من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب، قضايا الإسلام المعاصر. اهتمام الفقيد بهذا الموضوع، يعود من جهة إلى كونه من خريجي جامعة القرويين ، عالما علامة، ومن جهة أخرى إلى كونه تحمل مسؤولية مدير عام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في مرحلة احتل فيها النقاش حول ما سمي بالصحوة الإسلامية، بعد الثورة الإيرانية، صدارة الأحداث والاهتمامات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، حيث يجدر القول، بأن نفس القضايا مازالت مطروحة إلى اليوم، والتي خاض فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالدراسة والتحليل عبر العديد من المقالات والمحاضرات التي نشر البعض منها في كتاب من جزأين، تحت عنوان، "قضايا الإسلام المعاصر". وهي كتابات مازالت لها راهنيتها. وقد ارتأينا بمناسبة شهر رمضان المبارك، أن ننشر على حلقات بعضا من هذه المقالات المنشورة في الكتاب المذكور أو غيره، تعميما للفائدة ومساهمة منا في نشر فكر عبد الهادي بوطالب الذي يعد من رواد الفكر الإسلامي التنويري.
الإسلام وثقافة حقوق الإنسان وإسهام الديانات والمعقتدات في ترسيخ قيم حقوق الإنسان الحلقة (19)
-تميهد : إسهامات الأفكار المثالية، والنظريات الخلقية، والمعتقدات البشرية، والأديان السماوية في ترسيخ قيم حقوق الإنسان قديمة قدم حركة الفكر الإنساني لإصلاح أوضاع الإنسان وتقويمها، وقدم المعتقدات البشرية الضاربة في عمق التاريخ، وقدم الديانات الموحدة التي نزل بها الوحي لتخليق الإنسان قصد تأهيله لممارسة خلافة الله في الأرض.
وقد جعلت مجموعة من هذه النظريات والمعتقدات من تخليق الإنسان محور أفكارها وتوجهاتها، كما جعلت منه الديانات الإبراهيمية الثلاث محور رسالتها التي جاء بها الرسل فيما أُنزل إليهم من الكتب. وتميزت الرسالات السماوية بالاضطلاع بتأهيل الإنسان ليحيا حياتين طيبتين في عالمي الشهادة والغيب، في دار الدنيا الفانية، ودار الخلد الباقية. وحددت حقوقه في الدنيا بجانب ما منحه الله له من حقوق في الآخرة.
ولا تستقيم الحياة في رحلة عمر الإنسان فوق الأرض إلا إذا كانت له حقوق تصون كرامته وتوفر له الشروط الموضوعية لإدارة الأرض التي استخلفه الله عليها، بما يضمن حسن إعمارها وتدبير شؤونها، إذ بتمتعه وممارسته لحقوقه يصبح صالحا مؤهلا للقيام بالأمانة التي عهد الله بها إليه. وقد جاء في القرآن : "أن الأرض يرثها عبادي الصالحونَ" (سورة الأنبياء، الآية 105) أي المؤهلون لعمارتها ورعايتها.
لكن ما ورد عن حقوق الإنسان في هذه المؤسسات سواء منها البشرية أو الإلهية، اختلف مستوى الاهتمام به فيها بين نظرية وأخرى، وبين معتقد ومعتقد، وبين دين ودين. فمن بينها ما اكتفى بمقاربة هذه الحقوق عن بُعد في ومضة خاطفة. ومن بينها ما اكتفى بتمجيد أسسها الخيرة كالإشادة بالعدل والمساواة والتراحم بين البشر. وكان من بينها أخرى فصلتها تفصيلا دقيقا، وطبقتها في المجتمعات التي أقامتها. وبعض الديانات أسست هذه الحقوق في نصوصها التأسيسية التي جاءت بها رسلها في كتبها المُنزلة، لكن فقه الفكر البشري، واجتهادات علماء الدين في فهم النصوص، أفرغت أحيانا هذه النصوص من محتواها عندما جردتها من صفة التعميم والمساواة، وقصرتها إما على من ينتمون إلى عرق دون آخر، أو دين دون غيره، أو على نوع واحد من الجنس البشري : نوع الرجل على حساب نوع المرأة.
وفي أغلبية المؤسسات المشار إليها لم تُحصَر حقوق الإنسان في جرد جامع، وعُني بعضها بنوع من الحقوق دون أخرى. كما لم تُرتب هذه الحقوق في أولويات، أو تُصنف بين حقوق أساسية وأخرى فرعية، ولم يُشَر ِّع لها في بعض المؤسسات ضمانات كفيلة بصيانتها وعدم المس بها. لكن بعض الديانات كالإسلام حددت لهذه الحقوق ضماناتها، عندما جعلت من هذه الحقوق حقوق البشر، وفي الوقت نفسه حقوق الله على عباده –فالمس بها مس ّٰ بالله وتمرد على طاعته، -وعندما رتبت على الإخلال بها عقوبات جزائية في الدنيا بجانب عقاب الآخرة. وسنرى كل ذلك عندما نعرض لحقوق الإنسان في الديانات الإبراهيمية الثلاث.
