يوم بيوم ثرثرة فوق الصحون المقعَّرة نور الدين مفتاح نشر في 28 أكتوبر 2021 الساعة 11 و 19 دقيقة لقد كان كل تقدم للمغرب يعتبر هزيمة للجزائر، حتى في أشياء لا علاقة لها بالحدود الشرقية ولا بالساحل ولا بحبة رمل صحراوية. مصانع السيارات في المغرب مشكلة للجزائر، الطريقة التيجانية، مسجد الحسن الثاني، الطاقة الشمسية، الكسكس، الميناء المتوسطي واللائحة إذ نعدها لا نحصيها. نور الدين مفتاح [email protected] لماذا عادت الجزائر قبل بضعة أشهر إلى شراسة ضد المغرب غير مسبوقة في التاريخ الذي يعرفه الجيل الجديد؟ الجواب بسرعة هو أن هذا الجار عاش سنين وهو مكبل اليدين برئيس مريض وحاشية متصارعة، تبين فيما بعد أنها كانت تشكل «عصابة» حسب تعبير رئيس الأركان الراحل قايد صالح، وبالتالي كانت ديبلوماسيتها شبه مشلولة، حتى وإن حافظت على المواجهة مع المغرب كأولوية. وكل هذا الشلل المؤسساتي أدى إلى ما عرفناه من حراك تحدى اليد الحديدية للمؤسسة العسكرية في البناء المؤسساتي لبلاد الأمير عبد القادر. كانت الرباط تتابع باهتمام ما يجري هناك ولكن بحذر شديد، لأنها تعرف حساسية هذا الوضع السياسي الذي يمكن بسهولة أن ينزلق من أزمة داخلية هناك إلى تصدير نحو «عدو» خارجي. ولم تسجَّل على المملكة أبداً أي مواقف رسمية من الاحتجاجات الشعبية، إلا أن اللبيب سيفهم أن بلادنا كانت ميّالة إلى أن ينجح هذا الحراك في دمقرطة الجزائر، لأن هذه الإرادة الشعبية إذا حكمت بالفعل فإنها أوتوماتيكيا ستطوي هذا الجفاء المقيم المعرقل لاتحاد مغاربي منشود. وفي نهاية المطاف، الجزائر بلد ذو سيادة ولم يسبق للأماني أن كانت تدخلا في الشؤون الداخلية للدول. سقط بوتفليقة قبل أن ينتقل إلى عفو الله، وانتقل كذلك الجينرال قايد صالح لجوار الرفيق الأعلى واعتقلت «العصابة» ورأسها سعيد بوتفليقة مع حزمة من كبار الجينرالات، وجاء إلى الحكم الثنائي عبد المجيد تبون والجينرال السعيد شنقريحة. إنهما باختصار ينتميان لنفس الجيل الذي يجتر بارانويا الاستهداف الخارجي الغربي (أي غرب بلادهم والغرب عموما) إلا أن الاختلاف عن بوتفليقة قبل مرضه كان في أمرين، الأول أن الرئيس الراحل كان خصما من مستوى عال وأدار ملف العلاقات مع المغرب منذ كان في الثلاثينات من عمره، والثاني أن بوتفليقة استطاع خلال حكمه أن يضع بعض المسافة – وإن لم تكن كلها – مع تحكم العسكر في ما كان يسميه الراحل محمد باهي ب«العسكرتارية». ولهذا لم تصل الأمور بالرجل إلى ما وصلت إليه اليوم مما يبعث على الذهول والخوف على هذا المغرب الكبير من التفجر. الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون منصهر كلية في منظومة الجيش ومعتنق للعسكرتارية، والجينرال شنقريحة خلال مساره يعتبر من خصوم المغرب بالعقيدة، وهؤلاء وجدوا بعد عشرية مرض الرئيس أن الرباط على المستوى الديبلوماسي وحتى التنموي هربت كثيرا في مضمار السباق، وابتدعت أساليب جديدة في الدفاع عن وحدتها الترابية، وعززت مركز ثقلها في القارة الإفريقية وسجلت نقاطا وازنة على المستوى الأممي، وتقدمت ميدانيا في رمال الصحراء المغربية بل ووصلت إلى حدود استصدار اعتراف أمريكي وازن بمغربية الصحراء. فهل يمكن أن يجد كل هذا الترحيبَ في قصر المرادية؟ ما وجده هذا التحول المغربي الحثيث على المستوى الدولي والداخلي هو استراتيجية جزائريّة جديدة تعتمد على تحطيم مضمار السباق أصلا بدل الاستمرار في الجري فيه خلف المغرب. وتم انتقاء أحد الصقور من خصوم المغرب عقيدة أيضا هو السيد رمطان العمامرة لتعيينه وزيرا للخارجية، وبدأت خرجات السيد رئيس الجمهورية تتوالى قبل حتى أساطير المؤامرات المغربية الأخيرة، وأقيمت المناورات في الحدود مع بلادنا بالذخيرة الحية، وتم تذكر قرية بعيدة تدعى العرجات بنواحي فگيك للاستيلاء على أراضي أهلها بدعوى أنها جزائرية، وكل هذا تمهيدا لقلب الطاولة حتى يتم تعويم التقدم في الاقتراب من الحل السلمي لقضية الصحراء وربما تذويب هذا الخلاف المغربي الجزائري والتفرغ للحرب من أجل التنمية في شمال إفريقيا. لقد كان كل تقدم للمغرب يعتبر هزيمة للجزائر، حتى في أشياء لا علاقة لها بالحدود الشرقية ولا بالساحل ولا بحبة رمل صحراوية. مصانع السيارات في المغرب مشكلة للجزائر، الطريقة التيجانية، مسجد الحسن الثاني، الطاقة الشمسية، الكسكس، الميناء المتوسطي واللائحة إذ نعدها لا نحصيها. وفي مثل هذه العلاقات يصعب على أكبر جهابذة الديبلوماسية في العالم أن يلجوها لأن خيوطها معقدة في البعد البسيكوسياسي أكثر منه في جانب علاقات بين بلدين تحركهما مصالح شعبيهما وروابط الجوار والتاريخ والدين والثقافة. لقد كان الخطاب الملكي في ذكرى عيد العرش في يوليوز الماضي، والذي خرج يقطر خطبا لود الجزائر، بمثابة صب للزيت على النار الملتهبة في نفوس القادة هناك. أنا شخصيا لم أفهم هذا في حينه لأنني مع وقع المفاجأة السارة في اليد الممدودة للملك – مع أن لا شيء كان يؤشر على ذلك – اعتقدت من سذاجتي أن هناك معطيات تخفى على من لا يعرف السرائر توحي بأن ترتيبات قد تكون جارية لفتح صفحة جديدة مع الجار المتربص، ولكن هيهات! فهمت أن الخطاب كان زلزالا بالنسبة لمخطط جار هناك لإعادة بعثرة الأوراق من جديد. ولهذا، انتقلت شراسة الجار إلى درجة أكبر كجواب على أكبر خطاب ودي في تاريخ المملكة اتجاه الجزائر. لقد ظلت الجزائر تركب على بعض الاتهامات من مثل تهريب الحشيش إلى داخلها من الحدود الشرقية ولكن لم يصل الأمر أبدا إلى اتهام الرباط مباشرة بالتآمر ضد الجزائر والوقوف وراء تنظيم انفصالي يعتبرونه إرهابيا هو «الماك» وإشعال حرائق في الغابات، بل صدر أخطر اتهام بعد قطع العلاقات الديبلوماسية وهو ضبط مجموعة مسلحة لها ارتباط مع إسرائيل ومدعومة من طرف دولة ب«شمال إفريقيا» والفاهم يفهم! لقد كان هذا الخبر مرعبا ويدل على أنه كلما زاد حنق القيادة هناك كلما اقترب شبح الحرب. نعم! يبدو لي وأنا من كبار المتفائلين الداعين إلى التقارب، أن هذه الحرب التي اعتقد الكثيرون أنها مستحيلة أصبحت سيناريو من السيناريوهات. لماذا؟ لأنه إضافة إلى ذلك السباق الذي تحدثنا عنه في المضمار الديبلوماسي، هناك موازين قوى جديدة بصدد التشكل في المنطقة، وهذا يرعب الجيش الجزائري، وقد يجعله يدخل مغامرة إن لم نقل مقامرة غير محسوبة العواقب. إن إعادة العلاقات المغربية الإسرائيلية التي قطعت سنة 2000 عقب الانتفاضة الثانية بمبادرة من الملك محمد السادس شأن سيادي داخلي قد تكون تقديرات القوى الوطنية حوله مختلفة، إلا أنه لا يقبل أن تحمله أي جهة خارجية ما لا يحتمل، ولا أن تعطى بصدده الدروس، وإذا اعتقدوا في قصر المرادية أن في الأمر استهدافا لهم فالأمر مفهوم لأن كل شيء في المغرب – كما أسلفت – هو استهداف للجزائر، ولن يثبت العكس بما في ذلك القفطان والطاجين! إذا فهمنا المعادلة الآن، تبقى كل تصريحات المسؤولين الجزائريين بمن فيهم فخامة رئيس الجمهورية بخصوص المغرب ثرثرة فوق الصحون المقعرة، ولابد من تحية المغرب الرسمي على الترفع عنها مع الاحتياط الذي أعتقده قائما من أي قرار طائش قد يصدر من هناك في أي لحظة، فالحرب اليوم سيناريو من السيناريوهات وإذا بادروا بها فإن التاريخ سيخلدهم في سجلات الإجرام في حق الشعوب.