أفاد الشاعر المهتم بمجالات المعرفة والإبداع، صلاح بوسريف، بأن "وزارة التعليم تعني كل المغاربة، بمختلف طبقاتهم وانتماءاتهم"، مبرزا أن "مصير بلد بكامله في يَدِ هذه الوزارة التي من "مَعامِلِها" يخرج الإنسان الذي هو العقل والفكر والخيال". وأكد بوسريف أن "شأن التعليم لم يعد يجري في الغُرَف المُغْلَقة، باعتبار أن الكل بات يرفض هذا الوضع الاستبدادي والاستفرادي"، مستدلا بخروج التلاميذ للاحتجاج على مخطط "مسار"، الذي نزل عليهم دون أن تعمل الوزارة على وضعهم في سياقه، بالحوار والشرح والتواصُل". وهذا مقال بوسريف كما ورد إلى الجريدة: شَلُّ العَقْل، قَتْلٌ للإنسانِ كُلُّما جاءَنا تقرير من التقارير التي تصدر عن المؤسسات الدولية، لِتقُولَ لنا مَنْ نحن، أو لِتَضَعَنا في سياق الزمن المغربي، وفق الوتيرة التي تسير عليها الأمور عندنا، عَرَفْنا أنَّ هذا التقرير سيكون قاسياً على نفوسنا، ليس لأنه يقول شيئاً غير صحيح، بل لأَنَّنا، حين نصرخ، نحن هنا، مِلْء أفواهنا، ونُشير لِمَوَاطِن الجُرْح، وما يحدث من اختلالات وأعطاب، في مؤسساتنا، وفي السياسات المُتَّبَعَة، من قِبَل من تعاقبوا على السلطة في المغرب، منذ الاستقلال إلى اليوم، لا أحد يسمع ما نقول، وربما يعتبرنا، مَنْ هُم في مواقع القرار، أننا جماعة من المارقين، الذين يحترفون النقد، وتشويه سُمْعَة البلد، أو أننا عدميون، لا نعترف بشيء، ولا يُعْجِبُنا العَجَب. ليس ما صدر عن اليونسكو، وعن غيرها من المنظمات الدولية، في ما يتعلق بوضع التعليم في المغرب، بالشيء الجديد، أو المُفاجِيء، فخطاب الملك كان فَضْحاً سابقاً لهذا الوضع الذي تعيشه المدرسة، وهو إدانة صريحة من أعلى سلطة في الدولة. وقد كانت كتاباتُ مُهْتَمِّين، ومُفَكِّرين، ومُثقَّفِين، ممن يَهُمهم الشَّأن العام في المغرب ، قالت كُلَّ شيء، وجَرَّت ناقوس الخطر، لتُشير بالإصبع لِمَكامِنِ الخلل، ولِما يجري من تخريب في المدرسة. لا أحد هَمَّه هذا الكلام، وبقيتْ الأوضاع على ما هي عليه. كل الذين تَوَلَّوْا مسؤولية التعليم، لم يُفْلِحوا في إيقاف النزيف، على الأقل. فالجُرْح أكبر من أن نخيطه ب «إِبَر عمياء لا تخيط إلاَّ الريح». فوزارة التعليم، كما كنتُ كتبتُ قبل اليوم، هي وزارة سيادة، بامتياز، وهي أهَمّ من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ففي هذا المختبر، تُصْنَع العقول، ومنه تخرج الأفكار التي تحتاج إليها البلاد، فحين تكون المدرسة مريضة، فما يخرج منها من ريحٍ، سيكون مريضاً، هو الآخر. لا يمكن أن نُراهِن على المؤسسات الخاصة، وعلى أبناء الأعيان، وغيرهم من المحظوظين، من أبناء الطبقة الميسورة، الذين يدرسون في الخارج، ونترك المدرسة العمومية تسبح في الفراغ، ثمة حلول، وثمة إمكانات لتطبيق هذه الحلول، وتنفيذها، لكن ما يَنْقُصُنا، هو الإرادة، أو الرغبة في وضع العربة وراء الحصان. وزارة بهذا المعنى، هي وزارة تعني كل المغاربة، بمختلف طبقاتهم وانتماءاتهم، وليست مجرد وزارة تُشْرِف على تدبير قطاع من قطاعات