1-حقوق الإنسان في النظريات والمعتقدات القديمة :
كانت لعدد من الحضارات الشرقية القديمة توجهات فكرية نحو حقوق الإنسان ممتزجة بتعاليم معتقداتها، مثل الحضارات الصينية (الكونفوسيوشية) والفارسية (الزرادشية) والهندية من هندوسية(ويطلق عليها اسم سانتاندرا أي الديانة القديمة الأزلية) وبوذية. وهذه الأخيرة ظهرت قبيل ألفى سنة قبل الميلاد على الأقل عند أكثرية المؤرخين، وإن كان بعضهم أكد وجودها قبل هذا التاريخ، على حسب الاختلاف في تاريخ ميلاد ووفاة بوذا، والاختلاف حول أول بوذا ظهر في شمال الهند.
في الصين اشتهرت حكمة كونفوشيوس بتمجيد قيم العدل والإخاء والأمن والسلام بين البشر، وعبر المعمور من الأرض. وقد ورد ذلك في مقولته المشهورة : "إذا ساد بين العالم التماثل بدلا من التعالي والتعاظم، أصبح العالم كله ساحة واحدة، يُختار فيها ذوو المواهب والفضل والكفاءة الذين يعملون جيمعا على نشر السلم والوئام بينهم. وحين يرى الناس أن آباءهم ليسوا فقط هم الذين ولدوهم، وأن أولادهم ليسوا فقط هم من وُلدوا لهم، بل يذهبون إلى أكثر من ذلك، فيهيئون سبل العيش للمُسنين إلى أن يُتوفوا، ويوفرون العمل للكهول، ووسائل النماء للصغار، ويكفلون العيش الكريم للأرامل من الرجال والنساء واليتامى والعاقرين الذي لا أولاد لهم، ومن أقعدهم المرض عن العمل، وآنذاك يكون لكل إنسان حقه، وتكون حقوق الإنسان موفورة، وتُحترم شخصية المرأة فلا يعتدي أي ٌّ عليها. وبذلك كله ينتج الناس الثروة".
إنه برنامج حافل عن حقوق الإنسان، يربط لأول مرة بين حقوق الإنسان وبين مقتضيات التنمية والرفاهية والرخاء، بالإضافة إلى الدعوة إلى الوئام العالمي، وإحقاق الحقوق البشرية الاجتماعية، وتحديد اختيار الحاكم بتوفره على شروط الكفاءة والاستقامة والفضيلة.
ومن مرتكزات الحكمة الكونفوسيوشية تنظيرها للإنسان المثالي، الذي سماه كونفوشيوس "السيد المحترم"، وعر َّفه بأنه "ليس هو الشخص الذي يولد نبيلا لانتماء أسرته إلى الأشراف، ولكنه الكريم خلقا، الصادق في عبادته، الذي يحترم نفسه، ويحترم غيره، ويتقيد بقواعد في سلوكه وتعامله".
وقد حفلت حمكته بقواعد سلوكية كان يختصرها في مقولات مقتضبة، وضع على رأسها ما سماه "القاعدة الذهبية" التي أجملها في هذه المقولة : "لا تعامل الآخرين بما لا ترغب في التعامل به مع نفسك". وكان يرى أن جدوى سلوك الحكام الفاضل أقوى من جدوى القوانين والعقوبات. ومعه التقت الحكمة العربية الإسلامية القائلة : "إن الله ليزع بالقرآن ما لا يزع بالسلطان".
وقد أُثريت الحكمة الكونفوشيسية بعد وفاة حكيمها الأكبر بما اقتبسه حكماء صينيون آخرون منها وأضافوا إليها. ومنهم منسيوس، الذي أقر حق الثورة على الحاكم إذا لم يطبق العدل والمساواة، ومنع على الحاكم أن يسخر المحكومين لخدمته، أو يُثقل كاهلهم بالضرائب. وقال إن هذا النوع من الحاكمين تجب مقاومته وخلعه.
أما التعاليم الهندوسية بخصوص الحقوق الإنسانية، فقد استُمِدت من النصوص الدينية المنسوبة إلى أقوال الإله الهندوسي براهمان وتأثرت بمذهبه في التفريق بين الإنسان على حسب خَلْقه ومنشئه، فاصطبغت بالطبقية أو التمييز الطبقي، وجاءت تعطي لكل طبقة حقوقا تنفرد بها. وكأن براهمان يقول إن الطبقات تتفاوت بينها على حساب خلق بعضها من فمه وهي الطبقة الأولى، تليها التي خُلقت من ذراعه، فالتي خُلقت من رجله.
