يوم بيوم نور الدين مفتاح يكتب: الحرب مع الجزائر نور الدين مفتاح نشر في 28 مارس 2024 الساعة 11 و 29 دقيقة يستبعد غالبية المحللين والمتابعين إمكانية قيام حرب حقيقية بين الجارين اللدودين، ولكن، ليس هناك شيء مستحيل. إلا أن الحرب التي تخوضها الجزائر اليوم سياسيا، وهي تمتد لأكثر من نصف قرن، هي بمثابة حرب عسكرية لما تسببه من عجز تنموي، وتأثير على المحيط الإقليمي، وضغط على ميزانيات عمومية كان الأولى أن تصرف في المجالات الاجتماعية فإذا بها تدفع من أجل الحفاظ على ميزان قوى أو توازن رعب منهك! نور الدين مفتاح [email protected]
كل العلاقات الإنسانية وبين الدول تعرف حالات مدّ وجزر، خلاف واحتقان ثم توافق وسلام، إلا العلاقات المغربية الجزائرية، فإنها تشذ عن هذه القاعدة، وهذا مبعث أسف عميق وتأثر أعمق لمآل هذا المغرب الكبير الذي انهار بسبب هذه المأساة.
آخر التطورات لم يكن يتصورها عاقل، فلقد قررت الجزائر افتتاح مكتب بالعاصمة لما يسمى بمطالبين بجمهورية الريف في المغرب! كانت الكارثة بحجم جعلها في النهاية بمثابة مزحة، ولم تأخذ من الفاعل الرسمي في المغرب أي وقت للجواب عليها. ولكن، كانت هذه علامة على ما يعتمل من غل في صدور الحاكمين في الجزائر على الرباط، والذي يجب دائما أخذه بعين الاعتبار.
وبعد هذا أصدرت الخارجية الجزائرية بلاغا تنديديا ضد المغرب لأنه حسب زعمها خرق اتفاقية فيينا حين عمل على استرجاع أراض كانت مكتراة للجزائر بالعاصمة الرباط، ولا يتعلق الأمر بسفارة ولا قنصلية ولا أي شيء محكوم باتفاقية فيينا.
لنلاحظ أنه منذ مدّة والخطاب الرسمي المغربي لا يتحدث إلا حديث اللين والجنوح لترطيب الأجواء، وكان هذا هو دأب كل الخطب الملكية في السنوات الأخيرة. وأما الجزائر، فإنها لم تعمل إلا على التصعيد: مناورات عسكرية على الحدود، الاستحواذ على أراضي مغاربة في الحدود مع إقليم فكيك، دفع البوليساريو لتمزيق اتفاقية وقف إطلاق النار مع المغرب، وتسخير الإعلام للدعاية لحرب قائمة في التلفزيون الجزائري على أساس أنها حرب في الصحراء، هذا دون الحديث عن قطع العلاقات الديبلوماسية، وإغلاق الأجواء، والاستمرار في ترويج خطاب عدائي ضد المغرب في وكالة الأنباء الرسمية ووسائل الإعلام العمومية وخرجات رئيس الجمهورية!
مؤسف حقا ما تقوم به الجزائر من ردود فعل صبيانية، فهي أصلا تحتضن جمهورية صحراوية معلنة من طرف واحد على أراض مغربية، وتسلحها، وتتبناها في الحالة المدنية، وتمولها من الألف إلى الياء، وتزودها بجوازات السفر الديبلوماسية، وحتى لو أراد الصحراويون الموجودون في المخيمات أن ينخرطوا في حل لا غالب ولا مغلوب، ويفاوضوا على الحكم الذاتي، فإن هذا مستحيل إذا لم تقبل الجزائر، وهو مستحيل اليوم لأن الجزائر مع هؤلاء الحكام الذين ينتمون إلى جيل اجترار الضغائن، لن تكون إلا متطابقة مع المثل المشؤوم الذي يلوكه حزب الأحقاد هناك: «الماء يولي حليب والمروكي ما يولي حبيب»!!
مع كل هذا، ظل المغرب يمسك العصا من الوسط، ويسايس مع قصر المرادية. فلماذا الإقدام على احتضان جمهورية مزعومة أخرى لا توجد إلا في مخيلة ثلاثة أو أربعة «شناقة» الذين تم ترويج صورتهم أمام مكتب كاريكاتوري لتحرير الريف؟ وهل هناك أصلا مطالبون بجمهورية ريفية؟ حتى معتقلي الحراك وعلى رأسهم الزفزافي أكدوا مرارا أنهم ليسوا انفصاليين وأدانوا أكثر من مرة البوليساريو، ورغم سجنهم فإنهم لم يغيروا رأيهم لأن حركتهم كانت اجتماعية وليست انفصالية.
