"للحقيقة والإنصاف، لا بد من الإشارة إلى بعض المواقف الفردية التي كانت تصدر في أواخر السبعينات عن بعض المثقفين، وفي مقدمتهم السيد محمد شفيق، أو بعض الجمعيات الثقافية التي أخذت على عاتقها مهمة الدفاع عن اللغة والثقافة الأمازيغيتين، خاصة أمام ممارسات الدولة القاضية بالتضييق على كل ما هو أمازيغي، ككتابة الإعلانات المهنية بالأمازيغية، أو رفض ضباط الحالة المدنية تقييد الأسماء الشخصية الأمازيغية في كناش الحالة المدنية. ولعل هذا ما يفسر تفاعل إنشاء الجمعيات الثقافية التي شرعت في الإعلان صراحة عن توجهها صوب النضال السياسي لصالح الحقوق الثقافية واللغوية للشعب المغربي كشعب أمازيغي في غالبية سكانه. وهو الأمر الذي دفع الدولة ومؤسساتها الإدارية إلى تلطيف الأجواء والكف عن ممارساتها السابقة تجاه ما هو أمازيغي تمهيدا لما سيعرفه المغرب الجديد بقيادة محمد السادس ابتداء من سنة 1999″… هذا مقتطف من التقديم الذي كتبه الدكتور عبداللطيف أكنوش، أستاذ علم السياسة والتاريخ بالجامعات المغربية، لكتاب "المسألة الأمازيغية بالمغرب: من المأسسة إلى الدسترة" للدكتور مصطفى عنترة الأستاذ الزائر بمؤسسات التعليم العالي، والصادر نهاية يناير الماضي. الكتاب يعد الأول من نوعه لمصطفى عنترة الذي قضى سنوات طويلة وهو يجمع مادته العلمية متتبعا مختلف المسارات التي قطعتها المسألة الأمازيغية بالمغرب، حاول من خلاله أيضا إبراز المواقف المختلفة من مختلف الأطياف السياسية والثقافية من هذه القضية. من الإنكار إلى الاعتراف قال الدكتور أكنوش في تقديمه للكتاب إن الاعتراف بالمسألة الأمازيغية تعرض للإنكار طويلا من طرف حراس المنظومة الفكرية التقليدية التي حاولت تهميشها، ومن أجل إبراز هذا الأمر، قام باستحضار نسق المغاربة في التربية والتعليم حيث يقول في هذا السياق: «لاستيعاب إنكار اللغة الأمازيغية والثقافة الأمازيغية داخل المنظومة الفكرية المغربية، يجب استحضار نسق التعليم والتربية وتحصيل المعرفة من قبل المغاربة، على الأقل منذ عهد بني مرين الذين كانوا بحق أصحاب خلق وإنشاء المدارس، ووضع نسق تعليمي داخل هذه المدارس أو داخل الزوايا نفسها التي كانت ولازالت منتشرة في جميع ربوع المغرب. حيث أرسى المرينيون هذا النسق التعليمي والتحصيلي على عنصرين أساسين: اللغة العربية والفقه الإسلامي أو ما يصطلح عليه بالشريعة الإسلامية. هذا بالطبع، إلى جانب علوم مصاحبة أخرى كالأدب والشعر والنثر والفلسفة والحساب وفنون أخرى مما يحتاجه المجتمع المغربي والدولة المغربية المؤسسة على المخزن بجيشه وإدارته وماليته ومرافقه التي تحتاجها الرعية. هذا النسق التعليمي الخالي تماما من كل ما يحيل على اللغة والثقافة الأمازيغيتين كان يرمي في الحقيقة إلى تكوين نوعين من «العارفين»: الفقيه والأديب»، وهو ما بقي مستمرا لقرون حتى مع الاستعمار وتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال التي تم فيها إنكار الأمازيغية، بسبب قوة حزب الاستقلال وعلاقاته مع المشرق العربي. مضيفا أن هذا استمر «رغم إنشاء حزب الحركة الشعبية، في سنة 1956 من قبل المحجوبي أحرضان والدكتور عبدالكريم الخطيب، والذي اعتبر آنذاك حزبا «بربريا» يمثل العالم القروي الأمازيغي في سياق النشاط السياسي الذي لعبه عدي وبيهي في الأطلس، ولعبه الحسن اليوسي كوزير للداخلية كذلك خلال السنوات الأولى للاستقلال، مع أن دفاع حزب الحركة الشعبية عن الأمازيغية لغة وثقافة كان محتشما جدا مقارنة مع دفاع أحزاب الحركة الوطنية عن العروبة والثقافة العربية في جو سادت فيه القومية العروبية في مصر وفي سوريا والعراق. ولعل هذا الوضع هو الذي يفسر أن الراحل الملك الحسن الثاني الذي اعتلى العرش سنة 1961 لم يتأخر في وضع القانون الأسمى للمملكة، وإصداره في يونيو 1961 والذي كان بمثابة دستور كامل الأوصاف، حيث أن هذا النص صرح رسميا بعروبة المغرب رغم أمازيغيته التي لا يمكن لعاقل أن يشك فيها، محدثا بذلك ضجة