"كيفما كان الحال فابن بركة قد دخل التاريخ، ليس هناك تاريخ سيء أو تاريخ جيد، وإنما هناك التاريخ كما هو: ذاكرة شعب بأكمله. إلا أنه يجب ألا ننسى أن أعداء المغرب قد قاموا باستغلال القضية للإساءة لصورة بلادنا". هكذا تحدث الملك محمد السادس قبل تسع سنوات، عن المهدي بن بركة، أشهر معارضي والده الملك الراحل الحسن الثاني، ضمن رسالة تاريخية وجهها آنذاك إلى المشاركين في لقاء حول "مكانة الشهيد المهدي بن بركة في التاريخ المعاصر"، تلاها وقتئد الفقيد عبد الرحمان اليوسفي.
وإذا كان الملك محمد السادس قد دعا إلى توظيف قضية الزعيم اليساري المهدي بن بركة من أجل دعم التطور الديمقراطي والحداثي بالمغرب، فإن عائلته ورفاقه ما فتئوا يرفعون مطلب الكشف عن الحقيقة الكاملة وراء اختفاء أستاذ مادة الرياضيات الذي علّم الملك الحسن الثاني، عندما كان وليا للعهد، الحسابات الرياضية، قبل أن تفرق بينهم حسابات السياسة، ليتحول بعد ذلك إلى أشرس معارضيه. يقول الحسن الثاني ذات خطاب: "بودي أن يعود أستاذي في الرياضيات، لدي معادلة لصالح المغرب أريد حلها معه".
59 سنة مرت حتى الآن، على اغتيال الثائر الأممي المهدي بن بركة، دون أن يعرف أحد مصير جثته، أو يُهتدى إلى تفاصيل هذه العملية الغامضة التي باتت لغزا معقدا لم تفك خيوطه إلى حدود اليوم. وكغيرها من التراجيديات، نسجت حول هذه القضية العديد من الروايات وكتبت عنها مجموعة من السيناريوهات، لكن تبقى الحقيقة واحدة شاخصة: بن بركة كان ضحية مخطط اغتيال محكم نجح في باريس تزامنا مع تحضيره بمعية فيديل كاسترو مؤتمرا يدعو إلى "ثورة عالمية". فمن يقف وراء هذه الجريمة؟ وكيف تمت؟
الروايات المتداولة بخصوص هذا الفصل الأسود من تاريخ "سنوات الجمر والرصاص" بالمغرب، تشير إلى أن عملية التخطيط لاختطاف بن بركة دام 7 أشهر، وكانت أول حلقة فيه اللقاء المعلوم بينه وبين المخرج السينمائي جورج افرنجو في مقهى "ليب" بشارع سان جرمان في قلب العاصمة الفرنسية باريس في يوم 29 أكتوبر من 1965. كان هذا اللقاء مجرد كمين نصب لأبرز معارض سياسي في تاريخ المغرب المعاصر وقتها، بعدما تم إيهامه بأنه يجري التحضير لإعداد فيلم حول الحركات التحررية، قبل أن يتلقفه شرطيان فرنسيان عند مغادرته تلك المقهى، ليُقتاد على متن سيارة إلى وجهة ظلت إلى حدود اليوم مجهولة.
المرحلة الثانية من مخطط الاغتيال، اختلفت بشأنها السيناريوهات، بين رواية تزعم أنه تم أخذ بن بركة صوب فيلا في ضواحي باريس، حيث كان في انتظاره الجنرالين محمد أوفقير وزير الداخلية آنذاك، وأحمد الدليمي مدير المخابرات المغربية، وبعد تعذيب أثناء التحقيق معه لقي حتفه وتم نقل جثمانه على متن طائرة عسكرية مغربية، ثم أذيب في حوض أسيد في "دار المقري" بالمغرب؛ وبين أخرى تدعي أن رأسه فصلت عن جسده ونقلت إلى الرباط، فيما صرّح آخرون بأن جثمانه دفن في معتقل سري يعرف بPF3 بالمغرب.
أيا كان من بين هذه الروايات هو الأقرب إلى الواقع، يظل ملف اختفاء بن بركة عصيا على الحل، بالرغم من التحقيق القضائي الذي فتح بشأنه في فرنسا دون أن يصل إلى أي نتيجة ملموسة، بينما ما تزال عائلته، خاصة نجله البشير بن يركة، تتعقب أي مؤشر يمكن أن ينير الطريق نحو الحقيقة المفقودة، علما أن أصابع الاتهام لا تشير إلى المغرب وفرنسا وحدهما، بل كذلك إسرائيل وأمريكا.