لا شك أن الخطاب الذي ألقاه رئيس فرنسا، إيمانويل ماكرون، أمام البرلمان المغربي خلال زيارته المغرب، فيه إنصاف تاريخي وحضاري وسياسي للمغرب دولة وشعبا. وقد أعاد فيه ماكرون التأكيد على ما قاله للملك في عيد العرش الأخير، وهو أن فرنسا تعتبر حل قضية الصحراء حاضرا ومستقبلا هو تحت السيادة المغربية وضمن إطار مقترح الحكم الذاتي المغربي، وأن يعيد التأكيد على ذلك بشكل رسمي أمام البرلمان المغربي هو أمر له قيمته لدى الرأي العام المغربي من فرنسا تحديدا.
ولا شك أيضا أنه خطاب ليست فيه نبرة الاستعلاء التي عُرف بها ماكرون، و هو خطاب يعكس توجه وإرادة الدولة الفرنسية تجاه المغرب. والظاهر هو أنه تحول نحو الشراكة المتكافئة التي يستفيد منها الطرفان، كما أن استدعاء ماكرون الحديث عن القارة الإفريقية من قلب البرلمان المغربي يوحي بأن فرنسا لا تنظر للمغرب كبلد منفرد بل كنافذة على قارة تعاني فيها من "خسارات" فادحة، وأيضا كبلد لا تفككه النزاعات بالشكل الدرامي الذي بدأ يمس منطقة شمال إفريقيا..
ليس في السياسة أخذ بلا مقابل، والخطاب حمل نبرة تواضع واعتراف أمام تاريخ المغرب وعمقه الحضاري، تصحيحا وتراجعا ربما عن الهفوات التي أبدتها السياسة الفرنسية تجاه المغرب من ضمنها خلال فترة زلزال الحوز الأليمة.
ماكرون خاطب المغرب بما يليق به، ليس دُويلة مُحدَثة والمغاربة ليسوا طارئين على الإرث الحضاري الإنساني بكل تركيبه وغناه. طبعا مرر موقفه من القضية الفلسطينية القريبة جدا من الوجدان المغربي، وفي جزء منه يتوافق مع إرادة الدولة والمجتمع حول ( وقف إطلاق النار، وقف تزويد إسرائيل بالأسلحة، المساعدات، حل الدولتين..) وهو ما جلب عليه غضب نتانياهو، وللإنصاف فهذا هو الجزء الذي تلاه التصفيق، وفي جزء منه يعبر طبعا عن موقف فرنسا من السابع من أكتوبر. أما وجدان الشعب المغربي فغالبيته العظمى ترى مقاومة الاستعمار حقا مشروعا، تكفله كل الشرائع، فهو شعب قاوم الاستعمار الفرنسي والإسباني والبرتغالي في أجزاء من أرضه، وما كان ليُقال فيه ما قيل اليوم على لسان دولة كانت من مستعمريه السابقين لولا هاته المقاومة من الأطلس إلى الريف وباقي مداشر المغرب سهولا وجبالا. والتاريخ في أرشيفات فرنسا والمغرب شاهدة على ذلك، جرائد الاستعمار حينئذ كانت تصف المقاومين ب"الإرهابيين"، وهم الآن أيقونات الكفاح من أجل التحرر في وجدان كل مغربي ومغربية، طبعا كان المستعمرون يعتبرون تجرؤهم على أرض ليست لهم دفاعا عن "حضارتهم" و القتل "دفاعا عن النفس".
ليس المطلوب الاتفاق التام والمطلق مع كل ماقاله في بعض الأمور، لكن ينبغي الوقوف بتمعن عند بعض من قوله، فنحن شعوب ودول نحب سماع الثناء على تاريخنا وهويتنا، وأحيانا يكون ثمن ذلك غالي مقارنة بالمردود الواقعي، وهم لا عقدة لهم في القيام بذلك إن كان في ذلك جلب مصلحة، الأمل كله هو أن تكون مصلحة مشتركة ومتكافئة!
لقد أشار ماكرون أكثر من مرة لاتفاقية لاسيل -سان- كلو، وقال أنه اقترح على الملك إطارا جديدا للارتباط الاستراتيجيي بين البلدين بعد مرور حوالي سبعين عاما على هذه الاتفاقية، وهو ما من المحتمل التوقيع عليه بعد الزيارة الملكية المرتقبة التي قال ماكرون أن الملك وافق على تلبية دعوة فرنسا له للقيام بها.
فماذا تكون اتفاقية لاسيل-سان-كلو؟
إنها اتفاقية وقعها محمد الخامس في الثامن من نونبر 1956 بفرنسا وتمنح المغرب صفة "البلد المستقل المرتبط بفرنسا بروابط دائمة" فيما سمي أنذاك ب"الارتباط المتبادل الإرادي".
