إذا كان سقوط الأندلس قد شكل صدمة كبرى للمغاربة، ودفع بمئات الآلاف من المورسكيين للهجرة نحو المغرب، فإن العادات والأخلاق التي اتصف بها هؤلاء وتفردوا بها في مجتمع مغربي محافظ، قد شكل إزعاجا للساكنة المحلية، وجعلها تنهج تجاه هؤلاء سياسة إعادة تقويم السلوك تارة ومرة أخرى سياسة العقاب والمحاربة.
وقد كانت الأحداث التي عرفتها منطقة الرباط من خلال العداء الذي كان يكنه ساكنة سلا لهؤلاء، والذي وصل في إحدى مراحله إلى قيام حروب بين ساكنة الضفتين أحد تجليات الرفض الذي قوبل به هؤلاء من طرف الساكنة المحلية، التي وصفتهم بمسيحيي قشتالة.
بل إننا نجد مؤرخا كمحمد بن علي الدكالي المتوفي أواسط القرن العشرين في كتابه الذي أرخ فيه للعدوتين حين حديثه عن الأوصاف العامة لأهل العدوتين خص أهل سلا بالشجاعة والغيرة عن انتهاك الحرمات، دون الحديث عن أوصاف أهل الرباط . 1
فهل يتعلق الأمر بسهو من مؤرخ كبير أم أن الأمر بتعمده الإشارة الى اخلاق اهل الرباط؟مما يمكننا اعتباره هروبا من الوقوع في الحرج بذكر بعض ما عرف عن أهل الرباط، الذين ستلتصق بهم بعد ذلك صفة "مسلمين الرباط"، وهو الأمر الذي سجيب في مقالنا هذا عن الأسباب التي جعلت هذا الاسم لصيقا بساكنة الرباط إلى اليوم .
وإن كان لا بد من الإشارة الى ان الكثير من المياه قد مرت بنهر ابي رقرارق، كما مرت أجيال تلوى الأجيال، تغيرت معها العديد من الأخلاق والعادات والتقاليد، جعلت هؤلاء لا يختلفون اليوم في شيء عن إخوانهم المغاربة، وإن كانت الكثير من الرواسب لا زالت باقية، وهذه هي سنة الله في خلقه.
أولا: سبب التسمية لقد اعتبر االمورسكيون الذين استوطنوا قصبة المهدية الاوداية الحالية غرباء تفضحهم ألقابهم : فلقب فركاس تحول بركاش ، وبيلافريس الذي أضحى بلافريج . كان أغلبهم يجهلون العربية ، حيث استعمل أعضاء الديوان الذي كان يحكم القصبة اللغة الاسبانية في مراسلاتهم وفي صياغة المعاهدات المبرمة مع الاوربيين ، وإذا كان الهرناتشوس – طائفة من المورسكسسن – الذين كانوا يشكلون أقلية داخل هذه الطائفة التي كانت تشكل كانوا يشكلون الأغلبية.2
وقد زاد من ترسيخ هذه الصورة عند جيران هؤلاء، ونقصد هنا ساكن سلا وباقي الساكنة المستقرة جوار الرباط، هو بقاء هؤلاء بعيدا عن السكان الآخريين ، منعزليين ومحميين بحزامهم المزدوج ، السور المورسكس الذي شيده هؤلاء والسور الموحدي العظيم الذي شيد زمن الموحديين ، حيث كانوا يودون الحياة بها دون الخضوع لاي شخص حيث كان استقلالهم عن السلطة المركزية أحد العوامل التي ساهمت في ذلك . 3
الاستقلال الذي نعمت به القصبة والرباط لفترات متقطعة كان أهمها فترة إعلان ما يصطلح عليه بجمهورية ابي رقرار ، وكذلك في فترة الصراع على الحكم بعد وفاة السلطان المولى إسماعيل .
حيث حافظ هؤلاء على أسلوب معيشتهم وطريقة تعاملهم ، حيث حيث تجنبوا الإختلاط بغيرهم من السكان ، وهذا جعلهم يحجمون عن الزواج خارج جماعتهم ، فالمرأة الأندلسية المورسكية نادرا ما تتزوج من غير أندلسي إلا اضطرتها الحاجة إلى ذلك .كما أن الإحتياط وتدبير المعاش ، وحفظ لما في أيديهم خوف ذل السؤال فلذلك ينتسبون للبخل .
وقد استنتج المؤرخ بن شريفة من أمثال الزجالي القرطبي أنهم كانوا يرون أن الصلاة بين الناس تقوم على سوء الظن والحيطة والحذر ، وأن المنفعة هي الباعث المحرك في كثير من مظاهر السلوك وصلاة الأفراد .
