ليس هذا مفهوماً جديداً من مفاهيم المعرفة، بل سلوك جديد لنشر المعرفة. يحدث هذا، في مصر، وليس في أوروبا ولا في أمريكا. الطاكسي، أصبح فضاءً للقراءة، فبمجرد أن تركب «الطاكسي»، تجد نفسك في ضيافة الكِتاب؛ اقرأ، فقد تطول مسافة الطريق أو تَقْصُر، ليس ضرورياً أن تُنْهِي الكتاب الذي في يدك، فأنت مدعُو لِتَصَفُّحِه، أو تقليب صفحاته؛ لقراءة صفحة أو بضع صفحات. ما دُمْتَ لا تذهب إلى المكتبة، أو لا تجد ضمن وصلات الإشهار السَّخِيَّة في الإعلام العمومي، ما يدعوك للقراءة ولا للمعرفة، أو يغريك بقراءة كتابٍ، أو بمعرفة ما يجري في مجال النشر، هاهو الكتاب بين يديك، يكفي أن تتصفَّحه لتتخلَّص من مسافة الطريق، ومن ضغط حركة المرور، وما يرافقها من سلوكات قد تُفْضِي بك إلى التَّوَتُّر. فالكتاب ” خير جليس “، وهو فرصة لتفادي ثرثرة سائق الطاكسي نفسه، وتفادي ما أصبح يجرح العين من مشاهد في الشارع العام. الجهة التي أقدمت على فكرة «طاكسي» المعرفة، أدركت أنَّ الناس لم يعودوا مشغولين بالمعرفة، ربما في سياق ما تنتهجه الدولة من سعي لتفادي كل ما من شأنه أن يجعل من القراءة سلوكاً اعتيادياً، ما قد يضاعف من وعي الناس، ويزيد من شريحة المثقفين والمتعلمين، رغم ما تبديه، الدولة، من اهتمام بالثقافة والنشر، في بعض الأحيان، لذلك فهم عملوا على وضع الكتاب في يد المواطن، لتذكيره، على الأقل، بأن الإنسان لم يوجد ليكون كائناً بدون معنى، فالمعرفةُ، هي هذا المعنى الذي به يُدْرِك الإنسان وجوده، أو به يعرف معنى الوجود. أكلت المجتمعات الاستهلاكية كثيراً من الإنسان، وجعلت منه آلة في يد الشركات الكبرى، التي أصبحت تُوَجِّهُ الإعلام بطريقة لا يمكن معها للإنسان أن يفكر أو يختار، فكل شيء جاهز، يكفي أن تضع يدك في جيبك لتؤدي ثمن سلعة، لستَ أنت من اخترتها، أو بحثت عنها، فهي موجودة في بيتك، يفرضها عليك الإعلام، وفي حياتك اليومية؛ في الواجهات الإشهارية التي تحاصرك في كل مكان، في الجريدة التي تقرؤها كل صباح، في الملابس وحافلات النقل العمومي، في الملاعب، وفي المواقع الإلكترونية .. غَزْوٌ، استباح كل شيء. لم يعد ممكناً أمام هذا الهجوم الكاسح للإشهار، أن يفكر الإنسان في الكِتَاب، أو يفكر في الذهاب إلى المكتبات، كما يذهب إلى الأسواق العامة. فعادة القراءة، شرعت في التراجُع وفي التدهور، حتى في المجتمعات التي كانت فيها القراءة سلوكاً اعتيادياً عند الناس. فآخر الإحصاءات التي قامت بها إحدى المؤسسات الأمريكية، في موضوع القراءة طبعاً، كشفت عن تراجع كبير عن القراءة، واكتشفت أن بعض الكتب التي كان يُقْبِلُ عليها الطلبة في المكتبات الجامعية، بشكل كبير، لم تعد تغادر الرفوف إلا بوتيرة ضعيفة، وثمة بين هذه الكُتُب ما لم يلمسه قاريء منذ مدة، قياساً بعدد قرائها من قبل. ساهمت الشبكات الاجتماعية للتواصل، والمواقع الإلكترونية، وشبكة النيت بشكل عام، في هذا التراجع. فكما ساهمت دعوات الفُرجة والاستهلاك، وأيضاً الإعلام والعمومي والمدرسة، في تعطيل «مجتمع المعرفة»، وفي تأجيل ” مجتمع القراءة “، عملت وسائل الاتصال الحديثة على امتصاص فئات أخرى من القُرَّاء، أو كانت بمثابة الريح التي أتتْ على ما بَقِيَ من زرع. حين أُقْحِمُ المدرسة ضمن هذه المؤسسات التي كانت سبباً في