*السياسة بالقفف* عبد الإله حمدوشي إذا كان هناك من نقطة في الوعي البشري يتلاشى فيها الحد الفاصل بين الأسطورة والواقع، بين الخيال والحقيقة، فتلك النقطة تتجسد اليوم في صمود حكومة "عزيز أخنوش" حتى هذه اللحظة.
كيف يمكن لحكومة تعيش حالة "انفصال عن الواقع" أن تستمر بكل هذه "الثقة"؟ كيف لحزب يقود الحكومة أن يوزع المساعدات باليمين ويحتكر السلطة باليسار، متجاهلا كل الانتقادات التي تحاصره من الداخل والخارج؟ كيف يتم إقناع المواطنين، المطحونين بالغلاء والفقر، بأن الحلول ليست في السياسات العمومية، بل في "الإحسان الانتخابي" الذي تقدمه مؤسسة "جود" الخيرية؟
لم يعد مفاجئا أن تتحول مؤسسة "جود"، الذراع الخيري لحزب التجمع الوطني للأحرار، إلى ماكينة انتخابية متنكرة في هيئة منظمة خيرية، تجوب الأحياء والدواوير، توزع "الإحسان" باليمين وتحسب الأصوات باليسار.
هذه المؤسسة، التي لا يعرف أحد مصدر تمويلها الحقيقي، صارت تنافس المؤسسات الحكومية نفسها في تقديم الدعم الاجتماعي، ولكن وفق شروط خاصة: "خذ القفة.. ولا تنس الحمامة يوم التصويت!".
في بلد يُفترض أن تعمل حكومته على توفير حلول اقتصادية واجتماعية حقيقية، يفضل الحزب الذي يقود حكومة أخنوش سياسة "الإعانات مقابل الولاء"، مستغلا الفقر والهشاشة لتمرير خطاب سياسي مبتذل، يجعل من القفة بديلا عن البرامج الإصلاحية، ومن الشاحنة المملوءة بالمواد الغذائية أداة لمحو آثار الأزمات التي ساهمت الحكومة نفسها في تعميقها.
المثير للسخرية أن الحزب الذي يتزعم الحكومة، بدل أن ينشغل بتنفيذ وعوده الانتخابية البراقة، فضل اللجوء إلى أسلوب أكثر بساطة وفعالية: "خذوا المساعدات وانسوا كل شيء!"، وكأن التنمية مشروع انتخابي موسمي، وليس مسؤولية دولة.
على الرغم محاولة بعض البرلمانيين من فرق المعارضة التفاعل، بالسؤال عن مدى قانونية استغلال ممتلكات الدولة في هذه العمليات، يبدو أن السؤال الحقيقي الذي يجب طرحه هو: هل ما تزال الانتخابات تجرى في صناديق الاقتراع، أم باتت تحسم في مستودعات القفف وشاحنات المساعدات؟
العجيب أنه وسط كل هذه الأزمات، ما تزال حكومة أخنوش صامدة! وكأنها تختبر مدى قدرة المغاربة على التحمل. خبر واحد يقول إن الحكومة استطاعت إقناع غالبية أعضاء البرلمان بتمرير معظم قوانينها العجيبة والتصويت لصالحها، يجعل الرهبة تسري في خلايا دمك، ولا تملك أمام هذه الحكومة سوى الشعور بالذهول، صديقا لها كنت أو خصما.
لقد سقطت وعود كاملة يوم تعيين هذه الحكومة، نعم.. وثمة انتظارات كبرى لم تتحقق، نعم؛ لكنها لا تنفي أن هذه الحكومة ما تزال قادرة على الصمود في وجه مناهضيها ومواصلة المعركة لإبقاء يدها ممدودة إلى مقود السلطة والتحكم في مفاصلها، ولإبعاد شبح الفشل ومحاربة التشكيك في إنجازاتها.
حتى اللحظة، أنجزت هذه الحكومة وعدها، وسواء انتصرت أو انكسرت فلا يمكن لمخلوق يحترم نفسه أن يفتح فمه ليشكك في "كفاءتها" وعظمة ما قدمته.. ماذا تريدون منها أكثر من استقرار سياسي وبرلمان هادئ لا يعكر صفو المشهد؟! المجد للانسجام الحكومي وعدم وجود معارضة مزعجة!
وإن كان هناك من خلل فهو قادم من جهة خارجية جعلت الأوضاع الاقتصادية غير مفهومة وغير منطقية، وليس من طريقة تدبير الحكومة للملفات على مدى سنوات! المهم أنها تشتغل بحزم وإخلاص على إبعاد شبح الفوضى وضمان استمرار الوضع القائم بأي ثمن.. نعم.. "على التشكيك أن يرحل أولا.. اختاروا أيها المواطنون أيا شئتم من تفسيرات للوضع الصعب.. لكن لا تحملوا الحكومة المسؤولية.. فقط لو سمحتم ابتعدوا عن نقاشات حول ارتفاع الأسعار أو تأخر الإصلاحات.. لكن تذكروا جيدا.. حكومة أخنوش لا تُمس! باراكا.. لقد تم اختيارها عبر صناديق الاقتراع يوم 8 شتنبر من سنة 2021.. إنها جزء من استقرار هذا البلد!".
ما هذا الإصرار على المواصلة والتحدي الذي تتمتع به هذه الحكومة؟! أي عقل يشع ذكاء هذا الذي أشار على وزرائها أن يتحدثوا عن "الإنجازات العظيمة" رغم كل المؤشرات التي تقول العكس؟!
بكلمة.. عندما تصل السياسة إلى هذا المستوى من العبث، يصبح من الصعب على أي متابع أن يميز بين الحقيقة والخيال. حكومة تستغل المساعدات كأداة انتخابية، وبرلمان بلا صوت معارض حقيقي، ومؤشرات اقتصادية تنذر بأزمات أعمق، بينما المسؤولون يتحدثون عن "إنجازات تاريخية"!
تعظيم سلام لحكومة صامدة رغم كل شيء..! والخزي والعار لكل من يطالب بربط المسؤولية بالمحاسبة.. فتلك رفاهية لا نملكها الآن!