بعد الأحداث الأخيرة المسجلة في الجزائر في ظل تمسك الحراك الشعبي بالإستمرار في الترافع السلمي لما يقارب السنة من أجل تحقيق مطالبه المشروعة، وانتخاب رئيس جديد للبلاد ولو بمشاركة جد متدنية في الإقتراع الرئاسي؛ وهو رئيس يعد من بين ركائز النظام "البوتفليقي" وأحد أعمدة ما يسمى عند الحراك ب"العصابة"، وأخيراً الموت المفاجئة لرئيس أركان الجيش التي أُعْلِنَ عنها رسمياً من طرف عبد المجيد تبون على أساس أن الفريق أحمد قايد صالح توفي ب"سكتة قلبية"؟!… بعد كل هذه التطورات المتسارعة، لا يسعنا أن نبقى دون المساهمة في الإدلاء بدلونا في ما تقبل عليه الجارة الشرقية للمغرب. منذ بداية الإحتجاجات الشعبية العفوية في الجزائر يوم 22 فبراير من هذه السنة التي نودعها في غضون بضعة أيام، كتبنا عدة مقالات تحليلية وصفنا فيها أحمد قايد صالح ب"رجل الواجهة"، وقلنا إن اللواء سعيد شنقريحة، الذي ولد عام 1945 في مدينة القنطرة (ولاية بسكرة)، مع قياديين آخرين هم الذين يتحكمون في دواليب وأجهزة الحكم في جزائر النفط والغاز والإنفاق السخي على التسلح. وقد بدا هذا الأمر جليا بشكل أوضح بالتعيين السريع لشنقريحة، قائد القوات البرية، مكان قايد صالح الذي لا تُعْرَفُ، خارج الرواية الرسمية لقصر "المرادية"، الأسباب الحقيقية لوفاته؟ حين تحدثنا عن "السيناريو المصري"، (أنظر مقالاتنا السابقة المنشورة في موقع "الدار")، وشبهنا الوضع الحالي في الجزائر بما كانت عليه مصر سنة 1952، حين اختار "الضباط الأحرار" اللواء محمد نجيب ليكون رئيسا صورياً لأول جمهورية لمصر العربية بعد الإنقلاب على الملك فاروق الأول، فإن الواقع على الأرض يُصَدِّقُ على ما ذهبنا إليه، وها هو شنقريحة، الحاكم الحقيقي، يخرج إلى العلن ليؤسس لمقاربة جديدة داخليا وعلى مستوى العلاقات مع الجيران؛ هو المعروف بنعته للمغرب ب"البلد العدو". ردود الفعل على انتخاب تبون أحبطت قايد صالح يرى المتتبعون أن خلافاً قد يكون نشأ بين القائد الصوري لأركان الجيش، أحمد قايد صالح (80 سنة)، والقادة الفعليين مباشرة بعد انتخاب عبد المجيد تبون رئيساً لم يحظ بالحد الأدنى من الترحاب لا داخلياً، ولا جهوياً، ولا دولياً وخاصة لدى الشركاء الكبار. ونحيل، في هذا الصدد، على "رسائل التهنئة الباردة" الموجهة إلى تبون بمناسبة انتخابه كي نفهم جيداً أن رهان قايد صالح لم يكن في محله، وأن ما حاول أن يُقْنِعَ به مساعديه لم يكن في مستوى تطلعاتهم. وغير خاف على العديد من المتابعين والخبراء أن قايد صالح راهن، بشكل مطلق، على تبون كحل لطي صفحة الإحتجاجات الشعبية غير المسبوقة، وإقناع الشركاء الكبار ب"رجل دولة" قد يقع عليه الإجماع…!؟ ردود الفعل الداخلية والخارجية، الجافة لغوياً والباردة مضموناً، على خلفية انتخاب عَدُوِّ عَدُوِّ قايد صالح (المقصود هنا السعيد بوتفليقة الأخ الشقيق للرئيس المخلوع)، رئيساً للجمهورية ولو ب"شرعية" ناقصة، كانت محبطة بشكل كبير لمعنويات قايد صالح باعتباره "الوصي الأول" على "النظام القائم" في مواجهة سلمية الإحتجاج الشعبي، ونزلت كالصاعقة على تبون الذي راكم خيبات كبيرة في مساره الوظيفي؛ هو الذي أُعْفِيَ من منصبه كوزير أول بطريقة مهينة ومذلة في 15 غشت 2017 من طرف السعيد بوتفليقة بعد أن قضى في منصبه 84 يوماً فقط، وهو ما يعتبر أسرع إقالة طالت رؤساء الحكومات في الجزائر منذ إستقلال البلد عام 1962. ردود الفعل هاته إزاء عدم تحقيق ما كان يُخَطِّطُ له قايد صالح، ربما جعلت الموت تُعَجِّلُ برحيله في ظروف لا تزال