محمد كريم بوخصاص أسدل الستار عن القمة العربية ال31 التي احتضنتها الجزائر، دون تحقيق أي جديد يذكر، ليستمر مسلسل القمم الإنشائية غير ذات الجدوى، التي لم يحضر الملك محمد السادس سوى قمتين منها منذ توليه حكم المملكة الشريفة سنة 1999. في هذه النافذة إطلالة على تفاصيل هذه القمة التي كان الملك قريبا من المشاركة فيها لاعتبارات مرتبطة بالبلد المنظم أكثر من أي شيء آخر، قبل أن يتغير موقف المملكة في آخر لحظة.
الأحد 30 أكتوبر، وبينما كانت الأنظار شاخصة لمعرفة حيثيات اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي يمهد للقمة العربية ال31 بالجزائر، والتي تعود بعد انقطاع دام ثلاث سنوات، تَسَرَّبَ خبر كالنار في الهشيم في وسائل الإعلام الجزائرية، عن مغادرة وزير الشؤون الخارجية ناصر بوريطة مكان الاجتماع التحضيري إثر خلاف مع نظيره الجزائري، لكن سرعان ما تبين زيف هذا الخبر غداة مسارعة وكالة الأنباء المغربية الرسمية لنشر نفي له استنادا إلى «مصدر دبلوماسي رفيع»، وحِرص فريق بوريطة الإعلامي على تعميمه على الصحافيين.
تبين من خلال تتبع فصول ما جرى أن النفي المغربي يهم خبر «المغادرة» التي ربما تمنتها الجزائر التي ترفع شعار «قمة لَمِّ الشمل!!»، وليس الأجواء غير الإيجابية التي خيمت على الاجتماع، خاصة ما جرى تداوله من احتجاج بوريطة على عدم احترام خريطة المملكة الشريفة، كما هو متعارف عليها من طنجة إلى الكويرة، من قبل قناة جزائرية ادعت شراكتها الإعلامية مع القمة، ما اضطر الجامعة العربية إلى إصدار بيان توضيحي ورئاسة الجلسة إلى تقديم اعتذار، وَهو ما حَرِصَ الوفد المغربي على توثيقه بالصوت والصورة رغم أن الاجتماع مغلق.
ورغم أن المملكة في عهد محمد السادس لم تعطِ أهمية قصوى للقمم العربية، لكن التاريخ لم يسجل انسحابها من أي اجتماع عربي، فضلا عن أنها قطعت نهائيا مع سياسة «الكرسي الفارغ» في المنظمات الدولية والإقليمية التي تمتلك عضوية فيها كما أكدت ذلك عودة المغرب للاتحاد الإفريقي في 2017 والذي يضم ما يسمى بالجمهورية الصحراوية – لذلك وجد الوفد المغربي برئاسة بوريطة نفسه مضطرا لأن يناضل من أجل حماية مصالح المملكة الحيوية وحقوقها داخل الاجتماعات المنعقدة في الجارة الشرقية التي لم تجد حرجا في أن تعلن قطع علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب في غشت 2021.
وسريعا، فُتِحَ خط هاتفي ساخن ربط بين الوفد المغربي داخل قاعة الاجتماعات في العاصمة الجزائر والقصر الملكي بالرباط، حيث كان الملك يَتَتَبَّعُ أولا بأول كواليس الاجتماع، في وقت كان وفد مغربي آخر يتباحث الترتيبات اللازمة والبروتوكولية التي تسبق حلول طائرة الملك ببلد آخر.
وكان من نتائج التوجيهات الملكية الصارمة والدقيقة لبوريطة ومن معه، صدور «نفي» ثمين للجامعة العربية بشأن عدم وجود شركاء إعلاميين لها في تغطية أعمال القمة، وعدم وجود أي صلة لها بأية مؤسسة إعلامية تدعي هذه الصفة، والتي كان المقصود منها قناة «الجزائر» الدولية AL24 News)) التي نشرت خريطة المغرب مبتورة، قبل أن تتراجع عن ذلك مضطرة بدعوى وجود خطأ في «الجرافيك»!
