31 سنة بالتمام والكمال على رحيل «الملك غير المتوّج» كما يسميه أحد الضباط الذين عملوا تحت إمرته المحجوب الطوبجي في كتابه المثير للجدل «ضباط صاحب الجلالة». والجديد اليوم حول ملابسات رحيل الجينرال أحمد الدليمي في حادثة سير غامضة هو وثيقة تسربت من «ويكيليكس» يوجد فيها الدليمي ضمن شخصيات عالمية على قائمة للاستخبارات الأمريكية من أجل التصفية الجسدية، فهل مات الدليمي أم اغتيل؟ نعود للسؤال في ذكرى رحيله هاته، والمناسبة شرط كما يقال. نحن الآن في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، ولا أحد من قادة السياسة وضباط الجيش كان يعتقد أن عهد الانقلابات على الحسن الثاني مايزال مستمرا حتى بعد رحيل أوفقير في بداية السبعينيات، لكن حينما سيغمض الجنرال الدليمي عينيه إلى الأبد في حادثة سير مريبة بضواحي مدينة مراكش، سيهمس أعداء الجنرال قبل أصدقائه ما إذا كان سبب الوفاة المفاجئة ترتيب لانقلاب في السر!
ما زلنا في يناير 1983، وهو الشهر الذي توفي فيه الجنرال، وفيه رُحل أيضا أحد مراسلي «لوموند» الفرنسية، بعدما كتب عن الحادثة وشكك فيها! قبل أن يمضي وقت طويل، لتغادر زوجة الجنرال أوفقير وأبناؤها دهاليز المعتقلات السرية في بدايات العقد التاسع، وتغادر بعدها أسوار مملكة الحسن الثاني، وتصدر كتابا يحكي عن تفاصيل محنة دامت حوالي عقدين، وتعيد بين الفينة والأخرى شريط الحياة المخملية إلى الوراء، ثم اللحظات التعيسة التي رافقت الأبناء من الفيلا الفاخرة إلى الأماكن السرية بالجنوب، وبينهما تعرج على اليد اليمنى لزوجها أوفقير.
«في تلك الليلة التي توفي فيها الدليمي بعد حادثة السير إياها، كان الملك الراحل الحسن الثاني منشغلا بزيارة الرئيس الفرنسي «فرانسوا ميتران» للمغرب، وعلى الرغم من أن وفاة الوزير المخلص وقعت ليلة الزيارة الرئاسية، تقول فاطمة أوفقير في كتابها «حدائق الملك»، إلا أن برنامج الاحتفالات لم يطرأ عليه أي تعديل، وكأن الذي توفي فأر، أما الجنازة التي تمت لدفن الدليمي، فلم يسبق أن تكلم عنها الملك الراحل».
لم يكن الدليمي الوزير الوفي فقط، بل كان اليد اليمنى للملك الذي حكم البلاد حوالي أربعة عقود.
بدأ صغيرا بسيدي قاسم، قبل أن ينمو بهدوء في الكليات العسكرية، ويكبر إلى الأعلى في بدايات الستينيات حينما التقطته أعين أوفقير، ليسافرا معا في مشوار الاختطافات والتعذيب والتفنن في قتل المعارضين، إلى أن رحل صديق العمر وزميل السلطة، الجنرال أوفقير، ليصبح الدليمي، باختصار شديد، القوة الأولى بعد الملك الراحل.