غامضة غموض المطبخ العسكري/السياسي الجزائري، فلا المحتجون السلميون في مختلف مدن البلاد رجعوا إلى منازلهم، ولا الشركاء الكبار وخاصة فرنسا، رحبوا بالوافد الجديد على قصر "المرادية". "تهنئة" ماكرون لتبون.. وتطلعات "القيادة الشابة" للجيش علينا أن نقول إن قايد صالح فشل فشلاً ذريعاً، ومراهنته على رجل خفيف الوزن سياسياً ومنبوذ شعبياً مثل عبد المجيد تبون، كانت خياراً دون مستوى تطلعات "القيادة الشابة" للجيش الجزائري بقيادة سعيد شنقريحة، مما يجعل استمرار تبون على رأس هرم السلطة شبيهاً بمدة ال 84 يوماً التي قضاها في رئاسة الحكومة. وقد يكون الخروج، هذه المرة، أكثر إذلالاً وأشد تنكيلاً… وقد بدأت مؤشرات هذا الخروج تلوح في الأفق بعد إطلاق ملايين الجزائريين، في مظاهراتهم الحاشدة وعبر مواقع التواصل الإجتماعي، حملة واسعة بعنوان قوي وعريض: "تبون ليس رئيسي"، هذا زيادة على سخرية الشعب منه يومياً من خلال وصفه ب"رئيس الكوكايين" في إشارة إلى إتهام خالد، نجل تبون، في قضية تهريب 700 كلغ من مخدر الكوكايين مازالت قيد التحقيق القضائي. هي فرضية أقرب إلى التحقق لأن سَنَدَهُ الوحيد والأوحد أصبح في ذمة الله، فهذا الرئيس ليس مقنعاً لا داخلياً ولا خارجياً، ونحيل هنا على "التهنئة الهاتفية" التي ارتجلها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهي التهنئة التي حاولت وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية (APS) أن تتصرف فيها بما يفيد "ترحيباً فرنسياً على أعلى مستوى". ولأن الإليزيه لم يقبل هذا التحوير الأرعن والتصرف غير المهني في كلام الرئيس، تم الحرص على فضح وكالة (APS) من خلال نشر محتوى المكالمة الهاتفية التي أجراها ماكرون مع تبون، حرفياً في وسائل الإعلام الفرنسية، وهو ما يعد سابقة في تاريخ العلاقات بين فرنساوالجزائر. وعندما يوجه ماكرون التهنئة عبر الهاتف، وقبل ذلك قال من بروكسيل إنه "يسجل انتخاب رئيس جديد للجزائر"، عوض توجيه رسالة تهنئة رسمية وفق التقاليد السياسية والأعراف الدبلوماسية المعمول بها في مثل هذه المناسبات بين ملوك ورؤساء الدول، فهذا دليل واضح على أن تبون ليس مقنعاً للفرنسيين. محاسبة الميت.. تهميش الرئيس.. وتلميع شنقريحة القادم من الأيام قد يحمل لحظات عصيبة جداً لعبد المجيد تبون، وذلك بسبب صعوبة التعايش في حدوده الدنيا مع القيادة المعلنة للجيش بزعامة شنقريحة. وقد يكون المخرج الإسراع بتنظيم إنتخابات برلمانية تليها إنتخابات رئاسية، أو تقديم تبون لاستقالته ليفسح المجال أمام شخصية أخرى قد تحظى، هذه المرة، بقبول الشارع القوي وبقبول الشركاء الدوليين وخاصة فرنسا… أو قد يقع ما كان منتظراً؛ أي سيطرة الجيش مباشرة على مقاليد الحكم بتقدم شنقريحة للإنتخابات الرئاسية المقبلة، ويكون بذلك عبد الفتاح السيسي في "نسخته الجزائرية". وقد بدأت الآلة الإعلامية الجزائرية التي يتحكم فيها الجيش من الألف إلى الياء، تروج لأطروحة جديدة مفادها أن الجزائر مقبلة على عهد جديد بقيادة قوية. وهو ما يُفْهَمُ منه، بطبيعة الحال، أن المعني بالأمر ليس عبد المجيد تبون، بل "القيادة الشابة" للجيش. وهذا النوع من التطبيل والتلميع الذي عهدناه قبل وبعد وصول المشير عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم في مصر، لا شك سيستمر في جارتنا الشرقية عبر الإمعان في تهميش من يُعْتَبَرُ الرئيس الشرعي للجمهورية، وعبر الإجتهاد المفرط في تلميع وتسويق صورة شنقريحة الذي يوصف ب"مهندس جميع إجراءات تحديث الجيش