كبيرة في الوسط السياسي المغربي خاصة لدى زعماء الحركة الشعبية، الذين امتعضوا من النص الجديد، وعبروا عن استيائهم لدى الراحل الحسن الثاني. ولعل هذا الاستياء هو ما يفسر المنعرج الذي سلكه الحسن الثاني سنة بعد القانون الأساسي للمملكة، حيث قام بوضع الدستور محتفظا باللغة العربية كلغة رسمية للبلاد، دون الإشارة إلى الطابع العربي للمغرب مجتمعا وثقافة، ولعل هذا الجديد الدستوري المتجسد في عدم التنصيص على عروبة المغرب، إضافة إلى الأحداث التي عرفتها سنوات الستينات والسبعينات من الحرب العربية/ الإسرائيلية، وصراع السلطة مع الحركات اليسارية، وكذا قضية استرجاع الصحراء المغربية من الاستعمار الإسباني جعلت من النضال من أجل اللغة والثقافة الأمازيغيتين أمرا شبه غائب عن الساحة السياسية، واكتفت الدولة بتقديم التراث الأمازيغي كمجرد فلكلور تزين به السهرات التلفزية يوم السبت من كل أسبوع». نقطة التحول لقد جاءت نقطة التحول الكبرى في مسار المسألة الأمازيغية عام 1999، حيث يعتبر الكتاب أن هذا التاريخ يعد مفصليا في علاقة الدولة بالحريات والحقوق الثقافية واللغوية والاجتماعية والسياسية، فهي السنة التي انتقل خلالها العرش من المرحوم الحسن الثاني إلى محمد السادس. «فإذا كان الأول يجسد بناء الدولة بأساليبه الخاصة نظرا لخصوصية المرحلة التي امتازت بالخروج من الاستعمار والحرب على السلطة بين المؤسسة الملكية وأحزاب الحركة الوطنية، خاصة تلك المنضوية تحت يافطة اليسار والقومية والفخر العروبي، فإن المرحلة التي افتتحها محمد السادس يمكن نعتها بلحظة ترسيخ المؤسسات وترسيخ دعامات الدولة والديمقراطية. فقد حافظ محمد السادس على حكومة الراحل عبد الرحمن اليوسفي الاتحادي إلى متم مهامها الدستورية ومدة عهدتها السياسية التي أعطاها الناخبون إياها. ومن جهة أخرى عمد الملك الجديد وقتها إلى التذكير الدائم في خطبه الرسمية بأن النهج الديمقراطي في انتهاج السياسة وتسيير الشأن العام اختيار لا رجعة فيه، مما يعني أن المغرب لن يحيد عن الديمقراطية في المجال السياسي والثقافي والاجتماعي واللغوي. بل وقرن القول بالفعل وجند بعض رفاقه في الدراسة وأساتذته القدامى في عملية استقطاب الجمعيات والشخصيات والحركات وكل من كان في الماضي والحاضر ينادي بضرورة الديمقراطية الثقافية واللغوية في المغرب، وضرورة احترام الأصول اللغوية والثقافية المغربية والتي تتربع على رأسها الأمازيغية لغة وثقافة»، لتسفر كل هذه الجهود عن إعلان الملك كراع لمشروع إعادة الشرعية المؤسسية للأمازيغية لغة وثقافة وكان «خطاب أجدير» عام 2001 وكان الاتفاق حول حرف تيفيناغ كحرف رسمي لكتابة الأمازيغية، وكان إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الذي كلف بتهييء الأجواء والظروف المادية والمؤسسية للعودة إلى الثقافة واللغة الأمازيغيتين عبر مأسستها، ومن خلال تدريسها للنشء في المدارس وتنشئة الأطفال المغاربة في إطار ثقافات المغرب التي نسيها أو تناساها البعض لعقود من الزمن، وصولا إلى لحظة الدسترة التي تم التنصيص عليها في دستور 2011 الذي «شكل فرصة من أجل التذكير الدستوري بالأصول الثقافية للمغرب والمغاربة والمتجسدة في الأمازيغية والعربية والحسانية والعبرانية للتعبير عن التنوع الثقافي للمغرب كما كان منذ 740 ميلادية بل وحتى قبل هذا التاريخ بكثير»، يقول أكنوش في ختام تقديمه للكتاب. خطاب أجدير وبداية الترسيم مصطفى عنترة، المؤلف، ينطلق في كتابه من خطاب أجدير عام 2001 الذي اعتبر أنه فتح أفقا جديدا أمام الأمازيغية كلغة عريقة وعمق ثقافي، ومكون هوياتي أساسي وحضارة ممتدة في التاريخ. ابتدأ بالاعتراف الرسمي بالأمازيغية وبمأسستها عبر إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية واختيار أبجدية تيفيناغ العريقة لكتابتها، ووصل في مراحله إلى إدماجها في المنظومة التربوية والإعلام والفضاء العام، في دستور المملكة، حيث تم التنصيص عليها كلغة رسمية ضمن إطار