الدولة، فقط، واهِمٌ من يظن أن وزارة التعليم، وزارة مثل باقي الوزارات. إنَّ مصير بَلَدٍ بكامله في يَدِ هذه الوزارة، لأنها الوزارة التي من «مَعامِلِها» يخرج الإنسان الذي هو العقل، والفكر، والخيال، أعني الإنسان الذي يُخَطِّط، ويُبْدِع، ويختلق، ويبتكر، وهو، حتماً، الإنسان المُواطِن، المُنْتِج، الفاعِل والباني، لا الإنسان العاجز، المعطوب، الذي يُعَشِّش الكسل في نفسه، أو يكون عالةً على نفسه، قبل أن يكون عالةً، ووَبَالاً على أُمَّتِه. لا يمكن أن نَبْنِيَ حديقةً، قبل أن نبني إنساناً يُدْرِك معنى أن يعيش في مكان فيه الخُضرة والهواء، ولا يمكن أن نُنَظِّف شارعاً، ونكنس ما فيه من أوساخ وأزبالٍ، قبل أن نبني إنساناً يُدْرِك معنى أن يعيش في مدينة نظيفة، جميلة، هادِئَة، خالية من الأزبال والأوساخ، وكُل أشكال الصَّخَب والعُنْف والإزعاج، كما لا يمكن أن نَنْقُل قِيَمَ المجتمع، والمدرسة، والأسرة، لأبنائنا، إذا كان الإنسان الذي خَرَجَ من مدارسنا لِيَكُون أباً، هو إنْسَانٌ لم يُقَدِّر معنى هذه القِيَم، وما لها من تأثير على الأبناء، أو لا يَعِي دور هذه القيم في بناء الإنسان، فالمسؤولية تقتضي إنساناً، مُواطِناً، مسؤولاً، يعرف الفرق بين الحق والواجب، ويعرف حدود مسؤوليته،، وطبيعة الدَّوْر الذي يقوم به، وهذا هو دور المدرسة والجامعة. التي هي مختبر ل «صناعة» الإنسان المُوَاطِن، الخَالِق والمُبْدِع. كيف يمكن أن نَخْرُجَ من هذا الوضع الكارثي الذي وَصَلْنا إليه، إذا بقيت المدرسة بدون معنى، أو لا تُفَكِّر في طبيعة الإنسان الذي تصنعه؟ نحتاج لإعادة النظر في مناهج التدريس، وفي البرامج والمقررات، التي يَدْرُسُها أبناؤنا، أو التي تعمل المدرسة على شَحْنِهِم بها. كما نحتاج لإعادة تأهيل المعلمين والأساتذة، وتكوينهم، بتحيين معارفهم، وتجديدها، بما يظهر من أفكار وتصوُّرات، في مجاليْ التربية والتعليم، وفي كل حقول المعرفة التي يتغذَّى بها العقل، لا أن ينقطع المعلم والأستاذ عن المعرفة والتكوين، بمجرد أن يصبح مُوَظفاً، له راتب شهري، يأكل ويمشي به في الأسواق. فمدارس وجامعات بدون مناهج حديثة، وبتلاميذ وطلبة لا يخرجون عن المقررات المدرسية، ويعيشون حياتهم التعليمية على التلقين والحفظ، والاجترار، دون أن يكونوا على صلة بما يجري في مجاليْ العلم والمعرفة، وتكون لهم رغبة في القراءة والبحث، وتوسيع مداركهم، لا يمكنها أن تكون مدارس أو جامعات لتأهيل الإنسان، ووضعه في سياق زمنه الذي يفرض عليه أن يكون قابلاً لاستيعاب ما يحدث فيه من متغيِّراتٍ، ومُواجَهة الأفكار الطارئة، وهذا يفرض وجود عقل مُتَحَرِّك، يَقِظ، مُتَأَهِّبٍ، يستشرف المستقبل، ويستبق العواصف والمُشكلات، وليس إنساناً يعمل مثل الآلة، دون أن يُعْمِلَ فكره، أو يجتهد ويبتدع، ويتخيَّل الحلول الممكنة، لكل ما يقف أمامه من مُعْضِلاتٍ، وما قد يَطْرَأ من مشاكل. إنَّ مدارسنا، لم تَصِلْ، بعد، لهذا المستوى من التكوين والمعرفة، أو لم تَعِ، بعد، أنَّها مسؤولة على وديعة، أو أمانة، أبَتْ كل الجبال