ومن هنا لم تكن حقوق الإنسان فيها متساوية، بل فقط حقوق إنسان كل طبقة هي التي كانت تتسم بالمساواة. ونذكرها لإثارة الانتباه إلى مساهمة الهندوسية في تشريع الحقوق الطبقية وليس الحقوق الإنسانية، علما بأن آخر طبقة في الترتيب المجتمعي الهندوسي، هي طبقة المنبوذين. وهذه بكل بساطة لم يكن لها أي حق في أن تكون لها حقوق، وهي مصنفة خارج طبقات المجتمع.
على العكس من الهندوسية، ظهرت البوذية كحركة إصلاح أو ثورة على نظام الطبقات الذي جاءت به الهندوسية. وقد ركزت تعاليم بوذا على قيم العدل والمساواة. ومما جاء عنها قوله : "لا فرق بين جسم الأمير وجسم المتسول الفقير ولا بين روحَيْهما. فكل منها أهلٌ لإدراك الحقيقة والانتفاع بها في تخليص نفسه، بل يذهب البوذيون في المساواة إلى حد القول إن أحقر الديدان يتساوى مع الآدميين في الاحترام والتعاطف". وجاء في تعاليم بوذا قوله : "إن براهما (إله الهندوسيين) كان يصنف الناس طوائف على حسب منشأ خلقهم، ولكن هذا غير صحيح. فالناس خُلقوا من خلق واحد، وليس بينهم فريق محكوم عليه أن يكون صالحا، وآخر محكوم عليه أن يكون شريرا. فالصالحون صالحون والشريرون شريرون، ولا تأثير عليهم من الأسرة التي يولدون فيها".
وقد أنصفت البوذية المرأة خلافا للهندوسية. فقد جاء في قصة بوذا : أن أمه الملكة باجاباتي سألته قائلة : "إن البراهمية (التي سبقت البوذية) لا تسمح للنساء بممارسة الأعمال الدينية والمشاركة فيها، وأنت تقول إن تعاليمك موجهة إلى جميع الطبقات والطوائف، فهل هي موجهة للنساء كما هي موجهة للرجال ؟ فأجابها : "هي موجهة على السواء للرجال والنساء". فقالت أمه : "يجب إذن أن يكون لنا راهبات أخوات كما لنا رهبان" فقال بوذا : "هو ذلك".
ويذكر أن لبوذا وصايا عشرا وتعاليم خمسة. ومن بينها تحريم القتل، والكف عن إيذاء كل حي، إنسانا، أو حيوانا، أو نباتا، وقول الحقيقة.
وفي منطقة فارس كانت الزرادشتية أبرز المعتقدات والنظريات التي عرفتها منطقة الهند ثم انحصرت في غربه. وهي معتقد جاء به الحكيم الفارسي : "زرادشت"، الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، وقام على ثنائية الخير والشر، وصراعهما، وعلى مكافحة الشر، والاعتقاد بأن الخير يتغلب في النهاية على الشر. وكان زرادشت يرى أن الشر متمثل في الجهل والفقر والظلم والبغضاء، كما كان يقول إن التعلم والعلم جزء من الدين، ويرتب المتعلم والعالم في قمة طبقات المجتمع، كما دعا إلى إقامة مجتمع العدل والإنصاف.
وعرفت بابل شموخ مملكتها في عهد الملك حمورابي مؤسس الأمبراطورية البابلية القديمة (الذي توفي سنة 1750 ق.م)، والذي تميز بسن قوانين وتشريعات عُرفت باسم شريعة حمورابي. وتعتبر أول مدونة للقانون الجنائي المناهض لشريعة الغاب. كما جاءت قوانينه بتخليق الحكم وصبغه بالعدل، وإبعاد حكم الاستبداد والطغيان والمزاج منه. وكفلت هذه التشريعات حقوقا للمرأة فخولتها الحق في الطلاق، وكان قبلها مخولا للرجال فقط، وفرضت للمطلقة النفقة. وقيل عن هذا العهد إنه كان عهد إنصاف حقوق المرأة، التي أخذت في المجتمع مكانتها بممارستها حقوقها المدنية، ومنها حق التجارة.
ولنختم الحديث عن إسهام المعتقدات والحضارات القديمة في تأصيل قواعد الإخلاق وقيم الخير، التي هي أسس حقوق الإنسان، بما جاء عن الحضارة الفرعونية المصرية، من أن الإله "راع" إله الشمس حكم أهل مصر بقانون قال إنه جاء به من السماء أطلق عليه اسم "ماعت". وهو يقوم على العدل بين الناس وإحقاق الحقوق. كما أن ثورة أخناتون دعت إلى السلام والتسامح والرحمة. وقد جاء في أحد النقوش الفرعونية قول أخناتون : "إن الإله الواحد لا يتشخص في الحرب وانتصاراتها، ولكن يتمثل في الزهور والأشجار، وإن مساواة الناس في شؤونهم الدنيوية مثل تساويهم أمام خالقهم، والإنسان لا يحيى إلا في رحاب الحق والعدل".