وهي مظاهر سلوكية رفضها المغاربة ، واعتبرت عاملا إضافيا من عوامل المواجهة بين الطرفين ، فقد عرف عن المغربي كرمه ، وتضامنه مع الغير ولو على حسابه ، كما عرف عنه سؤال غيره إذا ما احتاج إلى ذلك ، وتفتحه وحسن ظنه بالآخرين ، ورغبته في التعامل معهم ، وهي صفات لم يجدها هؤلاء في الوافدين الجدد .
ومن العاداة كذلك التي حملها هؤلاء الوافدون معهم وعرفت استنكار المغاربة ومحاربتها ، احتفالهم بعيد النيروز الفارسيب ومهرجان العنصرة – ميلاد النبي يحي – وعيد ميلاد المسيح ، كما أنه حملو معهم عادة صورة الكف وهي من المعتقدات المسيحية التي رسخت في أذهان المورسكيين لأن الكف هي كف مريم البتول ، وتعتبر مانعة من الأرواح الشريرة ، وتطرد كل شيطان رجيم ، وقد جمع المورسكيين التمسك بالكف إلى التمسك بالصليب ، ىفكثير من الأبواب يعلوها صليب . 4
والجدير بالذكر أن الدولة لم تقف مكتوفت الأيدي هذه السلوكيات المنحرفة التي اتصف بها هؤلاء ، فحركت لذلك خطة الحسبة ، وهي خطة توكل الى رجل يسمى المحتسب يإخذ على عاتقه تقويم تلك السلوكات ولو اقتضى الامر استعمال وسائل الاكراه ، وقد كانت مدينة فاس إحدى النماذج في ذلك ، وهي التي اشتهر فيها هؤلاء المورسكيين
بالإقبال على اللهو والطرب والتدخين وشرب الخمر وعدم الإلتزام بالواجبات الدينية ، وكذا بالاستمرار في التشبت بالعادات الأوربية التي كانو عليها وهم باسبانيا ، مثل اختلاط الرجال والنساء في المحافل العامة .
حيث قلد هؤلاء انفسهم ونقصد هنا المورسكيين أحد رجالاتهم مهمة محاربت تلك السلوكات وفي هذا الصدد يقول القادري : وقلد الاندلس الحاج صالح ولاية الحسبة ، فقطع شرب الدخان وبيعه ، وقطع اللهو وآلات الطرب من النساء ، وألزم الناس بالصلوات في الوقت ، والستر في الحمام وغير مناكر شتى . 5
لكن ما الذي جعل هؤلاء يتصفون بتلك السلوكيات والأخلاق ؟؟ وبالرجوع الى الوثائق التي أشار اليها الكثير ممن كتبوا عن مأساة المورسكيين أو المغاربة المسلمين الذين بقوا في إسبانيا الى حدود الطرد النهائي سنة 1609 وذلك بعد سقوط مدينة غرناطة كآخر القلاع التي سقطت سنت 1492 ، تشير الوثائق التي أوردها المؤرخان دومينيغيت اورتيت وبرنارد فينسينت في كتابهما تاريخ المورسكيين مأساة أقلية ، الى ان هؤلاء تعرضوا لكل أشكال الإضطهاد ولعل أخطرها المحاولات المتكررة لتنصيرهم ، ونموذج ذلك نص نص يعود لبداية القرن 16 صادر عن أحد الأساقفة الذين أوكلت لهم هذه المهمة حيث يحث النص المبشرين على العمل على ان ينسى المورسكيون كل شعيرة من شعائر الإسلام من صيام وصلاة وأعياد ، بل حتى شعائر الإحتفال بمولد الأطفال والأفراح وكذلك طريقة دفن الأموات مع حرمانهم من التوجه للحمامات ، لما تمثله الطهارة من أهمية لدا المسلمين . 6
شكل صعو د العلويين ودخولهم الى مدينة الرباط سنة 1666 لحظة اسثنائية في احتكاك ساكنة الرباط المورسكية بسلطة مركزية قوية، وهو احتكاك اتسم في الكثير من مراحله بالتوتر وال1ي وصل في بعض الاحياء إلى طرد ممثل السلطة المركزية . وستعرف مرحلة السلطان سيدي محمد بن عبد الله أهم الفصول الدراماتيكية في تلك العلاقة ، لاسباب مرتبطة بما اسماه السلطان نفسه بفسق هؤلاء .
