تأخر عملية الاتفاق على «الرئيس القادم» يؤكد مدى الانقسام بين قيادة أركان الجيش وقيادة المخابرات، ومدى استجابة البروفيل للعبة المصالح الداخلية والخارجية. وهذا يعني أن التوافق بين المقررين الفعليين لم يحصل بعد. كما يعني أن الرئيس الجديد لن يحمل أي جديد للعلاقة مع دول الجوار، وخاصة مع المغرب، ما دامت النخبة العسكرية ترى أن هذا الصراع جيوسياسي واستراتيجي ويتجاوز قضية الصحراء نفسها. «بوتفليقة مات».. «بوتفليقة لم يمت»؛ هل يختلف الأمر الآن أمام اتساع مساحة عجز الرئيس الجزائري؟ ومن يدبر شؤون البلاد إذا كان المراقبون يجمعون على أن الجالس على الكرسي المتحرك لا يفيق من غيبوبته إلا بالدوباج، وأن لحظة قصيرة فقط هي ما يفصله عن الالتحاق بالرفيق الأعلى؟ فمنذ وقت غير قصير بات السؤال الذي يطرق أبواب «المرادية» هو: من سيحوز ثقة الدولة «الأمنية» ( دولة العسكر) لخلافة بوتفليقة؟ مما جعل أركان النظام الحاكم في الجزائر يدخل في مشاورات أقرب إلى المفاوضات، لا سيما بين جناح الرئاسة والاستخبارات، من أجل التوصل إلى صفقة تنتهي بالتوافق على شخصية تخلف «الرئيس المريض» في قصر المرادية، بعدما باتت مسألة التغاضي عن الفراغ المؤسساتي في هرم السلطة غير قابل للاستمرار أو التبرير. ويعيش الشارع الجزائري حالة من القلق والترقب، خاصة بعد غياب بوتفليقة عن صلاة عيد الأضحى للمرة الثانية، وظهور معالم الفراغ في مؤسسة الرئاسة، أمام الفوضى البروتوكولية التي سادت الجامع الكبير بعد أداء الصلاة، حيث وجد السفراء والرسميون أنفسهم أمام ارتباك واضح في أداء تحية العيد، التي كانت تؤدى لرئيس الجمهورية، في حين وجدوا أمامهم وزيرا أول دون رتبة دستورية، يسبق الرجل الثاني في الدولة (رئيس الغرفة الثانية للبرلمان)، والرجل الثالث (رئيس المجلس الدستوري)، يؤدي التحية لمن أقل منه. وكان الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، قد دق إسفينا في نعش الولاية الرئاسية الرابعة لبوتفليقة، لما كشف مؤخرا لوسائل إعلام محلية، بأن «بوتفليقة لا يقدر على الكلام»، لما سئل عن تنسيقه مع الوزير الأول، عبدالمالك سلال، حول تطورات وضعية الرعية الفرنسية التي اغتيلت في نهاية الشهر المنقضي، من طرف تنظيم «جند الخلافة» الموالي لداعش. وهو ما يعني أن الرئيس دخل مرحلة صحية حرجة تتكتم عليها الحكومة إلى حد الآن، وتأكدت بعجزه عن أداء صلاة العيد ولو على كرسيه المتحرك. وفي المقابل، تلتزم السلطات الجزائرية الصمت والتعتيم إزاء وضع الرئيس الصحي، وإزاء الفراغ في الرئاسة الذي بات في حكم الأمر المحسوم. أما ما يُسرّب هنا وهناك، فهو مجرد بالونات اختبار للرأي العام وللطبقة السياسية ودراسة ردود الفعل والمواقف لتكييفها مع السيناريوهات المطروحة أمام أركان النظام. وتتداول الدوائر الضيقة عددا من الأسماء المرشحة لخلافة بوتفليقة، على غرار مدير ديوانه الحالي، أحمد أويحى، والوزير الأول عبدالمالك سلال، ومدير الأمن، اللواء عبدالغني هامل، ووزير الداخلية، الطيب بلعيز. ولا يستبعد آخرون أن يؤول كرسي الرئاسة لعبد العزيز بلخادم الذي تم تقديمه كواحد من «مساخيط بوتفليقة» المغضوب عليهم من قبل جنرالات الجيش وضباط الاستخبارات، إذ لا يمكن أن ننسى أنه كان مستشارا خاصا للرئيس، وأنه استطاع أن يقيم علاقات جيدة مع الاسلاميين وهم مجموعة مؤثرة. إلا أن بعض الأطراف في النخبة العلمانية والجيش تعتقد أن قربه من الاسلاميين يجعله محل شك. ورغم ذلك، فهذا يلعب في صالحه كمرشح توافقي لانه يقف في منطقة وسطى بين المعسكرين الاسلامي والعلماني. وتطرح بعض الأوساط اسم عمار غول، وهو إسلامي معتدل كان وزيرا