في القدس القديمة، شبّت سالي عازر، وأمضت طفولتها في أروقة كنيسة المخلص، الملاصقة لكنيسة القيامة. تغيّرت حياة ابنة البلد بعد سيامتها كأول قسيسة لدى الكنيسة اللوثرية في الأردن والأراضي المقدسة، قبل أسابيع. باتت الشابة العشرينية تنسّق الجينز مع طوق الكهنوت في ياقة قميصها. تقول سالي عازر لبي بي سي نيوز عربي: "عندنا هنا في البلدة القديمة، الناس معتادون على رؤية رجال دين بزيّ الكهنوت. لكن حين يرون امرأة ترتديه، يعتقدون أنها من الخارج. لذلك حين يحدثونني بالإنكليزية، أحرص على الرد بالعربية، لكي أثبت أن هناك بنات عربيات قسيسات". * رسامة أول قسيسة في الأراضي المقدسة تتفهّم القسيسة سالي (26 عاماً) أنَّ رؤية امرأة بزيّ الكهنوت تثير استغراب كثر، خصوصاً أن من يرتدونه في بلادنا، هم رجال في الغالب الأعم، وعادة ما يكونون كباراً في السن، وشيوخ أجلاء، كما يقال. تدرك سالي أيضاً أن الكنائس الأخرى التي ما زالت لا تسمح بسيامة نساء، قد لا تتقبّل بسهولة تكريس الكنيسة اللوثرية لكاهنة. تقول إنه "ليس من الضروري أن نقدّم تبريرات لأي أحد. أعتقد أن الناس والكنائس الأخرى ستبدأ بتقبّل الأمر مع الوقت". Evangelical Lutheran Church in Jordan and the Holy توريث الكهنوت من العادات الشائعة عند بعض العائلات المسيحية في الشرق، إذ ينتقل "الثوب الأسود" من الأب إلى الابن ثم الحفيد أحياناً في دائرة سالي الصغرى، وسط رعيتها، لم تحظ الكاهنة الشابة إلا بالترحيب والاحتضان. خلال قداس سيامتها، اختلطت دموع والدها المطران سني عازر، بزغاريد وأهازيج النساء كبيرات السنّ اللواتي شاركنها فرحتها. سالي الابنة الثانية بين ثلاث بنات، إلى جانب جيهان وسما، لوالدها الذي ترأس قداس سيامتها، وزوجته نهلة الياس. جدها تشارلي عازر كان شماساً، وعمّات والدها كنّ بدورهنّ من أوائل النساء اللواتي رقين لمرتبة شماسات في الكنيسة اللوثرية في فلسطين. في زمن آخر، وظرف آخر، ربما لم يكن المطران سني عازر ليحظى بفرصة نقل الشعلة إلى واحدة من بناته، بما أن السيامة كانت حكراً على الذكور. ولكن، هل كانت سالي ستحظى بفرصة تحقيق رغبتها بأن تصير كاهنة، لو كانت من عائلة أخرى؟ ولو لم يكن والدها مطران الطائفة؟ * مسيحيات يسافرن تسعة أيام مشيا على الأقدام لرؤية البابا فرنسيس Evangelical Lutheran Church in Jordan and the Holy أن تتبنّى سالي دعوتها، لقناعتها الشخصية، بعيداً عن تأثير الوالد والعائلة والمحيط، لم يكن بالأمر السهل طرحت سالي السؤال على نفسها، وناقشته مع والدها، قبل أن تتخذ قرارها بقبول دعوة الكهنوت. تضيف: "كل عمرنا والكنيسة جزء من عائلتنا أو جزء من حياتي، لذلك كنت دائماً متشجعة لاكتشاف اللاهوت، وبدأ اهتمامي بالموضوع منذ سن مبكرة". كانت في الثامنة عشرة من عمرها حين غادرت القدس إلى بيروت، للدراسة في "كلية اللاهوت للشرق الأدنى"، واحدة من أعرق الكليات في مجالها. تقول: "كان كثر من أبناء الطائفة يقولون لي إنني سأصير أول قسيسة، كنت أقابل الموضوع بالضحك، وأفكر أنهم يغالون. لاحقاً، حين تقدمت في دراستي، صارت دعوتي أوضح، وأردت أن أتأكد إن كانت رغبتي بأن أصير قسيسة نابعة من قناعة ذاتية، أو تأتي استجابة لرغبة الآخرين". تقول: "لم يكن عندنا قسيسات في فلسطين، ولكن خلال فترة دراستي، بدأت كنائس إنجيلية أخرى في لبنانوسوريا تسوم كاهنات. خلال دراستي (في لبنان) شاركت في رتبة سيامة أول قسيسة في الشرق الأوسط، رولا سليمان، في مدينة طرابلس". Evangelical Lutheran Church in Jordan and the Holy سالي عازر ووالدها