والعودة لهذا التاريخ مهمة، فقد تحدث ماكرون بالكثير منه، ومن الضروري أن نتذكر جميعا وقائع تاريخية تصنع حاضرنا الحالي، وبما أنه تحدث عن عودة محمد الخامس من المنفى فالمؤروخون ومنهم فرنسيون مثل دانييل ريفيه في كتابه "تاريخ المغرب" يذكر أن اللحظة التاريخية التي سبقت عودة السلطان محمد بن يوسف من المنفى يوم 16 نونبر 1955 إلى مطار سلا، تميزت بتكثيف المقاومة لعملها المسلح، خاصة بعدما تم نفي محمد الخامس، وأهمها، في نظر دانييل ريفيه هو حدث يصفه أنه "كان له مفعول المضاعفة، وهو الهجوم على نقطة عسكرية قرب مدينة خنيفرة يوم 19 غشت 1955 من طرف مقاتلين من قبيلة زيان، وهجوم آخر يوم 20 من الشهر نفسه في مدينة واد زم من طرف قبيلةالسماعلة وآيت عمار. في حادث واد زم، قتل ما يقارب 50 أوروبيا وفي آيت عمار 15. كان رد الفعل الفرنسي هو القمع العنيف الذي ذهب ضحيته الآلاف من دون أن تتوفر لدينا حصيلة دقيقة، لقد برهنت هذه العمليات على أن الشعورالوطني والرغبة في طرد المستعمر الفرنسي انتشرا في البوادي بعد المدن".
وتقول الرواية التاريخية أنه برغبة من إدغار فور، رئيس الحكومة، وأنطوان بيناي، وزير خارجيته، عُقد، بعد ذلك، مؤتمر في مدينة إيكس– لي–بان في نهاية غشت 1955، وهو طاولة مستديرة دُعي للمشاركة فيها ممثلو القوى السياسية في المغرب، وتم خلالها تداول فكرة إنشاء مجلس العرش للتخلص من بن عرفة وإعادة تنصيب بن يوسف، يقول دانييل ريفيه: "بعد إبعاد بن عرفة والتغير في موقف القايد الكلاوي في 25 من الشهر نفسه، لم يعد هناك شيء يحول دون عودة السلطان بن يوسف، خصوصا وأن السياسيين الفرنسيين المدافعين بشراسة عن استمرار الاستعمار في المغرب بدؤوا يلينون موقفهم إزاء السلطان المنفي".
وعاد محمد الخامس من مدغشر إلى فرنسا، ووقَّع يوم 8 نونبر 1955 اتفافية لاسيل –سان– كلو، والتي-كما ذُكر أعلاه- تمنح المغرب" صفة البلد المستقل المرتبط بفرنسا بروابط دائمة"، فيما سمي آنذاك ب"الارتباط المتبادل الإرادي" حسب نفس المصدر التاريخي الذي يقول إن « هذه الصيغة الملتوية من ابتكار إدغار فور، وهو بطل في فن الغموض، وهي حيلة لا يمكن أن تخدع أحدا. لقد عاد الملك إلى مطار سلا يوم 16 نونبر 1955، أي يومين قبل عيد العرش، وفي وخطابه بهذه المناسبة،كتم شعوره بالمرارة ودعا إلى الحفاظ على الروابط المتميزة مع فرنسا".
إن الإطار التاريخي لتلك الاتفاقية كان ملفوفا بهذا السياق التاريخي، بالرغبة في استقلال المغرب وحفظ استقرار المؤسسة الملكية المجسدة حينئذ في نظام السلطنة والسلطان محمد الخامس وتأمين انتقال العرش. بعد سبعين عاما لماذا يتم استدعاء هذه الاتفاقية؟ هل نفذ دورها التاريخي؟ هل استنفذت بنودها؟ هل انتهى زمنها؟ أكيد أنه سياق آخر. ففرنسا ذلك الزمن التي كانت تستعمر البلدان بجيوشها ليست هي فرنسا اليوم، ولا مغرب بداية الاستقلال هو مغرب اليوم، فرنسا يتراجع نفوذها الاستعماري بصيغته القديمة وأيضا عبر طرقه الناعمة كالإشعاع الحضاري والنفوذ الاقتصادي والسياسي والثقافي خاصةً في القارة الإفريقية بعدما صارت تنافسها قوى دولية أخرى في المنطقة التي كانت حكرا عليها. والمغرب بعد عقود من الاستقلال يتقدم في بناء دولة حديثة مؤسساتيا وسط كل الإكراهات الداخلية والدولية بين التقدم والتعثر أحيانا، لا يغزو دولة بجيش ولكن له جيش من المهاجرين والكفاءات المغربية التي لهت أثر قوي في مجريات الحياة الفرنسية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية..!
