كانت روجينا فتاة أميركية أفريقية تعمل سكرتيرة في كلية طب الأسنان بجامعة الينوي في شيكاغو حيث كنت أدرس في الثمانينيات. نشأت بيننا صداقة وتعودت أن أمر على مكتبها من حين لآخر لنحتسي القهوة ونتحدث. ذات يوم بادرتني قائلة: هل تعرف أنني تحولت من المسيحية الى البوذية؟ ابتسمتُ ولم أعلق فاستطردت قائلة: البوذية ديانة عظيمة يعتنقها أكثر من 500 مليون إنسان في العالم. أنا أجتمع مع زملائي البوذيين كل أسبوع لنتبادل خبراتنا الروحية ونتأمل. هل تحب أن تحضر معنا أحد الاجتماعات؟ استبد بي الفضول فوافقت وشكرتها، وفي نهاية الأسبوع ذهبت مع روجينا الى بيت صغير في حي فقير في جنوب شيكاغو. كان الضوء خافتا والصالة الضيقة مليئة برجال ونساء كلهم من الأميركيين الأفارقة. صافحتهم جميعاً وجلست، وبدا واضحا أن روجينا حدثتهم عني لأنهم رحبوا بي بحرارة. بدأوا يتكلمون وراح كل واحد فيهم يتحدث كيف غير الإيمان ببوذا حياته الى الأفضل: السكير امتنع عن الخمر والعاطل وجد عملا والسيدة التى كانت لا تطيق زوجها صارت راضية بالعيش معه، ثم قامت سيدة خمسينية وقالت: قبل أن أعرف بوذا كنت إنسانة بائسة للغاية. هجرني الرجل الذي أحبه ليعيش مع فتاة شابة ثم فقدت وظيفتي وتراكمت علي الديون حتى أنني فكرت بالانتحار. ذات صباح كان لا بد أن أدفع فواتير الغاز والإيجار والكهرباء ولم أكن أملك دولاراً واحداً .. جلست وصليت بعمق وإخلاص لبوذا العظيم وطلبت منه أن ينقذني بقدرته. هل تعلمون ماذا حدث؟ تطلع اليها الحاضرون فابتسمت وقالت: ما أن انتهيت من الصلاة لبوذا حتى سمعت طرقاً على الباب. فتحت فوجدت البوسطجي يسلمني شيكا بعشرة آلاف دولار، كان نصيبي من إرث لعمتي التي كانت تعيش في بوسطن وماتت.. هلل الحاضرون وكادت السيدة تبكي وهي تقول: هكذا أؤكد لكم يا أصدقائي: أحبوا بوذا من قلوبكم وضعوا ثقتكم فيه وهو لن يخذلكم أبداً. سادت حالة من الخشوع في الصالة، وقبل أن ننصرف قالت روجينا بصوت عال وهي تقف في مدخل البيت: لا تنسوا ان تأخذوا بوذا معكم. عندنا تماثيل لبوذا بأحجام مختلفة، بدءاً من هذا التمثال الصغير مقابل خمسة دولارات فقط، وحتى ذلك التمثال الكبير بثلاثين دولاراً. راح بعض الحاضرين يشترون تماثيل لبوذا. شكرتُ روجينا وصافحتُ الحضور وانصرفت وأنا أفكر. هذه السيدة التي تحدثت عن المعجزة تبدو متعلمة وذكية، كيف لم تنتبه الى أن الشيك الذي وصلها قد تم تحريره قبل أن تصلي لبوذا بأيام، بل لا شك ان إجراءات الميراث قد حدثت قبل صلاتها لبوذا بأسابيع. كيف لم تدرك هذه السيدة أن وصول الشيك في أعقاب الصلاة مصادفة تحدث لملايين الناس فلا يعتبرونها كرامة أو معجزة؟ الإجابة ان السيدة البوذية قد أدركت ما حدث بشعور المؤمن وليس بالعقل المجرد. إنها بوذية مؤمنة بدينها وهي مستعدة تماماً لتصديق كل ما يؤكد هذا الدين، وهي أيضاً على أتم استعداد لإنكار أي شيء قد يشككها في دينها.. إن ما فعلته السيدة البوذية نفعله جميعاً نحن المؤمنين بالأديان المختلفة. قليلون من البشر الذين اختاروا أديانهم بإرادتهم الحرة. إننا غالباً ما نولد على دين آبائنا فنشبّ ونحن مؤمنون أنه الدين الوحيد الصحيح، ونستعمل عقولنا لكي نثبت صحة عقيدتنا، وفي الوقت نفسه نرفض بشدة أن نصدق أي شيء قد يشككنا في ديننا، بل ونهاجم من دون تفكير وبضراوة كل من يتعرض بالنقد لعقيدتنا الدينية. الدين بطبيعته اعتقاد عاطفي مطلق وحصري، أتباع أي دين يعتبرون أنفسهم وحدهم على حق والأديان الأخرى على خطأ. المسلمون مثلا يعتبرون المسيحية واليهودية ديانتين محرفتين، والمسيحيون لا يعترفون بالاسلام واليهود لا يعترفون بالمسيحية ولا بالاسلام. إن الدين بقدر ما يلبي احتياجات الإنسان الروحية قد يتحول أحياناً الى أداة احتقار الآخرين والاعتداء على حقوقهم. نحن نحتاج الى الدين لأنه يجعلنا على صلة بالخالق العظيم ويقدم لنا تفسيراً لنشأة الحياة وتصوراً مريحاً لما بعد الموت، كما أنه يخضعنا لنظام محدد للثواب والعقاب فنحس بأن العدل اذا