لأول مرة في تاريخ العهد الجديد، أهاب الملك محمد السادس بالمغاربة، عدم القيام بشعيرة ذبح أضحية العيد هذه السنة، نظرا ل"التحديات المناخية والاقتصادية" و"الظروف الصعبة" التي تعيشها البلاد، كما جاء في الرسالة الملكية التي تلاها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق، مساء أمس الأربعاء 26 فبراير، لكن إعفاء المغاربة من إحياء سنة النبي إبراهيم، بتوجيه ملكي رسمي، ليس أمرا جديدا؛ فقد سبق في ثلاث مواسم مضت أن تم رفع هذا الحرج عنهم، مراعاة لظروف فئات واسعة من الطبقات الفقيرة والمتوسطة، التي تدفعها الضغوط الاجتماعية والعائلية أحيانا إلى الاقتراض أو بيع ممتلكاتها من أجل اقتناء أضحية "العيد الكبير".
ويتذكر مغاربة مناسبات سابقة أقدم فيها الملك الراحل الحسن الثاني، بصفته أميرا للمؤمنين، على إلغاء ذبح الأضاحي، فاستجاب من استجاب، واختار البعض التضحية سرا أو ليلا أو سفرا من المدينة نحو القرية بعيدا عن أعين "المخزن"، بينما كان السجن مصير من فضَّل "بولفاف" على "السمع والطاعة" وأعلن تمرده.
عندما حاربت "حرب الرمال" "العيد الكبير" في عام 1963، أعلن الملك الحسن الثاني إلغاء شعيرة النحر بسبب "حرب الرمال" بين المغرب والجزائر، التي اندلعت في الثامن من أكتوبر من نفس العام واستغرقت 29 يوما، متسببة في استنزاف اقتصاد الجارين معا.
تمرد على الحسن الثاني
اتخذ المغرب للمرة الثانية القرار ذاته، وكان ذلك في سنة 1981، بسبب الجفاف الشديد وغير المسبوق الذي ضرب البلاد وأدى إلى نفوق أعداد كبيرة من رؤوس الأغنام، كما استحال على المملكة في ظل إعدادها لتنفيذ برنامج التقويم الهيكلي لحكومة المعطي بوعبيد وصندوق النقد الدولي، استيراد "أكباش العيد" بعملة ضخمة، وهو ما دفع الحسن الثاني إلى إصدار أمرا بالإمساك عن نحر الأضاحي، لكن، وعلى خلاف المرة الأولى فقد أثار ذلك ردود أفعال واسعة من قبل المواطنين، وصلت حد التمرد على القرار الملكي، حيث أقدم مواطنون بالجنوب الشرقي للمملكة، وبالضبط بمدينة كلميمة، على ذبح كلبين وتعليق جثتيهما على واجهة إحدى المباني، مع كتابة عبارات معادية لقرار الملك، مما أدى إلى اعتقال وتعذيب عدد من سكان المدينة.
سنة كارثية "نُهيب بشعبنا العزيز ألا يقيم شعيرة ذبح أضحية العيد في هذه السنة للضرورة"، هكذا خاطب الملك الحسن الثاني المغاربة من خلال رسالة تلاها نيابة عنه عبر التلفزيون والإذاعة وزيره في الأوقاف الراحل عبد الكبير العلوي المدغري، معلنا عام 1996 للمرة الثالثة إلغاء عيد الأضحى. وأرجع الملك قراره آنذاك إلى أن المغرب عاش سنوات صعبة من الجفاف، وهو ما دفعه إلى إعلان عام 1995 سنة كارثة وطنية، وعزا الجالس على العرش "منع العيد" أيضا إلى الإتلاف الذي سيطال الماشية وارتفاع سعرها الذي سيضر بالغالبية العظمى من المواطنين، فاتجهت الأسر آنذاك لاقتناء بعض الكيلوغرامات من اللحم وطبخها، في حين اختار آخرون السفر إلى القرى لإقامة هذه السنة المؤكدة بعيدا عن رجال السلطة الذين كانوا يتعقبون المنازل التي تنبعث منها رائحة الشواء ويفتشون حاويات الأزبال بحثا عن بقايا الأضاحي لمعاقبة من لم يطع أمر "الإمام".