يقر بشرعية التعدد اللغوي والتنوع الثقافي والهوية المتعددة، وكذلك التنصيص على قانونين تنظيميين يحدد أحدهما مراحل تفعيل طابعها الرسمي، وينظم الآخر المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية كإطار دستوري مرجعي يضطلع بمهمة اقتراح التوجهات الاستراتيجية للدولة في مجال السياسة اللغوية والثقافية، متطرقا لمراحل الشروع في تفعيلها على أرض الواقع عبر تدابير وإجراءات حكومية، ومعتبرا أنها «ثورة ثقافية هادئة بامتياز، عرفتها المسألة الأمازيغية في ظل عقدين من الزمن مكنت بلادنا من وضع الأسس الدستورية والقانونية والمؤسساتية لمعالجة الإشكالية الثقافية، وبناء نموذج متفرد بها في تدبير التعدد اللغوي والتنوع الثقافي بمنطقة شمال إفريقيا». مسار الأمازيغية قسم عنترة كتابه إلى فصلين أساسيين، تناول من خلالهما مختلف المراحل التي قطعتها المسألة الأمازيغية، حيث خصص الفصل الأول للحديث حول الملكية وواقع التعدد اللغوي ومشروع الدولة الوطنية، مستحضرا في هذا الفصل مجموعة من العناصر التي نذكر منها: الارتباط التاريخي بين الملكية وسؤال الأمازيغية، المقاربة الملكية للمسألة الأمازيغية، الحركة الوطنية وسؤال الأمازيغية، إحداث المجلس الوطني للثقافة الشعبية، المسألة الثقافية في مشروع الدولة الوطنية، مسار تطور العمل الأمازيغي، مكانة التعدد اللغوي لدى المؤسسة الملكية، مسار تطور السياسة اللغوية، سؤال الوظيفة اللغوية حدود السياسة اللغوية، الأمازيغية وإكراهات العهد الجديد. أما الفصل الثاني الذي حمل عنوان «الملك محمد السادس وملف الأمازيغية»، فخصصه المؤلف لقضايا الاعتراف الملكي بالأمازيغية المرجعية، المقاربة وآليات التدبير، وذلك من خلال التوقف عند سياق خطاب أجدير لعام 2001، والدلالات السياسية والرمزية لخطاب أجدير، والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية كقناة لتدبير التعدد وسياق تكوينه، تشكيل المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ودلالات اختيار الأبجدية الرسمية لكتابة اللغة الأمازيغية تيفيناغ، والإطار الدستوري والآليات المؤسساتية لتدبير التعدد اللغوي والتنوع الثقافي، وتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في مجالات الحياة العامة، ودور المؤسسة التشريعية في إدماج اللغة الأمازيغية في العمل البرلماني، وغيرها من المواضيع على مدار 225 صفحة. ومما نقرأه في الكتاب وتحديدا بالصفحة 87: «تعتبر الأمازيغية من الملفات الموروثة عن مرحلة الاستخلاف التي تطلبت حلولا لا تقبل الانتظار أو التأجيل للتوتر القائم بين الدولة والحركة الأمازيغية. خصوصا وأن دروس وعبر التجربة الجزائرية حاضرة بقوة لدى صناع القرار ببلادنا، فضلا عن كون الأمازيغية تحولت بعد الربيع الأمازيغي، إلى ورقة سياسية للمزايدة بين نظامي الحكم بالمغرب والجزائر. لعب أبناء العالم القروي ذوي الأصول الأمازيغية بُعيد الاستقلال، دورا مهما في إثارة المسألة الأمازيغية في بعدها الثقافي واللغوي والهوياتي، حيث شهدت الساحة الوطنية صراعا حول السلطة بين نخبة حضرية وأخرى تنتمي إلى العالم القروي طامحة لاقتسام السلطة، وحاملة لهم الثقافة الأمازيغية، ورافعة لشعار الدفاع عن العالم القروي، توج هذا الصراع بتشجيع المؤسسة الملكية هذه النخبة على تأسيس حزب الحركة الشعبية بقيادة محجوبي أحرضان، ثم ستشهد سنوات الستينات من القرن الماضي ولادة الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي كأول إطار مدني يؤشر على بداية الوعي بالذات الأمازيغية، ويتبنى الدفاع عن الموروث الثقافي الأمازيغي. فولوج نخبة حاملة لهم الدفاع عن الثقافة الأمازيغية مجال التعليم وخصوصا الجامعي، والاستفادة من مختلف حقول العلوم الإنسانية، ساعداها على نشر الوعي الأمازيغي من خلال بعض الطروحات التي كانت تقصي المكون الثقافي الهوياتي الأمازيغي والتأسيس الأطروحة ثقافية تنتصر لقيم التنوع والتعدد والاختلاف في إطار الوحدة الوطنية».