وكمثال على ذلك سيعمد السلطان على مصادرة جزء كبير من مساحة الرباط التي كان يمتلكها هؤلاء بدعوى تطيرها من الفسق والفجور ، ففي الخامس والعشرين من رمضان من سنة 1187 الموافق ل 12 ديسمبر من سنة 1773 ، سيطلق السلطان يد جنده وعبيده في السبل والأجنة والبساتين فنهبوا ما وجدوا من الليشين ، ليتوجه هؤلاء في الصباح إلى السلطان بالمحاضر والألواح والمصاحف والأشراف ، حيث وجدوه داخل أكدال في ناحية صومعة حسان ومعه ابن عمران والحاج العباس مرين ، فسأل مرافقيه : من هؤلاء ؟ فقالو : أهل الرباط ، فأتى وليس معه أحد إلا المذكورين .
فقال أهل الرباط : جئناك متشفعين لتعفو عنا . فقال لهم : وما فعلت لكم إنما أتيت لأطهر بلادكم لأنكم اشتغلتم بالفسق مع اليهوديات وتسبتون معهن في يوم السبت وتأكلون السخينة معهن فرحم الله الأديب فلان الذي حكى لي أنه أتى للرباط وكان معه مال ، فاجتمعتم عليه – نوع من الموسيقى الاندلسية – حتى أكلتم له المال ونفرتم منه وقد هجاكم بقصيدة وأنا أحفظها ، فذكرها السلطان لهم .
لكن ما الذي يجعل سلطانا يحفظ قصيدة في هجو ساكنة الرباط ، إن لم تكن تعبر عما يخالج السلطان من مشاعر سيئة تجاه ساكنة المدينة وقد وكان مضمن القصيدة يقول مؤرخ الرباط أن وصفهم بالزندقة والفسق والطمع وقلة الوفاء . 7
فهل هذا الأمر هو الذي دفع السلطان قبل ذلك وفي نفس سنة التي عمد على حيازة جزء من ارض الرباط من الرباطين ، إلى استفثاء علماء فاس في إخراج أهل الرباط إلى مدينة الصويرة من بلدهم عقابا لهم وبدعوى أن السلطان يرث السلطان ، فأفتاه الكثير من العلماء إلا البعض وعلى رأسهم شيخ الجماعة التاودي الفاسي ، والذي بسبب ذلك عزله السلطان عن الإمامة ، لكن مقابل ذلك كتب لهم السلطان أن يختاروا من أولادهم نحو الثمانين ليتعلمو الرماية بالأنقاض والمهراز على أن يزيدو عددا ءاخر من البحرية ليسافرو في البحر . 8
فهل يتعلق الأمر بمحاولة من السلطان بفرض التجنيد الإجباري على ساكنة الرباط بديلا عن عقاب ترحيلهم إلى الصويرة ، أم أن الأمر يتعلق بمحاولة السلطان تنشئت جيل جديدا من الساكنة متعود على الخشونة ومكارم الاخلاق ، ولهذا كان اختياره للأولاد وليس الرجال البالغين ، وذلك لسهولة تنشأت الأطفال على مكارم الأخلاق عكس البالغين الذين يكونون قد نشأوا على نوع من الاخلاق فيصعب إلزامهم بغيرها .
كما ان قيام السلطان باقتطاع جزء كبير من أكدال التاريخي – تواركة الحالية وجزء كبير من حي حسان الحالي _ لبناء قصر ومجموعة من المساجد إضافة الى منازل عبيده وقادة جيشه ألا يعتبر نوعا من العقاب على ما اعتبره السلطان وهو يخاطب ساكن الرباط تطهيرا للمدينة من فسق وجور هؤلاء .
وقضية مؤاخذة السلطان سيدي محمد بن عبد الله على الرباطين فسقهم ستتكر مع حفيده السلطان عبد الرحمان بن هشام في رسالة إلى ساكنة الرباط يوبخهم فيها على شيوع الفساد في مدينة الرباط ، وأعظمها المجاهرة بشرب أم الخبائث ، واجتماع أهل الفسق عليها ، وظهور ما ينشأ عنها من الفتنة بالقتل …فبوصول كتابنا هذا إليك مخاطبا عامله على الرباط قم على ساق الجد في تغيير هذا المنكر بالبحث عن مدمن الخمر واراقة أوانيه ، وعقاب من وجد عنده . 9
المراجع
1محمد بن علي الدكالي الاتحاف الوجيز في تاريخ العدوتين ص 49
2 جاك كايي مدينة الرباط حتى الحماية تاريخ وأركولوجيا ص 257 3 نفس المرجع السابق ص 259 4 محمد رزوق الإندلسيون وهجراتهم إلى المغرب ص 348 349
5 نفس المرجع السابق ص 347
6 دومينيغيت اورتيت وبرنارد فينسينت في كتاب تاريخ المورسكيين مأساة أقلية ص 149