صرخة شعبية قبل أن يدعو الملك محمد السادس المغاربة إلى الإمساك عن ذبح أضحية عيد 2025 الذي سيحل بالمملكة بعد أقل من أربعة أشهر، كانت فئات عريضة من المواطنين قد أطلقت سنة 2020 دعوات شعبية لحظر ذبح الأضاحي بسبب الأزمة الاقتصادية التي تسبب فيها الحجر الصحي آنذاك ارتباطا بجائحة "كوفيد 19″، ثم تداعيات الجفاف الذي ساهم في ارتفاع أسعارها بشكل ملحوظ مما استحال على ذوي الدخل المحدود تناول إحياء السُنّة، غير أنه في سنتي 2023 و2024 بلغت هذه الصرخة الشعبية ذروتها، لتتحول إلى "هاشتاغ" غزا مختلف مواقع التواصل الاجتماعي وقتها، فاضطرت حكومة عزيز أخنوش، تحت الضغط، إلى تخصيص دعم لمستوردي الأغنام، يهم استيراد 600 ألف رأس بمبلغ إجمالي يناهز 30 مليار سنتيم، غير أن هذا الإجراء الحكومي، الذي أحيطت به شبهات تتعلق بطبيعة رجال الأعمال المستفيدين منه، ظل بدون جدوى تذكر؛ إذ لم يساهم إطلاقا في توفير الأضاحي للمغاربة بأثمان معقولة وفي المتناول، فقد وصل سعرها إلى مستويات قياسية (متوسطة الجودة: ما بين 3500 درهم إلى 4500 درهم، أما الجيدة فما بين 5000 و10.000 درهم".
بالإضافة إلى انحصار المطر وتأثيره على القطاع الفلاحي الذي كانت حكومة أخنوش تختبئ وراءه لتبرر الأثمنة الصاروخية للأكباش خلال المواسم الفارطة بالرغم من تأكيدها في أكثر من مناسبة أن العرض يفوق الطلب، برز عامل آخر فاقم من هذا الوضع بشكل كبير، يتعلق بالوسطاء والمضاربين أو كما يحلو للمغاربة تسميتهم ب"الشناقة"، وهم المتحكمون في عمليات البيع والشراء داخل الأسواق بجميع أنحاء المملكة، الذين ظلوا في معزل عن أي محاسبة أو إجراءات رادعة، رغم إقرار الحكومة نفسها بدورهم السلبي على هذا المستوى. وتأكيدا للصعوبة التي يجدها المغاربة في توفير ما يلزم للاحتفال بعيد الأضحى، كانت المندوبية السامية للتخطيط قد نشرت، تزامنا مع إحياء هذه المناسبة العام الماضي، بحثا وطنيا جاءت نتائجه مقلقة للغاية بخصوص مستوى معيشة الأسر، حيث أظهرت أن نسبة الأسر المغربية التي لم تمارس شعيرة عيد الأضحى انتقل من 4 في المائة عام 2014 إلى 12% عام 2022، وتبين بخصوص التوزيع الجغرافي للأسر التي لا تمارس شعيرة عيد الأضحى، أن جلّها يتمركز بشكل رئيسي في المدن.
وبحسب نتائج البحث الرسمي ذاته، فإن 56.9% من الأسر المكونة من شخص واحد لا تمارس شعائر عيد الأضحى وفق آخر إحصاء، بعدما كان هذا المؤشر في حدود 46.5% سنة 2014، ودقّت المندوبية الناقوس منبهة إلى أن هذه النسب ترتفع أكثر كلما ارتفع مستوى المعيشة، وقلت القدرة الشرائية للمغاربة، ولا سيما عند غلاء أسعار أضاحي العيد، خاصة أن الأضحية تمثل حوالي 30% من إجمالي النفقات السنوية للأسر المغربية المخصصة لاستهلاك اللحوم،علما أن متوسط الاستهلاك السنوي للأسر المغربية من اللحوم يقدر ب141 كلغ، منها 55.8 كلغ من اللحوم الحمراء.
تقرير آخر على شكل استطلاع لرأي المغاربة حول نفس الموضوع، يُدعّم بشكل كبير النتائج نفسها التي وصلت إليها مندوبية التخطيط وقتها، أنجزه المركز المغربي للمواطنة خلال الفترة من 21 إلى 31 ماي 2024؛ أي قبيل عيد الأضحى، وشارك فيه 1007 أشخاص من جميع الفئات العمرية يمثلون جميع جهات المغرب، عبر استخدام استمارة إلكترونية نُشرت على منصات التواصل الاجتماعي، كشف أن 57% من المشاركين يرون أن إلغاء العيد سيخفف عنهم ضغطا كبيرا، فيما 48% منهم يفضلون عدم الاحتفال بعيد الأضحى، بينما عبّر 44% عن رغبتهم في ذلك، وأعرب 55% من المشاركين عن صعوبة في توفير مصاريف العيد، بينما 23% يجدون ذلك صعبا نسبيا، و17% لا يجدون صعوبة.