الإحسان الانتخابي في ثوب العمل الخيري في هذا الشهر الفضيل، وكما هو الحال في السنوات الأخيرة، أضحت حملات توزيع القفف الرمضانية والمساعدات الاجتماعية التي تقودها بعض الجمعيات المقربة من أحزاب سياسية محل جدل واسع في المغرب. ومن بين هذه الجمعيات، برزت «جود»، التي تُتهم علنًا بتحويل العمل الإحساني إلى أداة للاستقطاب السياسي واستمالة الناخبين، وهو ما يتنافى مع مبادئ الدولة الاجتماعية التي تقوم على ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، لا على استغلال فقرهم وتقديم «الصدقات السياسية» مقابل الولاء. جمعية «جود»، التي يُقال إنها مقربة من حزب التجمع الوطني للأحرار، أطلقت خلال شهر رمضان حملات لتوزيع قفف غذائية على الفئات الفقيرة والهشة. غير أن هذه المبادرات لم تمر دون انتقادات، حيث اعتبرتها بعض الأطراف السياسية والمجتمع المدني محاولة لاستمالة الناخبين وإعداد الأرضية لحملات انتخابية سابقة لأوانها. وتثير هذه الحملات التساؤل حول مدى استقلالية العمل الخيري عن الأجندات السياسية، خاصة وأن العديد من التقارير أكدت أن التوزيع تم في مناطق يُسيطر فيها الحزب سياسيا. واللافت أن هذه الحملات تستهدف أكثر الفئات هشاشة وفقرا في المجتمع، مما يجعلها أقرب إلى الاستجداء السياسي منها إلى العمل الإحساني. فبدلا من تقديم حلول جذرية للفقر وتمكين المواطنين اقتصاديا وضمان بنك للغذاء يلبي حاجيات الفئات الهشة والمعوزة، يتم الإبقاء عليهم في وضعية التبعية للمساعدات الموسمية، مما يكرّس واقع الخنوع السياسي الذي يتنافى مع مبادئ العدالة الاجتماعية وصون الكرامة . ما يحدث اليوم يكشف عن تناقض صارخ بين الخطاب والممارسة: فمن جهة، تدّعي الحكومة سعيها إلى ترسيخ نموذج الدولة الاجتماعية، ومن جهة أخرى، يمارس الحزب الأغلبي إحسانًا انتخابيًا فجًا، يعكس إرادة خفية لإبقاء الطبقات الهشة في حالة تبعية مستمرة بدل تمكينها عبر سياسات تنموية مستدامة. -منطق مخاطبة العقول أم البطون؟ إن الدولة الاجتماعية الحقيقية لا تُبنى على توزيع القفف الموسمية، بل على وضع سياسات اقتصادية واجتماعية عادلة تكفل الكرامة للمواطن. فبدل مخاطبة بطون الفقراء واستغلال حاجتهم، يجب توجيههم نحو الاقتناع بالبرامج والسياسات العمومية والقوانين العادلة التي تحسن مستوى معيشتهم بشكل دائم. الخطير في الأمر، أن هذه الحملات لا تسعى فقط إلى تخدير الفئات الفقيرة عبر «الكرم الانتخابي»، بل تهدف أيضًا إلى إسكات الأصوات المنتقدة، وضمان قاعدة انتخابية خاضعة لا تطالب بحقوقها بل تكتفي بما يُلقى إليها من فتات الإحسان الموسمي. تسخير الدولة لخدمة أجندة سياسية: هل نحن أمام دولة داخل الدولة؟ الجدل حول هذه المساعدات لم يتوقف عند حد الشبهات السياسية، بل امتد إلى تساؤلات خطيرة حول مصادر التمويل والموارد التي يتم تسخيرها لهذه الحملات. كيف لجمعية «مدنية» أن تدير وتوزع مساعدات بهذا الحجم؟ ومن أين لها بهذه الإمكانيات اللوجستية الضخمة؟ لقد تم رصد حالات استغلال لمعدات الجماعات المحلية والموارد العمومية في عمليات التوزيع، وهو ما يضعنا أمام تساؤل أخطر: هل نحن أمام دولة داخل الدولة، حيث يتم استغلال مواقع النفوذ لتوجيه المساعدات نحو أهداف سياسية؟ إن استمرار مثل هذه الممارسات يضرب في العمق مبدأ الشفافية والمساءلة، الذي يُفترض أنه من أسس العمل السياسي النزيه. -تفعيل المساءلة والمحاسبة: مسؤولية الدولة والأحزاب الديمقراطية في ظل هذه المعطيات، فإن مسؤولية الأحزاب الديمقراطية وقوى المعارضة والمجتمع المدني تكمن في تفعيل آليات المساءلة والمراقبة، للتصدي لهذه الظاهرة التي تفرغ العمل السياسي من مضمونه الحقيقي، وتحوله إلى مجرد سباق نحو استغلال فقر المواطنين. يتوجب على مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المجلس الأعلى للحسابات والسلطات الرقابية، فتح تحقيقات شفافة حول مصادر تمويل هذه الحملات، ومدى ارتباطها بأجندات انتخابية، ومدى احترامها لقوانين التمويل السياسي. -الكرامة لا تُشترى بقفة رمضان إن الحل الحقيقي ليس في توزيع المساعدات، بل في خلق فرص شغل، وضمان عدالة اقتصادية، وتمكين الفئات الهشة من حقوقها الأساسية، بعيدًا عن أي استغلال سياسي. فالكرامة لا تُشترى بقفة رمضان، بل تُبنى عبر سياسات عادلة تحرر المواطن من التبعية، وتجعله فاعلًا في التنمية بدل أن يكون مجرد متلقٍّ للإحسان المشروط بولاء سياسي. إن المعركة اليوم ليست فقط معركة سياسية، بل معركة وعي جماعي ضد ثقافة الاستجداء السياسي، ومن أجل ترسيخ نموذج ديمقراطي حقيقي، يقوم على مساءلة الفاعلين السياسيين عن برامجهم وسياساتهم العمومية، وليس عن عدد القفف التي وزعوها في موسم انتخابي مقنّع. *الكاتب الإقليمي للحزب بالحسيمة عضو المجلس