المشوار السريع هذا للجنرال ليس هو الأهم، ولكن خلاصته التي جعلت من ابن سيدي قاسم الرجل الثاني في مملكة الحسن الثاني، يقرر ويحكم في أقوى المؤسسات العسكرية في البلاد، وهي مؤسسة الجيش، خاصة في مرحلة كانت الجزائر والبوليساريو في معارك ميدانية مباشرة مع القوات المسلحة الملكية، ولذلك بالضبط لم يكن ليخفي سعادته وقوته بقيادته للجيش، ولا حتى ليعلنها أمام الملأ كما حدث في إحدى خرجاته الإعلامية لإذاعة «فرنسا الدولية»:«الملكية مدينة للجيش في استمرار وجودها»، إذا كان الدليمي قد بلغ هذا المستوى من القوة في الحكم، فلماذا يفكر في الانقلاب وينهي معه حلاوة السلطة وجبروت التسلط؟ أم أن ملذات التحكم التي لا حدود لها يمكن أن تجر البشر إلى اللعب إلى آخر رمق حتى بحياته؟
السؤالان هما نفسهما اللذين ظلا لغزا من ألغاز الماضي، على الرغم من أن مملكة محمد السادس قطعت أشواطا في تفكيك بعض طلاسم الماضي، فإذا كان الدليمي قد بلغ من القوة ما كان يبحث عنه، فلماذا سيغامر ليفتقدها ويفقد معها نفسه إلى الأبد؟
كل شيء ممكن، والدليمي لم يعد هو ذاك الضابط المغمور الذي كان ينتظر الفرصة للقاء الملك، حينما كان صقور الجيش يهيمنون على الساحة في بداية السبعينيات، بل أصبح شخصا آخر له أيضا حساباته وأجندته المحددة، لدرجة أنه استطاع أن يحيط الملك الراحل بجدار من الصمت: «فلم يكن يحيط الملك علما بما يجري في تلك المنطقة إلا بالقدر القليل الذي كان يريده له الجنرال القوي»، يقول الضابط السابق في الجيش المحجوب الطوبجي في كتابه «ضباط صاحب الجلالة»، ثم يضيف «كان الملك كلما اشتكى من عدم قدرته على التنصت على مكالماتنا، (وقد تحدث في ذلك ذات يوم مباشرة مع بعض الضباط من أصدقائي كانوا متواجدين معه في مركز القيادة المتقدم ) كانوا يقنعونه بأن العدو هو من يقوم بذلك التشويش المستمر، ثم يأتي الدليمي بنفسه بعد ذلك ليؤكد له نفس الادعاء»، قبل أن يختم بتفصيلة يعتبرها عجيبة: «من المفارقات الغريبة التي قد تثير عجب القارئ الكريم، أن الجنرال كان خارجا كليا عن المراقبة، بحيث إن الحسن الثاني لم يكن يعرف بكل تدقيق أين يوجد رئيس أركانه في ساعة ما».
الدليمي في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، ليس هو بالضبط الدليمي الذي كان يتحرك تحت إمرة أوفقير، والمساحة التي تركها رحيل هذا الأخير هي التي جعلت الدليمي يصبح في واجهة الصورة، يخطط ويأمر ويصدر التعليمات ويمسح أي شخص يقف في وجهه، مثلما فعل في الصحراء دائما، حينما سار في قمع الساكنة الصحراوية ابتداء من منتصف السبعينيات في تلك المنطقة مركزا بالخصوص على الأطفال منهم، حيث فرت عائلات برمتها إلى الجزائر، بل موازاة مع ذلك، وبأمر من الدليمي نفسه الذي تبين أنه كان يلعب على حبلين، والكلام دائما للطوبجي، فإن نقيبا كان يقوم بتموين عناصر البوليساريو من مخازن الجنود المغاربة، كما كان يحث الأسر الصحراوية من جهة أخرى على النزوح إلى تندوف، الواقعة قرب الحدود المغربية الجزائرية!!
باختصار شديد، دليمي نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات ليس هو بالضبط الدليمي الذي اشتغل مع أوفقير في بدايات الستينيات من القرن الماضي، أفلهذه الأسباب تقررت تصفيته، خاصة بعدما أصبح الرجل الأقوى في مملكة الحسن الثاني بعد الملك الراحل، الذي يتحكم في الجيش والداخلية والصحراء؟!