المطران سني عازر كانت رولا سليمان أول امرأة تسام قسيسة في المنطقة، في الكنيسة الإنجيلية الوطنية في مدينة طرابلس شمال لبنان، بقرار من السينودس الإنجيلي في سورياولبنان، في فبراير/ شباط عام 2017. يتولى هذا السينودس إدارة شؤون الكنائس التي تتبع التقاليد البروتستانتية الإنجيلية في البلدين، ويتخذ قرارات تعيين القساوسة والقسيسات. يضم المجمع تحت عباءته نحو 40 كنيسة، تأسست معظمها في مطلع القرن التاسع عشر، مع بدء وصول مرسلين ينتمون إلى كنائس بروتستانتية أوروبية وأمريكية، إلى المشرق. بخلاف معظم المذاهب المسيحية السائدة، والكاثوليكية منها على وجه الخصوص، تتيح معتقدات بعض الكنائس البروتستانتية، ومن بينها المذاهب الإنجيلية، منذ سنوات طويلة، سيامة نساء في رتبة الكهنوت، كما أنها لا تفرض على القساوسة مبدأ عدم الزواج. يشار إلى بدء سيامة نساء حول العالم منذ أكثر من 200 سنة، بحسب المراجع التاريخية، ويعتقد أن السيامة الأولى تعود إلى عام 1815 في الولاياتالمتحدة، لينتشر التقليد لاحقاً بالتدريج في أوروبا وأمريكا، ويصير مألوفاً في عدد من البلدان. Evangelical Lutheran Church in Jordan and the Holy قساوسة وقسيسات يحيطون بسالي عازر في لحظة سيامتها في صور سيامة سالي عازر في كنيسة المخلص أو الفادي المقدسية، يمكن أن نلحظ جمعاً من القسيسات اللواتي شاركن في الرتبة، وهن من جنسيات أجنبية، ويخدمن في القدس، أو جئن خصيصاً للمشاركة في الاحتفال. في الشرق، ضمت الكنائس الإنجيلية في صفوفها على مر العقود الماضية، واعظات وشماسات، وهن خادمات في الكنيسة برتب أقل من القسيسة، لكن لا يسمح لهن بإقامة مراسم مثل التعميد أو تقديم المناولة. ومنذ سنوات، كان قرار سيامة النساء مطروحاً في المنطقة، لكن العائق أمام تنفيذه كان اجتماعياً وعرفياً بالدرجة الأولى. سيامة رولا سليمان فتحت الباب، مع تضافر عدة عوامل، منها الاستعداد الذاتي لديها، والانفتاح لدى كنيستها على منحها مهام أعلى، بعد خدمتها لسنوات كواعظة. بعدها بشهر، في مارس/ آذار 2017، سيمت القسيسة الثانية نجلا قصاب، في الكنيسة الإنجيلية الوطنية في الرابية، في جبل لبنان. وفي عام 2018، سيمت القسيسة ريما نصر الله في الكنيسة الإنجيلية الوطنية في بيروت، وعام 2022 سيمت ماتيلدا صباغ قسيسة الكنيسة الإنجيلية الوطنية في الحسكة شمال سوريا، وصولاً إلى سالي عازر لدى الكنيسة الإنجيلية اللوثرية في الأردن والأراضي المقدسة مطلع العام الحالي. * "تزوجت المسيح" THOMAS COEX/AFP كنيسة المخلص (الفادي) اللوثرية في القدس تطل على قبة الصخرة. بنيت في أواخر القرن التاسع عشر، وبرجها هو البناء الأعلى في المدينة في السنوات القليلة الماضية، وبينما كانت سالي عازر تواصل دراستها، كانت كنيستها تخوض ورشة داخلية لتهيئة الأجواء لسيامة نساء، من خلال مبادرة "مكتب العدالة الجندرية"، الهادف لإزالة العوائق التقليدية المتجذرة من طريقهن. على المستوى الشخصي، تابعت سالي دراستها العليا فحازت على الماجستير في اللاهوت الدولي من جامعة غوتنغن في ألمانيا، وتدربت في الكنيسة الإنجيلية للقديس يوحنا في فروناو، لتعود بعد ثماني سنوات إلى القدس. خلال سنوات التدريب، "كنت دائماً أفكر كيف يمكن أن أطبق ما أتعلمه بشكل عملي في كنيستي"، تخبرنا سالي. وتضيف: "بعض الطقوس قديمة جداً، وربما تجد الناس صعوبة في فهمها، لذلك نعمل لوضعها في لغة أقرب إليهم. لا أعني تغيير الطقس، ولكن تغيير اللغة، لكي تصل الرسالة بشكل أوضح". أرادت سالي العودة إلى القدس رغم أي صعوبات قد تواجهها، وتعلل