وإذا اتبعنا منطق الجزائر اليوم، فإن عليها أن تعود لما سبق للباحث المغربي أحمد ويحمان أن حذر منه في حوار مع جريدة «الأيام» في 2016، وهو تقسيم المغرب إلى أربع جمهوريات، وتضيف إلى جمهوريتي الصحراء والريف اللتين تحتضنهما اليوم، جمهورية آسامر التي قال ويحمان إنه مخطط أن تكون بالجنوب الشرقي على طول الحدود الشرقية من بوعرفة حتى محاميد الغزلان!
هذه إذن استفزازات سوريالية لا يرد عليها المغرب لعدم جديتها، ولكنها استفزازات حقيقية تنبئ بإمكانية إقدام الرئاسة والجيش على مغامرة غير محسوبة العواقب، ولا تعدم الأسباب لذلك.
إن الظروف الداخلية في الجزائر، وضرورة تأجيل الانتخابات الرئاسية، وضغط تغير موازين القوى السياسي والعسكري لصالح الرباط منذ اعتراف الولاياتالمتحدةالأمريكية بمغربية الصحراء، والتحول التاريخي في العلاقات المغربية الإسبانية، وبداية الانفراج في العلاقات المغربية الفرنسية، والاختراق المغربي في إفريقيا اقتصاديا وسياسيا، والتحول المعتبر في دول الساحل، والعزم الرسمي على فتح بوابة المملكة الأطلسية، وغير هذا كثير، يجعل الفاعل الجزائري في ضيق، ويدفع البارانويا في هيئة أركانهم إلى حدودها القصوى. وبالتالي، فإن صمت الرباط وتفضيلها الفعل على القول، قد يزيد صدر الجزائر ضيقا، ومن ثم فإن المغرب لا شك مستعد لكل الاحتمالات.
يستبعد غالبية المحللين والمتابعين إمكانية قيام حرب حقيقية بين الجارين اللدودين، ولكن، ليس هناك شيء مستحيل. إلا أن الحرب التي تخوضها الجزائر اليوم سياسيا، وهي تمتد لأكثر من نصف قرن، هي بمثابة حرب عسكرية لما تسببه من عجز تنموي، وتأثير على المحيط الإقليمي، وضغط على ميزانيات عمومية كان الأولى أن تصرف في المجالات الاجتماعية فإذا بها تدفع من أجل الحفاظ على ميزان قوى أو توازن رعب منهك!
هذه آفة دولية غير مسبوقة، وقد وقع بين ألمانياوفرنسا ما لم يقع في هذا الشمال الإفريقي وها هما من أقرب الحلفاء حيث يقودان اتحادا أوروبيا قويا، ونحن بسبب غير مفهوم عند الجار، ترانا نقود تشتتا مغاربيا يشيب له الولدان.
كنت أحسب لسنين أنني من الأقلية المتفائلة بعودة العلاقات المغربية الجزائرية إلى طبيعتها التي بصمها المولى عبد الرحمان عندما ضحى باستقرار المملكة الشريفة من أجل تلبية نداء الأمير عبد القادر بعد احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830، وأعقبها انتقام الاحتلال الفرنسي من المغرب في معركة إيسلي سنة 1844، وهي ذات العلاقات التي بصمتها المملكة باحتضان المقاومة الجزائرية الباسلة إلى أن تم تحرير الجزائر سنة 1962. ولكن، شاء الاستعمار أن يُبقي مسمار جحا كلغم في الشمال الإفريقي الذي لم يشهد استقرارا منذ استقلال بلدانه. إلا أنني اليوم وإن لم أكن قد وصلت إلى مرحلة التشاؤم الأسود، فيمكن أن أقول إنني متشائل على الأقل.
إن الحل الوحيد لعودة العلاقات المغاربية إلى طبيعتها عموما، والمغربية الجزائرية على وجه الخصوص، هو أن يتغير هذا الجيل الحاكم في قصر المرادية، وأن يتحمل جيل شاب لم يعش مواجهات الستينيات المسؤولية في كل دواليب السلطة. وقد كان معولا على الحراك الجزائري أن يفرز هذا الجيل وتنتهي العسكرتارية، ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي لا السفن ولا ربابنتها في مغرب كبير ما تزال أشرعته تقوده إلى متاهات بلا أفق في عالم لا يصمد فيه إلا المتكتلون والمتحدون. والسؤال المنتصب اليوم وسط هذه الأمواج المتلاطمة في جنوب المتوسط هو إلى متى سيستمر هذا الجنون؟ وإلى أي مدى سيبلغ هذا الاصطدام؟ ومتى يمكن أن نقول إن المياه قد تعود لمجاريها؟
لا أحد عنده الجواب إلا الله سبحانه وتعالى، وإليه نتضرع بأن يهدي جيراننا إلى سواء السبيل.