الطوبجي الذي اشغتل مع الدليمي لسنوات يرفض هذا السيناريو جملة وتفصيلا، ويقول إن الجنرال كان بمثابة ملك غير متوج، فلنستمع إلى رأيه بهدوء:«خلافا للجنرال أوفقير الذي لم يكن مهووسا بلم المال، فإن الدليمي سعى إلى جمعه بشتى الوسائل والطرق، واستطاع في زمن قياسي أن يراكم ثروة طائلة، وبعد أن أضاف المال إلى النفوذ، استتب له الأمر ولم يعد ينقصه سوى تاج الملك يضعه فوق رأسه ليبلغ به ذروة الذرى، غير أنه كان أذكى من أن يسعى إليه أو يحسد صاحبه عليه، إذ كان في حقيقة أمره ملكا غير متوج، يستفيد من كل امتيازات الملك ويترك تبعاته وأوزاره لصاحب التاج.
هو السيد المطلق المتحكم فيها إلى يوم موته في الخامس والعشرين من شهر يناير 1983. وقد كان كل من يجسر على معارضته من الضباط السامين، يقلم أظافره ويكسر شوكته بلا رحمة ولا هوادة».
إن التحليل السابق لا يستقيم مع خبر جديد ومثير صدر ضمن وثائق الخارجية الأمريكية التي تسربت عبر «ويكيليكس»، يؤكد أن الجنرال الدليمي تقررت تصفيته من طرف المخابرات الأمريكية في نفس السنة التي توفي فيها بالضبط!
إنها لائحة طويلة وتضم عددا كبيرا من الشخصيات المدنية والعسكرية من مختلف الجنسيات وضعتها الحكومات الأمريكية لدى مخابراتها من أجل تصفيتهم، ومن بينهم جمال عبد الناصر الذي تقرر تصفيته سنة 1957، وفيها تمكن الرئيس جمال عبد الناصر من النجاة من طوق الاغتيال، اغتيل باتريس لومومبا في سنة 1961 التي تقرر فيها الاغتيال، بالإضافة إلى فيديل كاسترو الذي وضع في قائمة المراد تصفيتهم بين 1960 و1970، ثم صدام حسين في سنة 1991، وأسامة بن لادن الذي وضع في نفس اللائحة منذ 1998، وقبلهم «تشي غيفارا» سنة 1967 و»سالفادور أليندي» سنة 1970 ... ثم الجنرال الدليمي الذي توفي في نفس السنة التي وضعته فيها المخابرات الأمريكية ضمن أهدافها، فهل يعني ذلك أن «السي إي آي» هي التي كانت وراء تصفية الديلمي؟ أم أن خيوطا أخرى دخلت على الخط وقضت في الأمر قبل وصول المخابرات الأمريكية إليه؟
كل شيء ممكن، لكن المؤكد أن الدليمي وضع تحت مجهر المراقبة الأمنية قبل ذلك بشهور، وهذا على الأقل ما تؤكده الرواية المتواترة. في شهر دجنبر 1982 سافر الدليمي إلى ستوكهولم باسم مستعار لمناقشة ترتيبات انقلاب في الأفق يكون تاريخه يوليوز 1983، حسب الرواية المتواترة، وهي اللقاءات التي تم توثيقها من طرف الأعين السرية المغربية، فأضافتها في تقرير خاص مصور سيكون هو القرار النهائي بتصفيته.
نفس الرواية، لكن بتفاصيل مغايرة، سيتواترها رفاق الراحل الفقيه البصري، والتي تحكي قصة رفيقهم الذي ألقى عرضا في منطقة «باشكو» بالدار البيضاء سنة 1980، تحدث فيه عن إمكانية حدوث محاولة انقلابية، وأضاف وقال إن الديمقراطيين ضد كل المحاولات الانقلابية، وأن الديمقراطية تبنى بالنضال، وفي الغد تم اعتقاله وتعذيبه بأشكال فاقت التوقعات حتى بالمقارنة مع التعذيب التي تعرض له حينما تم اعتقاله في بداية السبعينيات وبحوزته مسدس ضمن مجموعات الحبيب الفرقاني ومن معه!