للأشغال العامة. وهو مقرب من معسكر بوتفليقة. غير أن اختيار اسلامي رئيسا أمرا لا يمكن تحمله او استيعابه، من طرف الكثيرين في النخبة، سواء السياسية أو العسكرية. ويذهب مراقبون إلى أن الرهان على شخص من خارج دائرة الحكم يبقى أمرا واردا، خاصة أن الأزمات التي تمر بها السلطة الجزائرية قد تدفعها إلى اختيار مرشح من خارج التيار الرئيسي لتظهر استعدادها لتبني الاصلإح. وقد يكون هذا الشخص، كما تذهب إلى ذلك بعض التحليلات، هو أحمد بن بيتور وهو من التكنوقراط واستقال عام 2000 من رئاسة الوزراء بعد صدام مع بوتفليقة. إلا أن معادلة التوافق لا تتحقق في العديد من الأسماء، وقد يتمكن جناح الرئاسة بمناوراته من فرض توريث «ذكي»، يتجاوز مستشاره وشقيقه الأصغر سعيد بوتفليقة، إلى واحد من المجموعة المنحدرة من محافظة تلمسان ليكون نزيل قصر المرادية الجديد. بالمقابل يراهن خصوم جناح الرئاسة، على شخصية تنحدر من حضن النظام وقريبة من المعارضة، ويتعلق الأمر برئيس الحكومة السابق، مولود حمروش، الذي يملك مقاربة تجمع بين السلطة والمعارضة والمؤسسة العسكرية. ولعل ما يعزز هذا الطرح هو تواري حمروش عن الأنظار في المدة الأخيرة، وتغيبه عن الاجتماعين الأخيرين لقطبي المعارضة (التنسيقية والتغيير)، وقد يكون أحد الخيارات المطروحة في مشاورات هرم السلطة. ومع ذلك، فإن تأخر عملية الاتفاق على «الرئيس القادم» يؤكد مدى الانقسام بين قيادة أركان الجيش وقيادة المخابرات، ومدى استجابة البروفيل للعبة المصالح الداخلية والخارجية. وهذا يعني أن التوافق بين المقررين الفعليين لم يحصل بعد. كما يعني أن الرئيس الجديد لن يحمل أي جديد للعلاقة مع دول الجوار، وخاصة مع المغرب، ما دامت النخبة العسكرية ترى أن هذا الصراع جيوسياسي واستراتيجي ويتجاوز قضية الصحراء نفسها. وهذا ما دفع المحلل اللبناني محمد قواص إلى القول: «يستنتجُ المراقب أن الجزائر، بنظام حكمها الراهن، غير راغبة، وربما غير قادرة، عن إنجاز أي تطوّر يطالُ ملف الحدود البرية مع المغرب، ذلك أن البلدَ عاجزٌ عن تجاوز عقدة العلاقات الشاملة التي تتجاوز تفصيل الجانب الحدودي مع المغرب. يستنتجُ المراقب أن الجزائر تجرُّ منذ الاستقلال (عام 1962) نفس النظام السياسي الذي قاده حزب جبهة التحرير الوطني، وإن تغيرت أسماء وأستحدثت الأحزاب، وتجرّ نفس العقلية في مقاربة الشأن المغربي منذ حرب الرمال (عام 1963) وحتى الآن. ويستنتجُ المراقب أن توازن النظام الجزائري يقوم على «ثابتة» التوتر مع المغرب لدواعي ومبررات ملتصقة بالتركيبة العضوية للنظام وأركانه. ويستنتجُ المراقب أن عجز النظام الجزائري عن تجديد الطبقة الحاكمة وتخلّفه عن تحقيق تناوب حقيقي على السلطة، يفسَر هذا العقم المقلق في اجتراح سياسات خلاقة جديدة تحاكي شروط الراهن، بالتالي الإخفاق في الخروج بخلاصات تتجاوز تلك التقليدية البليدة في مقاربة العلاقة مع الجار المغربي». وفي المحصلة النهائية، لا ينبغى أن نتوقع رئيسا جديدا للجزائر بإمكانه أن يغير زاوية النظر إلى المغرب، أو رئيسا بإمكانه أن ينتفض ضد إرادة الجيش الجزائري في إبقاء الوضع على ما هو عليه، أو رئيسا يسكنه هاجس فتح الحدود بين البلدين وتفعيل الوحدة المغاربية. لقد اختار زعماء قصر المرادية أن يؤسسوا وجودهم على مناصبة العداء للمغرب، وعلى معاكسة مصالحه، وعلى إشعال فتائل الصراع في صحرائه، وذلك لتبرير المنافع التي يجنونها من «ميزانية السلاح». وهذا يعني أن الرئيس القادم لن يخرج عن دائرة «قيادة أركان الحرب» ما لم تتمكن الأزمات المستفحلة من خروج ثوار الجزائر لقلب معادلة العسكر لصالح معادلة الديمقراطية والوحدة المشتركة.