تراجع وتدهور القراءة، فأنا أذهب إلى مكان، طالما أشرتُ إليه في أكثر من مقال، وأشرتُ إلى مَواطن العطب فيه. فالمدرسة هي مكان للمعرفة بامتياز، أو هي الفضاء الذي منه يخرج الإنسان المُتَعَلِّم، العارف، أو القاريء، وأعني تحديداً، الإنسان المُفَكِّر، الذي يملك حرية الاختيار، والقدرة على النقد والتحليل، لا الإنسان المُسَيَّر، الخانع، الذي يعمل بإرادة غيره، أو الإنسان الآلة. وهو ما تعمل مجتمعات الاستهلاك على إنتاجه، بعكس المدرسة التي هي خارج هذا الوضع، أو تعمل، وفق وظيفتها، على مقاومته. ما يحدث في المدرسة اليوم، هو عكس ما هو مُفْتَرَضٌ فيها. فهي تخَلَّت، تماماً، عن دورها المعرفي، وأصبحت تعمل على إنتاج الإنسان ” التقني “، لا الإنسان العارف، بدليل ما تعرفه العلوم الإنسانية من تراجع في المدارس والجامعات، وحذف مؤسسات التعليم الخاص للشُّعَب الأدبية في برامجها التعليمية، بما في ذلك من محاربةٍ للعربية كلغة رسمية، في مقابل ما تمنحه من امتيازات للغات الأجنبية، منذ مراحل التعليم الأولي. لا توجد في المؤسسات التعليمية العمومية، وهنا يهمني أن أتحدث عن المدرسة المغربية، بشكل خاص، مكتبات، أو مراكز توثيق خاصة بالقراءة والبحث، فما يوجد منها، كما أشرتُ في غير هذا المقال، لم يعد صالحاً للعمل، كون الكتب والمراجع، تعود لتاريخ بعيد، ما يشي بعدم تحيينها. وحتى عندما تُقْدِم المكتبة على تجديد مراجعها، فهي غالباً ما تُسيء اختيار ما هو مطلوب من قبل التلاميذ والطلبة. قَيِّمُوا المكتبات، هم في أغلبهم أساتذة يفتقرون للتكوين، وللمعرفة بحاجيات الُمُتَمَدْرِسين، ولنوع المصادر والمراجع التي يرغبون في وجودها بالمكتبة، إضافةً إلى غياب قانون منظم لوظيفة “القَيِّمِين”، ولطبيعة مهمتهم. فمن يزور أي مكتبة من مكتبات المدارس المغربية، والاستثناءات قليلة، سيجد الرفوف مليئة بالكتب الموازية، التي ساهمت هي الأخرى في تعطيل الإقبال على المصادر الأساسية. فالتلاميذ أصبحوا يقبلون على قراءة ما هو مكتوب عن المُؤَلَّف، بدل قراءة المُؤَلَّف، وفي هذا يحضر دور المُدرِّسين أيضاً، في اختبار قراءة التلميذ للكتاب المقرر. رغم ما يؤكد عليه المخطط الاستعجالي من أهمية للمكتبات، فلاشيء من هذا يحدث في الواقع، ولا توجد إرادة حقيقية في وضع استرتيجية واضحة لتجديد المكتبات، ولإعادة تأهيلها، ووضعها في سياق المتغيرات التي أصبح يفرضها مجتمع المعرفة. سأذهب إلى أكثر من هذا، لأطالب بمكتبة وسائطية، خاصة بكل نيابة من نيابات التعليم، وهو ما يمكن أن يسري على المُجمَّعات الجامعية أيضاً، تكون بمثابة المكتبة الأم التي تفتح أبوابها في وجه الأساتذة والتلاميذ والباحثين، وتساهم في حل معضلة انعدام مكتباتٍ في كثير من المؤسسات التعليمية. قد يذهب القاريء إلى التساؤل عن معنى العلاقة بين ” طاكسي المعرفة “، وبين كل هذا الكلام عن الإشهار والمجتمع الاستهلاكي، وفشل المدرسة في التأهيل المعرفي. فالجميع يعرف أن دور الإعلام والمدرسة، وأضيف، هنا دور الأسرة أيضاً، هو نشر الوعي، والدعوة للمعرفة، وإطلاع الناس على كل ما يجري في مجالي النشر والتوزيع، و ما يجري من برامج ثقافية وفنية، وغيرها مما له صلة بمجال المعرفة والتكوين. ما يعني الدعوة للقراءة، وتحفيز الناس عليها، لا كبح