كان رفاق الفقيه البصري يتابعون بدورهم تحركات الدليمي في الديار الأوربية، وكان من بين ما تعرفوا عليه لقاءاته مع قيادات من البوليساريو، بل إنه التقى حتى مع قادة جزائريين، والكلام هنا ليده اليمنى المحجوب الطوبجي، والذي سيكشف في نفس الكتاب عن خبر ليس كبقية الأخبار:«وتجدر الإشارة إلى أنه كان يكثف كذلك من لقاءاته مع المسؤولين العسكريين الجزائريين في جنيف، بحيث إنه كان يمتلك في ضيعته المتواجدة بمشرع بلقصيري قرب مدينة سيدي قاسم جهازا لاسلكيا للبث والاستقبال من 1000 واط، يخول له الاتصال المباشر بالقيادة العليا العسكرية الجزائرية في أي ساعة من الليل أو النهار»، يقول الطوبجي ثم يختم في واحدة من الفقرات القوية في نفس الكتاب:«وبما أنني حضرت شخصيا في جنيف العديد من هذه اللقاءات ما بين شهر غشت 1980 وشهر نونبر 1982، فقد كان بإمكاني الاتصال بالملك وإخباره بكل التفاصيل حول تلك اللقاءات. غير أني قدرت أن ذلك هو ما كان يطمح إليه الدليمي لأجل إسقاطي في فخ لا مخرج منه».
المسار العسكري للجينرال الدليمي
عاقَبه محمد الخامس وكرَّمه الحسن الثاني قبل أن يصبح ضحية لطموحه اللامحدود
ملامح جنرال
ولد الدليمي سنة 1931 في مدينة سيدي قاسم وتوفي في 22 يناير 1983. ولج المدرسة العسكرية بمكناس ومنها تخرج برتبة ليوتنان، قبل أن يسافر إلى فرنسا لإجراء تدريب عسكري خاص سنة 1955. ولما عاد إلى المغرب، أصبح يشار إليه بالضابط الشاب الواعد. وعلى عكس أوفقير، منتوج الاستعمار الفرنسي الذي شارك في العديد من الحروب والمعارك، فإن الدليمي، الذي يتحدر من قبيلة أولاد الدليم بالجنوب المغربي، كبر في الثكنات العسكرية، ولم يشق طريقه إلى مراتب متقدمة إلا حينما التقطته أعين أوفقير، والبلاد تحصل على استقلالها آنذاك. عندما عاقب محمد الخامس الدليمي
استوعب الضابط أحمد الدليمي في بداية مشواره العسكري لعبة تسلق السلم المهني في المؤسسة العسكرية، واقتنع بأن تحقيق طموحاته السياسية والعسكرية لا يقتضي فقط الانتساب إلى عائلة سياسية معروفة والتزوج من إحدى بناتها، بل يتطلب الأمر التفكير في انتقاء أفضل الزيجات التي يمكنها أن تسرع وتمهد أمامه طريق المجد السياسي والعسكري مهما كلف ذلك من ثمن...
وكتب ستيفان سميث في كتابه «أوفقير… قدر مغربي» ... «كان أوفقير يختار معاونيه ويجندهم كما حدث مع ضابط شاب عمره إحدى وثلاثون سنة من أصول صحراوية، تابع دراسته في ثانوية مولاي يوسف بالرباط، وتخرج على رأس فوجه. اسمه أحمد الدليمي، وعندما وظفه أوفقير إلى جانبه كان قد قضى ثلاث سنوات من العقاب على سلوك لم يحبذه محمد الخامس. ذلك أن أحمد الدليمي كان في سنة 1958 سيتزوج بكريمة أحد الوطنيين الكبار الذين كان لهم تقدير خاص لدى محمد الخامس... ألغى هذا الأخير قرانه الأول مدعيا أن الفتاة ليست بكرا. كان ذلك إهانة علنية للوطني المحترم، وهو ما تسبب في نقل الدليمي إلى ثكنة فاس عقابا له».