ذلك بالقول: "لأني أحب بلدي من كل قلبي، كبرت هنا، وأشعر أن هذا بيتي، ولا أشعر بالراحة في أي مكان آخر". بالنسبة لها، "عدد المسيحيين في البلد قليل، والكثير من الفلسطينيين ومنهم مسيحيون يغادرون، لذلك أفكر كيف يمكننا أن نتجذر في أرضنا أكثر، ونبقى متشجعين، وألا نفقد الأمل الذي يوجد فينا منذ سنين كفلسطينيين". Evangelical Lutheran Church in Jordan and the Holy والدة سالي عازر وشقيقتها خلال سيامتها خلال الأسابيع الأولى لسيامتها، شعرت سالي بأنها تبذل جهداً كبيراً، لكي تعتاد على العيش في مدينتها من جديد، وتبدأ بممارسة مهامها بشكل عملي في رعايا القدس وبيت ساحور، إذ أوكلت إليها قيادة الصلاة مع المصلين الناطقين بالإنكليزية في مرحلة أولى. الأصعب بالنسبة لها، هو إدراكها للحمل الثقيل الملقى على عاتقها. تقول: "أشعر أن أي خطوة أقوم بها، تمثّل كلّ النساء اليوم، واللواتي سيأتين من بعدي. ليس بالأمر السهل. أفكر خمسين مرة قبل اتخاذ أي قرار أو الذهاب لأي مكان، لأني قد أواجه بالنقد، لأن الأمر لا يزال جديداً بالنسبة لهم، أعني للمجتمع". تتابع: "في إيماننا، كلنا جسد واحد في المسيح، ولا تمييز في الإنجيل بين المرأة والرجل. ولا يوجد أي ذكر في الإنجيل لضرورة أن يكون الكاهن رجلاً، ذلك كرس لاحقاً مع الكنائس التي انتشرت، حتى كلمة قسيس غير مذكورة في الإنجيل، بل تطورت في زمن لاحق. ولا يهم إن كان القسيس رجلاً أو امرأة، كلنا نخدم باسم الله". تضيف: "البعض يعتقد أن الكهنوت حُصِر بالرجال لأن تلاميذ المسيح كانوا كلهم رجالاً، ولكن ذلك غير دقيق، كانت هناك نساء منهنّ مريم المجدلية ومريم العذراء، نعتبرهن أيضاً تلميذات. وبرأيي، فإن كتابة رجال للإنجيل، ساهمت في تصدير مفاهيم بطريركية معينة، هكذا أعتقد". * لماذا تكافح نساء ليصبحن كاهنات كاثوليكيات؟ تتكثف في حالة سالي عازر معضلة تواجهها النساء المتدينات في عصرنا الراهن، وهي محاولة استعادة النصوص الدينية وتفسيراتها، من تقاليد مصبوغة بالذكورية، تجعل النساء في مرتبة أدنى. THOMAS COEX/AFP كنيسة المخلص (الفادي) اللوثرية في القدس تطل على قبة الصخرة. بنيت في أواخر القرن التاسع عشر، وبرجها هو البناء الأعلى في المدينة وتواجه نساء كثيرات تحدياً لتحطيم بنىً إقصائية، منعتهن على مدى قرون من المساهمة في بناء المعرفة الدينية والعادات الموازية لها. لكن عدداً من المدارس النسوية تعتبر أن قدرة النساء على تحقيق العدالة لا بد أن تمرَّ بصدام مع الأديان في جوهرها، لأنها عامل رئيسي في قمع النساء على مرّ التاريخ. تقول سالي: "لا أفضل أن أدّعي أني قادرة على التغيير، ولكني أعمل لكي أغير الواقع، من خلال وجودي هنا، وعملي في المجتمع والكنيسة. لن أكون وحدي قادرة على إحداث فرق. مساعدة الناس حولي، ومبادرة العدالة الجندرية في كنيستنا، كلها جهود مهمة لتجهيز الطريق. ولكن وجودي بحد ذاته، كامرأة، أستطيع أن أقوم بمهام الكاهن كاملة من تعميد وتزويج ومناولة وغيرها، هو بالنسبة لي اعتراف بحد ذاته". هذا الاعتراف لا يعفي سالي من مواجهة أسئلة تطرح على كل امرأة تؤدي دوراً غير تقليدي في مجتمعها. كأي شابة في سنها، تسمع طوال الوقت أسئلة عن الزواج والإنجاب، وتجدها مزعجة بعض الشيء. تقول: "لست ضد الزواج، قد أتزوج وأنجب يوماً ما، كأي قسيس، يحق لي ذلك. لكن يزعجني أننا نربط دوماً مصير المرأة بالزواج في مجتمعنا، ونعتبره أولوية مطلقة، ولكن برأيي ذلك غير صحيح"، وتختتم بلهجتها قائلة: "كل امرأة بتقدر تكون قد حالها، ما ضروري كل الوقت تفكر بالزواج والأولاد".