الجزائري"، لكي يصبح المنقذ الذي سيخلع الزي العسكري ليرتدي اللباس المدني. هذه الآلة الإعلامية بدأت فعلاً، وعلى نطاق واسع، في نشر فيديوهات وكتابة مقالات رأي وضخ منصات التواصل الإجتماعي بمضامين تلميعية مفادها أن سعيد شنقريحة "رجل مثقف" و"قائد عسكري محترف"، وأنه كان دائماً بعيداً عن "حرب المواقف والتموقعات" التي اندلعت في عهد سلفه؛ حرب لا ترحم نابعة من مناورات رئيس الأركان السابق الذي جعل من وظيفته وسيلة لإنقاذ "النظام القائم" عبر تصفية حساباته مع السعيد بوتفليقة وعصابته، وبالتالي الإنتقام من كل الخصوم العسكريين والمدنيين، في الخدمة أو المتقاعدين، ومعظمهم الآن وراء القضبان. في هذا السياق، تُمْعِنُ الآلة الإعلامية المتحكم فيها من طرف المطبخ العسكري/السياسي في التركيز على أن إدارة الفريق قايد صالح لمرحلة ما بعد الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، كانت "إدارة فوضوية وكارثية بكل المقاييس" بسبب محدودية مستوى تعليمه… فالرجل الذي أمضى أزيد من ستة عقود في الثكنات، حرص على الظهور الإعلامي بشكل منتظم تقريباً كل أسبوع، وذلك منذ إنطلاق الحراك. وخلال كل هذه المدة (عشرة أشهر)، ضاعف قايد صالح "التحذيرات" إلى المتظاهرين و"الإقتراحات" إلى القضاء، وسارع إلى ترجمتها إلى أفعال، وأدخل كبار أعضاء "العصابة" إلى السجن بتهم ثقيلة: "التآمر على مصالح الدولة والجيش" و"الخيانة الوطنية" و"الفساد وسرقة المال العام". الرجل الآن في ذمة الله، لكن السياسة في الجزائر لها قاموسها الخاص والفريد، ولذلك لم يكن مستغرباً أن تُوجه مدفعية الآلة الإعلامية الرسمية لمحو كل أثر لقايد صالح الذي "نَصَّبَ" تبون رئيساً، وكان لفترة طويلة يُظْهِرُ الولاء المطلق للرئيس السابق بوتفليقة الذي استخدمه كدرع للحماية من أي رغبة في منعه من رئاسة الجزائر مدى الحياة. هل يدخل شنقريحة في حوار مباشر مع الحراك الشعبي لحسم الوضع؟ شرعت الآلة الإعلامية الرسمية، ومن يدور في فلكها من منابر مكتوبة ومنصات رقمية وقنوات تلفزية خاصة، في العمل الدؤوب بهدف تقديم سعيد شنقريحة ك"رجل إجماع" في الداخل والخارج من أجل تنفيذ مهمة إخراج البلاد من دوامة الحرائق المشتعلة بسبب محاولة فرض "العهدة الخامسة" التي كانت عود ثقاب أشعل نار الحراك الشعبي الذي يطالب بتغيير حقيقي للأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية. إن الرهان حاليا، حسب التوقيت السياسي والأمني المحلي الجزائري، لا يكمن فقط في بذل الجهود لإقناع ملايين المحتجين بشخصية تتوفر فيها شروط ضمان المرور بالبلاد في اتجاه بر الأمان، بل يكمن أيضا في العمل المضني لإقناع العواصم الدولية ذات التأثير النافذ بهذا الحل الذي طُبِخَ على نار هادئة.. وقايد صالح كان حيّاً يرزق. في الخلاصة لما سبق، نتوقع أن يتم تهميش عبد المجيد تبون بشكل منهجي وبلا هوادة، في مقابل تلميع كاسح لصورة شنقريحة. وفي التوقيت نفسه، نتوقع أيضاً فتح حوار مباشر بين شنقريحة والشارع الملتهب بمحاور واضحة المعالم قد ينحصر عنوانها العريض بين "السيناريو المصري" و"السيناريو السوداني"، وهو ما سيعتبر انتصاراً لقوة الشارع وحفظاً لماء وجه المؤسسة العسكرية، بل وتمكينها من دواليب السلطة بشكل أكثر شرعية على أساس فترة إنتقالية يكون للأحزاب فيها أكثر من دور صوري، وذلك لتحقيق هدف الإنتقال نحو جمهورية جزائرية جديدة يتحكم الجيش في إدارتها بوسائل "أكثر ديموقراطية" تشمل مراعاة حقوق الإنسان وصون كرامة المواطن. *صحافي وباحث في العلاقات الدولية