مصاهرة لخدمة العسكر
لكن رغم هذا العقاب، فقد استطاع اليوتنان أحمد الدليمي ولوج باب النخبة العسكرية من خلال زواجه الثاني. فقد طلق هذا الضابط الطموح زوجته الأولى ابنة مسعود الشيكر، الوزير السابق في الداخلية، ليتزوج، في نفس السنة، من زهرة بوسلهام، ابنة أحد المقربين من الجنرال أوفقير الذي كان يجمع بين وزارة الداخلية والإدارة العامة للأمن الوطني في الفترة ما بين 1965 و1970، كما ورد في مؤلف محمد شقير المعنون بالمصاهرات داخل النخبة العسكرية بالمغرب. ولعل هذا ما سهل له، بالإضافة إلى مؤهلاته العسكرية وأسلوبه الشرس في تتبع معارضي الملك الحسن الثاني وتفانيه في خدمة النظام، تسلق الرتب العسكرية العليا، حيث رقي في سنة 1966إلى رتبة كولونيل، وتم تعيينه مديرا للديوان العسكري للملك الحسن الثاني، لتوكل له عدة مهام أمنية واستخباراتية. بعد ذلك عين على رأس جهاز الأمن الوطني في سنة 1970.
لكن لم يتقو نفوذه السياسي والعسكري إلا بعد اغتيال الجنرال محمد أوفقير وبعد اندلاع حرب الصحراء، حيث تمت ترقيته إلى رتبة جنرال، وهي أعلى رتبة يمكن أن تطمح إليها أية شخصية عسكرية في عهد الملك الحسن الثاني، خاصة بعد فشل المحاولتين الانقلابيتين في 1971 و1972، وتعيينه كقائد أعلى للمنطقة العسكرية الجنوبية.
ثقة ملكية
وفي الخمسين من العمر، أصبح الدليمي مدير مكتب مرافقي الملك، بعد أن نال الثقة الملكية عندما عين مديرا عاما للأمن الوطني، ومديرا للمخابرات والجنرال الوحيد في الجيش، وقائده على الجبهة الصحراوية. كبر في ظل أوفقير قبل أن يغدو جلاده... كان كلاهما من أحسن خبراء المملكة في مجال التعذيب، غير أن الدليمي كان يستمتع به، كان أوفقير يجسد تماما المحارب، ووجد في الدليمي الموظف الشديد الدقة. عندما شوش الدليمي على الحسن الثاني!
«كان الحسن الثاني بصفته رئيسا أعلى للقوات المسلحة يمتلك على الجبهة مركزا متقدما للقيادة يشتمل على أجهزة ومعدات للمواصلات كانت تتبعه أينما حل وارتحل، وتخول له الدخول في شبكة الوحدات المحاربة ومتابعة العمليات عن كثب متى شاء»، يقول المحجوب الطوبجي في كتابه «ضباط صاحب الجلالة»... «غير أنه انطلاقا من سنة 1979، أمر الجنرال الدليمي الجنرال زرياب، مفتش سلاح المواصلات، باستعمال تقنيات للتشويش وأخرى لإزالة التشويش في جميع أجهزة الوحدات المقاتلة في المنطقة الجنوبية. وكان الملك كلما اشتكى من عدم قدرته على التنصت على مكالماتنا، (وقد تحدث في ذلك ذات يوم مباشرة مع بعض الضباط من أصدقائي كانوا متواجدين معه في مركز القيادة المتقدم ) كانوا يقنعونه بأن العدو هو من يقوم بذلك التشويش المستمر، ثم يأتي الدليمي بنفسه بعد ذلك ليؤكد له نفس الادعاء».
هذا هو الدليمي في بدايات الثمانينيات من القرن الماضي، ضابط سام بطموحات غير محدودة وحتى غير معروفة، كل شيء قابل لديه للتحقق، حتى الوصول إلى رأس السلطة، كما قدمه الطوبجي.