إضافة إلى ذلك، تم الاتفاق على تضمين إدانة إيران في البيان الختامي الذي سيتلى في نهاية القمة لتدخلها في الشؤون العربية، وذلك رغم الرفض الذي عبرت عنه الجزائر التي ترتبط بعلاقات قوية مع طهران، كان من نتائجها تورط هذه الأخيرة في تدريب عناصر من البوليساريو في 2018 وتسليح الجبهة بأسلحة متطورة بما في ذلك طائرات بدون طيار.
ليست هاتان النقطتان الوحيدتان اللتان كسبهما المغرب في اجتماع وزراء الخارجية الذي سبق القمة، بل الحضور القوي لبوريطة ومرافقيه، والذي استحوذ على عدسات المصورين، من خلال لغة الجسد التي يكون لها وقعها في العمل الدبلوماسي، خاصة بعدما ظهر هادئا حريصا على أن ترتسم الابتسامة على محياه، كما لو أنه كان يقول لقصر المرادية «رغم الاستفزازات والخروقات البروتوكولية المقصودة، إنا ها هنا لقاعدون!».
الخط الساخن !
في خضم ابتسامة المنتصِر التي لم تفارق بوريطة، كان الوفد المغربي يمتص وَقعَ «الخروقات البروتوكولية والتنظيمية المنافية للممارسات المعمول بها» التي تعرض لها، بحسب مصدر بالخارجية المغربية تحدث ل»الأيام»، مستنيرا بالتعليمات التي تلقاها من الملك والتي تهم الحرص على «المشاركة البناءة».
في ذلك الوقت، لم يكن الحديث الذي يدور في كواليس القمة سوى عن المشاركة الشخصية للعاهل المغربي، فرغم أن آخر قمة عربية شارك فيها الملك تعود إلى 2005 والتي احتضنتها الجزائر أيضا، والتي كانت الثانية في عهده، فإن القصر باشر الترتيبات مبكرا لتأمين مشاركة جلالته الشخصية، حتى قبل حلول مبعوث الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بالرباط حاملا الدعوة الرسمية للملك في 27 شتنبر الماضي لحضور القمة العربية.
وتمثلت التحضيرات المبكرة لضمان الحضور الشخصي للملك في المشاركة الفاعلة للمملكة في الاجتماع التحضيري للقمة على مستوى السفراء ووزراء الخارجية، وإشعار الدبلوماسية المغربية عددا من العواصم العربية بالمشاركة الملكية الشخصية، لدرجة أن وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة قال بعظمة لسانه في حديث صحافي الاثنين إنه «بناء على ما أعلن من رسائل ومذكرات كنا نعتقد أن جلالة الملك محمد السادس سيشارك شخصيا في القمة، وأحطنا علما صباح اليوم أن الأمر ليس كذلك».
قبل تصريح رئيس الدبلوماسية الجزائرية، كان بوريطة قد أعلن للصحافة في ذات اليوم أنه يتعذر على العاهل المغربي حضور القمة التي تحتضنها الجزائر «لاعتبارات إقليمية»، فيما أعطى تعليماته للوفد الذي يمثله بالعمل البناء رغم عدم حضوره، وهو ما أكد أن غياب الملك لم يتقرر إلا في الساعات الأخيرة من يوم الأحد، وربما ساهمت المتاعب التي تلقاها الوفد المغربي في ذلك، خاصة الوفد الذي كان مكلفا بترتيب الزيارة الملكية والذي عاد صباح الاثنين إلى الرباط، طبقا لمصدر تحدث ل»الأيام».
شخص واحد وحفاوة مختلفة
العارفون بطريقة حكم الملك محمد السادس لم يفاجئهم قرار تراجعه عن المشاركة في أعمال القمة في آخر لحظة، فالملك حريص على مدّ اليد إلى الجزائر رغم أنها تصر على «العداوة»، لكنه لا يقبل تقليل الاهتمام بممثليه ومبعوثيه، لدرجة أنه احتج يوما على زعيم خليجي بعدما عَلِمَ بعدم استقبال مبعوثه رئيس الحكومة عبد الإله ابن كيران بالحفاوة اللازمة، كما سبق أن قال يوما ابن كيران.