رغباتهم، بوضعها في سياق استهلاكي تضليلي فقط. فالمدرسة لم تعد تتيح للتلاميذ تكويناً بعيد الأمد، يجعل من البحث طريقة في الإقبال على المكتبات، وعلى قراءة الجرائد والمجلات، وغيرها من وسائل الاتصال التي تساعد على البحث والتنقيب، فهي اليوم، تعيش وضعاً مزرياً، أصبحت فيه نقط ومعدلات التلاميذ، وعدد الناجحين في الباكالوريا، هي مقياس ” النجاح “، دون معرفة ما راكمه التلميذ في نفسه من معارف، ونوع التكوين الذي تلقاه. فحين تخرج بأغلب هؤلاء من إطار القسم، والدروس التي يتلقى هؤلاء التلاميذ ضِعْفَها عبر الساعات الخصوصية خلال السنة، في مدارس وبيوت أصبحت متخصصة في ترميم أعطاب القسم، واستنزاف ميزانيات الآباء والأمهات، تجد نفسك أمام واقع آخر، لا يشي بوجود تكوين حقيقي، فما يتلقاه التلميذ هو تقنيات في الإجابة عن أسئلة الامتحان، ما دامت النقطة أصبحت هي الهدف لا المعرفة و التكوين. ولعل التزوير الذي حدث في إحدى ثانويات الدارالبيضاء، خلال امتحان الباكالوريا، للرفع من المعدل العام، يكشف بوضوح عن هذا الوضع الذي قد لا يفضي بنا إلى مجتمع المعرفة الذي أصبح اليوم من ضرورات العصر. فحين تعمل بعض مؤسسات المجتمع المدني، وغيرها من المؤسسات التي يؤرقها وضع العطب في مجتمعاتنا، على التفكير في وضع الكتاب في طريق القاريء، فهذا نوع من إعلان استقالة الدولة عن القيام بواجباتها، ونفض يدها من كل ما له صلة بالمعرفة والتكوين. ” طاكسي المعرفة “، إدانة للدولة، وإدانة للإعلام العمومي، وللمدرسة، ونوع من الاحتجاج على ما أصبحنا نعيشه من سطحية وجهل، وما تعمل أطراف عديدة على تكريسه كواقع على الأرض. أعني إنتاج إنسان تقني مُنَفِّذٍ لبرامج، لا إنسان مُفكر، وصاحب رأي، أو إنسان مُنتج، لا تنطلي عليه سياسة التسطيح، و ” التضبيع “، كما كان سماها الدكتور محمد جسوس. أما حين يطلع علينا الحبيب المالكي، وزير التعليم السابق، وهو من نفس حزب محمد جسوس، ليعتبر الكلام عن فشل أو عطب التعليم عندنا، غير صحيح، أو أنه ليس مناسباً الآن، إلى غيره مما يمكن استنتاجه من كلامه، فأنا أقول له أنت تبرر فشلك في التعليم، وهو فشل الحزب الذي دخلتَ باسمه للوزارة، وأدعوك إلى قراءة ما يأتي من تقارير عن وضع التعليم، في المغرب، بما في ذلك ما جاء في بعض الخطابات الملكية. دون أن أسألك عن مصير ” أكاديمية محمد السادس للغة العربية “، التي كنتَ اعتبرتَ، في إجابة عن سؤال في البرلمان، أن انطلاقها هي مسألة وقت، ليس أكثر. لا شيء مما يمكنه أن يساعد في حل معضلة المعرفة عندنا، حَدَث، فكل ما يجري هو مجرد خطابات ووُعود، وكل مسؤول يأتي يصير بتعبير عبد الله القصيمي ” ظاهرة صوتية “، يطلق الكلام على عواهنه، ثم يرحل، لتبقى دار لقمان على حالها؛ لا معرفة ولا يحزنون. ف ” طاكسي المعرفة “، رغم أنه يوجد في مصر، وليس عندنا، هو تعبير عن رفض رأي المالكي، ورأي غيره ممن لازالوا يرون الواقع بمنظار إيديولوجي لم يعد صالحاً لهذا الزمن الذي بارتْ فيه بضاعة الأحزاب، كما بارت فيه خطابات التبرير والتضليل، فالواقع ليس وراء الناس، فهو أمامهم، وكم سنحتاج من طاكسي ومن حافلة ومن قطار، لنُعيد ترميم ما تركتموه خلفكم من أعطاب، وما تخوضونه من مُضاربات للعودة إلى المسؤولية، دون أن تُدركوا أن وجودكم لم يعد يعنينا..