جدار الدليمي
الجيش المغربي العامل في الصحراء متفوق عدديا، يقول «جيل بيرو» في كتابه «صديقنا الملك»، متقدم في حرب الصحراء، وليس أمام البوليساريو إلا الحركة السريعة، لكن الدليمي خطرت في باله فكرة بناء جدار، كان مشروعا فرعونيا، كثيرون اعتبروه غير واقعي، فهو مفرط في الطول، لكن الملك وافق عليه، وبدأت البلدوزرات العمل في شهر غشت 1980، على طول ستمائة كيلومتر بدأت إقامة جدار بارتفاع مترين إلى ثلاثة أمتار، تغمره حقول ألغام وشبكات أسلاك شائكة، يحمي من رأس خنيفرة إلى بوجدور ذات المناطق الآهلة بالسكان والحاوية للفوسفاط، وأُقيمت على مسافات منتظمة من الجدار نقاط ارتكاز محشوة بمعدات إلكترونية، تتيح كشف أي رتل صحراوي مهاجم على شاشات رادار، تنطلق عندها الطائرات وترسل سريعا النجدات إلى القطاعات المهددة.
القصر يصف وفاته بالخسارة الكبيرة
في 25 يناير 1983 انتهت الحياة المهنية للدليمي الذي توفي بعد أن استقبله الحسن الثاني في قصر مراكش، ووفقا لبيان رسمي فإن شاحنة صدمت سيارته نحو الساعة الثامنة ليلا بينما كانت تسير بين واحات النخيل، وصف القصر الملكي غيابه بأنه «خسارة كبيرة للمغرب»، وفي اليوم الموالي دفن في مقبرة الشهداء، حيث يوارى الثرى كبار الشخصيات والوطنيين المغاربة.
بعد ثلاثة عقود على رحيله المشبوه مسار أحمد الدليمي .. الحياة الخاصة للجينرال القوي
حلت مؤخرا الذكرى الواحدة والثلاثون لوفاة أو اغتيال الجينرال أحمد الدليمي يوم 23 يناير 1983 الخبر الرسمي الذي بث على أمواج الإذاعة وشاشة التلفزة أكد وفاة الجينرال بعد تعرضه لحادثة سير عرضية في طريق النخيل في مراكش، ونعى مؤرخ المملكة آنذاك عبد الوهاب بن منصور وذكر خصال الجينرال قائلا : «الجنرال الدليمي كان ضابطا محاربا وسياسيا محنكا وملتزما بوطنيته، ويتمتع بثقة الملك، وأدى مهمته في الصحراء بكفاءة عالية وعزيمة قوية»… سنحاول في هذه الورقة، ولأول مرّة النبش في حياة الجينرال الإنسان .. طفولته، مرحلة الشباب، مساره الدراسي والمهني، حياته الخاصة والعائلية … كيف تربى الرجل؟ وكيف تسلق السلالم وسلك المنعرجات الضيقة في حقل الجينرالات المليء بالألغام؟ وكيف أصبح الجينرال أحمد الدليمي الرجل القوي في مملكة الحسن الثاني بعد أوفقير؟
شغب ولد المختار …
ولد أحمد الدليمي بمنطقة «زكوطة» بسيدي قاسم في يناير من سنة 1931، يتحدر من قبيلة «ولاد الدليم»، وهو ينتمي في أصله إلى قبيلة ذات جذور صحراوية تدعى «المحاربة» نزحت من الجنوب نحو الغرب في إطار عمل الجد كمحارب في الجيش، وكان والد أحمد المدعو «الحسن الدليمي» يشغل منصب «ترجمان»، أي المكلف بالترجمة للمراقب الفرنسي وبترجمة الوثائق الرسمية في المحكمة في الرباط، كان الأب دائم السفر والتنقل لذلك تكفل المختار الدليمي الجد بتربية أحمد ورعايته حتى أصبح أحمد معروفا باسم «ولد المختار» … يتحدر أحمد الدليمي من أسرة متواضعة انخرط العديد من أعضائها في الجيش، معروفون بولائهم للعرش، ولذلك كانت لهم حظوة ووضع اعتباري خاص في قبيلة «ولاد الدليم» … «حتى إنهم كانوا لا يشتغلون بالفلاحة والأرض بل كانوا محاربين يعرفون فقط البنادق وساحات الحرب بدل المساحات الزراعية، وحين كانت أراضي الجموع تقسم بين الفلاحين للعمل بها، بحيث يتم منح 7 هكتارات أراضي بورية، أو بدلها 3,5 هكتار، أي النصف أراضي سقوية للأسرة، كان أغلب أسر ولاد الدليم يختارون إرسال أبنائهم للعسكر كأولوية بدل الفلاحة، وخصوصا البكر الذي يعتبر هبة من الأسرة للجيش»، تقول مصادرنا.