والملكية الآن ليست في مرحلة الانتقال الصعبة التي كانت خلال تلك الاتفاقية، هي الآن مؤسسة يؤطرها الدستور ولا ينازع حكمها أحزاب ولا دواليب معارضة قوية، كما كان مع الحركة الوطنية غذاة الاستقلال. لكن هذا لا ينفي أن هاجس حفظ الاستقرار والاستمرار يظل حاضرًا بشكل دائم ويزداد مع التغيرات والاضطرابات التي خلقها منذ سنة العدوان الإسرائيلي بغزة الفلسطينية والذي كسر كل المنظومة الدولية في الحروب وبلغ مدى صادما للإنسانية في وحشية القتل، وبعد ذلك أتى الدور على لبنان. وبعيدا عن لغة الدعاية فالدولة المغربية تعي أن هذا أمر لا يرتبط بالشرق الأوسط وحده، ولا شمال إفريقيا وحدها، بل بمرحلة مخاض خطير وتغير عسير في التوازنات الدولية عموما وإعادة النظر في العلاقات الدولية وترتيب التحالفات وما فلسطينولبنان إلا ساحته الأكثر دفعا للدماء.
لقد وقَّع المغرب اتفاقية مع إسرائيل، ومنذئذ ساد خطاب انزلق نحو رهان غير حذر ومبالِغٍ على إسرائيل. وإن كان المغرب لم يعلن الآن عن أمر يجعل الاتفاقيات تتوقف أو أن يحد منها، لكن لا يمكن ألا تكون هذه السنة المؤلمة قد جعلت الدولة المغربية وفي قلبها المؤسسة الملكية تفطن على الأقل على أن إسرائيل مهما تقدمت معها العلاقات لا يمكن ان تكون محط ثقة مطلقة، وأن خطابات الفاشية التي تتدفق بغزارة من الجهات الرسمية ومن غالبية مجتمع المستوطنين لا تبعث على الاطمئنان، وأنهم يستثمرون في بث الفتن داخل كل الدول التي يحسبونها على العالم الإسلامي والعربي والمغاربي استثمارا خياليا. وبعد سنة من التتبع لم يعد يخفى على أحد حجم الاستثمار الإعلامي وفي منصات التواصل الاجتماعي الذي تقوم به إسرائيل لغاية بث الفتن والرغبة في تأجيج الخلافات من الدينية والطائفية والعرقية إلى تأجيج شعوب ضد أنظمتها حتى وإن كانت من الموقعين على "اتفاقيات السلام" كما يسمونها، ورسائلهم في هذا الباب كثيرة وللجميع، مما يجعلهم خطرا ليس فقط على الشعوب وإنما أساسا على الدول.
ولا تخرج عودة العلاقات المغربية الفرنسية لسكتها عن سياق حفظ مصالح الدولة والاستقرار عبر خلق توازن في التحالفات، وتظل فرنسا وإن كانت لا تقدم خدمات مجانية هي الأكثر وثوقا وطمأنة من دولة احتلال فاشية تغدر بحلفائها قبل أعدائها وأطماعها أكبر من مجرد اتفافيات اقتصادية بل هي أطماع توجهٍ استئصالي وعنصري لا حد له، وقد ظهر التلاعب المقيت الذي أظهره مجرم الحرب نتانياهو أكثر من مرة بخريطة المغرب بشكل يلعب به على وتر الوحدة الترابية للمغرب وهو الخط الأحمر لدى المغرب دولة وشعبا.
وختاما فطيلة مرحلة الاستقلال لم تكن علاقة المغرب مع مستعمريه السابقين أسيرة الجرح التاريخي كما هو حال الجارة الجزائر، وهو أمر يعود من ضمن عوامل عديدة لمدة الاستعمار وشكله، فظلت علاقة المغرب جيدة مع اثنتين من القوى الاستعمارية السابقة، وهما أهم شريكين اقتصاديين وثقافيين للمغرب لحد الآن، إسبانيا التي تظل شريكا اقتصاديا مهما، وفرنسا التي تظل لها رمزية أكثر لأنها محسوبة ضمن خانة "القوى العظمى" وعضو في مجلس الأمن، وبحكم القرب من العائلة المالكة تاريخيا وعلاقة النخب المغربية الفرنسية، وإن كانت هذه الأخيرة قد عرفت تأثرا في السنوات الأخيرة بفعل الأزمة بين البلدين وبفعل حرب الإبادة بغزة التي جعلت نخبا كثيرة تعيد النظر في خطاب الغرب عموما وازدواجية معاييره.