أن تَحْمِلَها، فتبذير طاقات الإنسان، وإفراغه من القدرة على التفكير والعمل، وشَلِّه، هو إفراغ للأُمَّة، نفسِها، من الإبداع والتخييل، وشَلِّ حَرَكَتِها، وهذا ما جاء تقرير اليونسكو، وغيره من التقارير، لتقوله لنا، خصوصاً حين يكون الأمر خاصّاً بالتعليم، أعني خاصّاً بالإنسان. لا ثَرْوَةَ في الأرض تُضاهِي الإنسان، الذي في فَسَادِه تَفْسُد الأرْضُ. وكل خَلل في الأرض، بغض النظر عَمَّا يأتينا من الطبيعة، يكون مصدره الإنسان، حين يكون هذا الإنسان غير مُؤَهَّل للقيام بدوره في التنمية والبناء، وفي إبداع القِيَم، والعمل على وَضْعِها في النُّفوس، من خلال ما ينقله من معارف، وفنون، وعلوم، وآداب، وبما يَبُثُّه في هذه النفوس الحيَّة من مَيْلٍ للحوار، والإنصات، والشَّراكَة والتعاوُن، أو بما تفرضه قيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان. فالمُوَاطنة تبدأ من المدرسة، والمدرسة هي المكان التي يُهَيّّءُ كل المواطنين ليكونوا فاعلين، مُنْتِجِينَ، وغير هذا يكون شَلَلاً في عقل الأمة، وفي فكرها. والأمة التي تخلو من الإنسان، بهذا المعنى، تخلو من الحياة، بما تعنيه من إنتاج، ومن حركية ودينامية في مُحَرِّكاتِها. فتعطيل العقل، أو الاستهانة بدور العقل في التنمية وصيرورة الحياة في الأرض، هو جريمة، في حق الإنسان، وهي تُقاس بنفس الجرائم التي تحدث في الحروب والثورات، حين تُقْدِم السلطات الحاكمة، أو غيرها، على إبادة الإنسان، وازْدِراءِ وُجُودِه. لا يُعْقَل أن نكون في المراتب الأخيرة، قياساً بالدول العربية، وبغيرها من الدول الإفريقية، التي ليست لهل نفس ثرواتنا، ونفس مُقَدِّراتِنا المادية والرمزية. فهل ثمَّة من يُدْرِك خَطَرَ أن تنهار المدرسة والجامعة، وأن ينهار الإنسان، أو يكون «المجتمع» مجتمعاً، بإنسان، لا تتوافر فيه شروط الإنسان، المُواطن، الحي، المّنْتِج والفاعل؟ لا أعتقد ذلك، لأنَّ كُل مرة نسمع فيها ناقوس الخَطَر، نتأهَّب، فقط، للاعتراف بالخلل، لكن وسائل، وأدوات العلاج، تبقى هي نفسُها، وبنفس الأشخاص، ممن كان عليهم أن يستقيلوا، ولا يعودوا لقيادة القارب الذي كانوا سبباً في الشقوق والتصدُّعات التي أهَّلَتْه للغرق، أو وضَعَتْه على مشارف الانهيار. المدرسة شأنُ المغاربة جميعهم، وكل القرارات التي تُتَّخَذ في شأن «الإصلاح» أو «البناء»، ينبغي أن تكون قرارات أُمَّة، لا قرارات أفراد، غالباً ما أخطئوا الطريق للإصلاح، والنتائج تكفي لتقول لنا هذه الحقيقة، وغيرها مما يأتينا من المؤسسات التي تكشف هذه الحقيقة بالأرقام. لم يَعُد شأن التعليم يجري في الغُرَف المُغْلَقة، والقرارات تُفْرَض من فوق، فالكُل، اليوم، يرفض هذا الوضع الاستبدادي، الاستفرادي، والدليل على هذا، خروج التلاميذ للاحتجاج على مخطط «مسار»، الذي نزل عليهم دون أن تعمل الوزارة على وضعهم في سياقه، بالحوار والشرح والتواصُل، لتبديد المخاوف، وتأهيل التلاميذ لِتَقَبُّلِه، بإشراكهم فيه، رفقة آبائهم، ومُدَرِّسًيهِم، وكل العاملين في إدارة الشأن التعليمي.