وكباقي أطفال بداية الأربعينيات بدأ أحمد الطفل مساره التعليمي في الكتاب، وبما أن الأب غائب فقد وجد أحمد الفرصة لإطلاق العنان لشغبه الطفولي حتى أمام صرامة جده المتقاعد من الجيش، كان الجد رجلا محترما، متدينا، وقورا يحترمه الجميع، ترسمه ذاكرة مصدرنا برأسه المستدير ومنكبيه العريضين بحاجبين سوداوين اعتلاهما الشيب، ووجه لفحته الشمس من فرط القتال في ساحات الحرب، وقسمات قاسية تنبئ بغضب جاهز للانفجار … « هكذا كان الجد في صرامته وصلابة عوده، المثل الأعلى لأحمد، فقد فتح أحمد الطفل عينيه على جده وكان متعلقا به بكثيرا، كان أحمد أو ولد المختار كما يسمونه مشاغبا في طفولته، لا يتوانى في خلق أجواء المرح واللعب مع أقرانه، مع الحفاظ على التفوق في الكتاب والمدرسة، لأن الجد قد يسامح في كل شيء إلا التهاون في التحصيل العلمي»، يقول مصدرنا.
كان أحمد ذلك الولد الشقي الذي يجوب البراري بحثا عن أعشاش الطيور لصيد فراخها، وينصب الفخاخ للحجل والأرانب، كان مستمتعا بطفولته في غمرة الصيد غافلا عن العقاب الذي قد يناله من عمه الكومندار رامو أو جده بصورة أشد إذا لم يجده قد أنجز واجباته المدرسية، «كان طفلا مشاكسا لكن بمشاكسة حلوة ومقبولة، كما كان خلوقا ومؤدبا، وهي خصال تشبع بها من والده وجده»، يقول مصدرنا ويضيف: «منذ صغره وهو يحب العسكر، كان يقلد عمه الكومندار رامو الذي حارب إلى جانب الجيش الفرنسي في سوريا في مشيته وطريقة إعطائه الأوامر، كما كان يحب ارتداء البزة العسكرية في غفلة من عمه ويبدأ في تقليد الجنود في ساحة المعركة الحربية».
الطريق إلى الجيش …
تخرج أحمد من ثانوية مولاي يوسف بشهادة الباكالوريا بميزة حسنة، وكم كانت فرحته وفرحة عائلته كبيرة بالحصول على شهادة من الصعب أن يحصل عليها شاب عادي متحدر من أسرة جد متواضعة، على حد تعليق مصدرنا، كان طموحه واضحا هو تحقيق حلم والده وجده والالتحاق بالمدرسة العسكرية لتكوين الضباط وضباط الصف في مكناس، وتمكن بالفعل من الالتحاق بالمدرسة وبعد سنتين تخرج منها «ضابطا»، «كان أحمد سعيدا ببزته العسكرية المرصعة بوسام ضابط على الكتفين، كان سعيدا حين رجع إلى سيدي قاسم ذلك اليوم وهو يرتدي البذلة العسكرية، وأتذكر بأنه لم يخلعها لثلاثة أيام متتالية، ولسان حاله يقول : ها هو ولد المختار ماشي غير جندي عادي ولكن ضابط في الجيش»، تقول مصادرنا وتضيف : «كان الكل فخورا به وبإنجازه، خصوصا وأنه شاب يستحق، كان حلمه أن يدخل الجيش، ال