لذلك فإن المعلومات التي كانت تتواتر على القصر من الجزائر كانت كلها تُظهر أن الجزائر التي تحتضن القمة لا تتعامل مع المغرب على قدم المساواة مع بقية أعضاء الجامعة، فوزير الخارجية لم يحظ بنفس الاستقبال في مطار هواري بومدين، فضلا عن الفظاظة التي ووجه بها في قاعة الاجتماعات، والتهميش الذي حظي به في حفل العشاء الذي نظمه وزير الخارجية الجزائري على شرف ضيوفه. ولم يُقَلل من وطأة هذا التعامل الذي يفتقد للباقة الدبلوماسية، حرص لعمامرة على التصريح في قناة عربية على أن بلده تتعامل مع الجميع على قدم المساواة، وإشارته إلى أن الشخص الذي تكلف باستقبال بوريطة في المطار هو نفسه الذي استقبل كافة وزراء خارجية الدول العربية لدى وصولهم، وذلك لكون لعمامرة نفسه يعلم أن الاستقبال قد يكون من نفس الشخص لكن ليس بنفس الحفاوة والترحاب اللازمين للضيوف الكبار.
الإصرار على عدم التعامل مع الوفود على قدم المساواة ظهر أكثر وضوحا ب»الطريقة المهينة» التي جرى بها التعامل مع الوفد الإعلامي المغربي الذي صُودِرَت معداته وسُمِح لثلث أعضائه فقط بدخول التراب الجزائري، علما أن الوفد الإعلامي عندما غادر الرباط كان يضع احتمال مشاركة العاهل المغربي في الحسبان، وكان عمله يندرج في إطار التغطية اللازمة للنشاط الملكي المتوقع، طبقا لما أورده مصدر مسؤول بالشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة.
ضياع فرصة !
يوم الخميس طوت القمة العربية بالجزائر صفحتها ودخلت إلى أرشيف القمم ال31 التي انطلقت منذ 1946، عاما واحدا بعد تأسيس جامعة الدول العربية في 1945، والتي لم تحقق أي نهضة عربية مرجوة ولم تساهم سوى في مزيد من التباعد بين الدول العربية ال22، علما أن ما كان يميز كل قمة هو الرسائل التي تلتقط على هاشمها أو في أثنائها.
في هذه القمة التي اختار قصر المرادية أن يُعنونها ب»لم الشمل العربي»، لم تنجح في أن تجمع شمل القادة العرب على مستوى حضورهم الشخصي، بعدما غاب عنها ملوك ورؤساء الدول المؤثرة، فإضافة إلى الملك محمد السادس لم يحضرها ملك الأردن وولي عهد السعودية وأمير الكويت وسلطان عمان وآخرون، ولم يحضرها من الزعماء البارزين سوى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لمنع أي محاولة جزائرية لتغيير بنية الجامعة أو مقرها وأمير قطر الذي لم يغب يوما عن أي قمة.
