَّ الدِّينَ أفْيونَ الشُّعُوب!؟