بالنسبة إلى الملك محمد السادس، فإن القمة العربية وإن كانت حدثا رئيسيا فإنها لا تختزل العمل العربي المشترك، لذلك فإن حرصه على المشاركة في هذه القمة لم يكن مرتبطا بما يمكن أن يتمخض عنها من قرارات عربية، بل فقط لأن الجزائر تحتضنها، فالتاريخ يشهد أنه لم يشارك شخصيا سوى في قمتين عربيتين منذ جلوسه على العرش سنة 1999، حصل ذلك في قمة بيروت في 2002 وقمة الجزائر في 2005، فضلا عن أن موقفه من القمم عبر عنه أكثر من مرة، خاصة في بلاغ الديوان الملكي عام 2009 بشأن عدم حضوره شخصيا في القمة الاستثنائية بالدوحة، والقمة العربية الاقتصادية بالكويت، حين عدَّدَ الاختلالات التي تطبع العمل العربي المشترك في إطار الجامعة العربية، والتي تجعل من عقد القمم العربية أمرا غير مجدٍ.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تجاوزه إلى اعتذار المملكة رسميا عن تنظيم القمة العربية ال27 التي كان يفترض بحسب الترتيب الأبجدي أن ينظمها المغرب سنة 2016 لتؤول إلى الجارة الجنوبية موريتانيا، وحينها بَرَّرَ المغرب قراره في بلاغ لوزارة الشؤون الخارجية والتعاون بأن «القمة لن تُعرض فيها أية مبادرات مهمة أو تُتخذ فيها قرارات مهمة يمكن عرضها على قمة القادة العرب»، وأن «الاجتماع سيكون مجرد مناسبة للمصادقة على توصيات عادية وإلقاء الخطب التي تعطي الانطباع الخاطئ بالوحدة والتضامن بين دول العالم العربي».
في هذه القمة التي أسدل الستار عنها أمس الأربعاء لم تحصل «الصّحوة العربية» التي لطالما دعا إليها الملك، وأضاعت الجزائر فرصة أخرى للم شملها مع المغرب، وستبقى هذه القمة موسومة بالقمة التي «غاب عنها الملك».
محمد السادس حضر قمتين فقط ولم ينظم أي قمة طيلة فترة حكمه
شكل غياب الملك محمد السادس عن القمة العربية ال31 المنعقدة بالجزائر الحدث الأبرز لاعتبارات مرتبطة بسياق العلاقات المغربية الجزائرية المنقطعة من طرف قصر المرادية منذ أزيد من عام، لكن بعيدا عن الرهانات الثنائية التي حملتها هذه القمة والتي قربت الملك من الحضور الشخصي فيها، فإن العنوان الأبرز لكل القمم العربية هو استمرار غياب الملك عنها منذ وصوله إلى حكم المملكة الشريفة سنة 1999.
وبالرجوع إلى القمم المنعقدة خلال ال23 عاما من حكم محمد السادس المملكة الشريفة، يظهر أن الملك لم يحضر شخصيا سوى في قمتين اثنتين؛ الأولى في بيروت عام 2002، والثانية في الجارة الشرقية الجزائر عام 2005، فيما لم يحتضن المغرب أية قمة عربية في عهده، واعتذر عن احتضان القمة ال27 التي كان مزمعا تنظيمها في مراكش سنة 2016، والتي جرى نقلها إلى موريتانيا، وجاء في معرض تبرير الرباط لموقفها من القمة، «تردي الوضع العربي، واكتفاء القمم بالبلاغات الإنشائية المفتقدة للواقعية والنجاعة».
وعكس أبيه الراحل الحسن الثاني، فإن محمد السادس يعتبر القمم العربية غير ذات جدوى، فيما كان الملك الحسن الثاني حريصا على احتضانها والمشاركة الشخصية فيها، ففي عهده استضاف المغرب سبع قممٍ عربية، ثلاثا في الدارالبيضاء (1965، و1985 و1989)، واثنتين في العاصمة الرباط (1969 و1974)، واثنتين في فاس (1981 و1982).
ورغم اقتناع الملك محمد السادس بعدم جدوائية القمم العربية فإنه يحرص على إيفاد ممثلين إليها، فقد بعث أخاه الأمير مولاي رشيد لتمثيله في عدد من القمم، خاصة قمة الرياض سنة 2012 وقمة دمشق سنة 2008، بينما أوفد وزير الخارجية في مرات أخرى كما حصل في قمة الدوحة سنة 2013 وقمة عمان سنة 2017 والتي تميزت بعدم توجيه أي كلمة ملكية فيها، فيما يبقى أدنى تمثيل رسمي للمغرب في القمة العربية هي تلك التي احتضنتها تونس سنة 2019 والتي تعتبر الأخيرة قبل قمة الجزائر، حيث اقتصر الحضور على وزير العدل محمد أوجار.