لم يتحقق في حياتنا سيتحقق حتماً في العالم الآخر. لكن التاريخ يعلمنا ان الدين بقدر ما كان مصدراً عظيماً للقيم الانسانية فإنه كثيراً ما كان سبباً لحروب مهلكة ومذابح بشعة راح ضحيتها ملايين الأبرياء. كيف يتحول الدين من أداة للخير الى أداة للشر والعدوان. هنا يتوقف الأمر على فهمنا للدين. ما دمنا نحترم عقائد الآخرين ونعتبرهم بشراً مثلنا تماماً لهم نفس حقوقنا فنحن نطبق الدين الصحيح. أما اذا اعتبرنا أننا أفضل من المختلفين عنا في الدين فإننا نتحول بالضرورة الى أشخاص متعصبين عدوانيين. إننا نفقد معنى الدين عندما نعطي أنفسنا الحق في التدخل في حياة الآخرين وإلزامهم بما نراه نحن مناسباً لهم. في اللحظة التي نتعامل فيها مع الآخرين باعتبارنا نحمل وحدنا إرادة الله التي كلفنا بتنفيذها نتحول عندئذ الى الشر ونصير عاجزين عن رؤية الواقع، وقد نقترف أبشع الجرائم ونحن نتلو الصلوات والتسابيح تقرباً الى الله. هذه طبيعة الدين التي جعلت من الضروري فصله تماماً عن السياسة ..الدين والسياسة نقيضان. السياسة أفكار وممارسات بشرية تقبل النقد وتعترف بالأخطاء وتقوم بإصلاحها حتى تتغير للأفضل، بينما الدين يعكس حقائق نهائية ثابتة يتوجب الإيمان بها والخضوع لها ولا يجوز مناقشة صحتها. كل من حكموا باسم الدين تحولوا الى طغاة استبدوا بشعوبهم فقمعوهم ونهبوهم. خلال العصور الوسطى حكمت الكنيسة الكاثوليكية في اوروبا فحولت حياة الناس الى جحيم، من فرط الظلم والفساد والقمع. في تاريخنا الإسلامي لم ينعم المسلمون بحكم عادل رشيد إلا لفترة 31 عاماً فقط (29 عاماً فترة حكم الخلفاء الراشدين وعامان في ولاية عمر عبد العزيز) وبخلاف هذه الفترة القصيرة عانى المسلمون خلال قرون طويلة من الطغيان باسم الدين بدءاً من الأمويين الذي ضربوا الكعبة بالمنجنيق مرتين في صراعهم على السلطة مع عبد الله بن الزبير، وحتى ابو العباس السفاح، مؤسس الدولة العباسية، الذي أمر بذبح مجموعة من الأمراء الامويين ثم مد بساطاً على جثثهم ووضع عليه طعاماً أكله ثم قال: «والله ما أكلتُ في حياتي أشهى من هذه الأكلة». وصولا الى العثمانيين الذين احتلوا مصر فقتلوا عشرة آلاف مصري من سكان القاهرة في يوم واحد، بخلاف النساء والأطفال الذين اغتصبوهم. أما الحكم باسم الدين في أفغانستان والسودان والصومال فنحن نرى كل يوم الكوارث التي يسببها. لم يتقدم أي مجتمع في الدنيا إلا بعد ان تم فصل الدين تماماً عن السياسة. في الدولة الديموقراطية من حقك أن تعتنق الدين الذي تشاء وأن تمارس طقوس دينك، ولكن ليس من حقك ان تفرض دينك على الآخرين. في الدولة الديموقراطية أنت مواطن كامل الحقوق بغض النظر عن الدين الذي تعتنقه. لا يمكن تطبيق ديموقراطية حقيقية اذا تكونت أحزاب سياسية على أساس ديني .. الديموقراطية تقوم على التعدد والدين قائم على الحقيقة المطلقة. الديموقراطية تعني المساواة بين المواطنين والدين لا يمكن أن يساوي بين المؤمنين والكافرين. الديموقراطية تطرح أفكاراً للمناقشة قد تحتمل الصواب والخطأ والدين يفرض حقائق إن لم تؤمن بها تكن كافراً. من يمارس السياسة من منطلق ديني، مهما قال كلاماً جميلا، سوف يرى في خصومه السياسيين أعداءً للدين. سيدافع عن تصرفات شيوخه وقياداته بنفس الضراوة التي يدافع بها عن عقيدته. سوف يكون على استعداد لارتكاب الجرائم وتبريرها لأنه يعتبر نفسه في حرب مقدسة من أجل إعلاء الدين. لقد دفعنا، نحن المصريين، ثمناً باهظاً لخلط الدين بالسياسة وآن لنا أن نتعلم من هذه التجربة القاسية. لقد سمح المجلس العسكري السابق بإنشاء الأحزاب السياسية على أساس ديني وكانت النتيجة ظهور مجموعة من المتعصبين دينياً الذين يحتقرون المختلفين معهم سياسياً ويكرهونهم ويكفرونهم ويستحلون دماءهم، وهم بعد كل ذلك عاجزون فعلا عن رؤية الواقع لأنهم يعيشون في عالم افتراضي متخيل يلعبون فيه دور المجاهدين من أجل الاسلام. بعد إحراق عشرات الكنائس والمباني الحكومية وأقسام الشرطة وقتل عشرات الأبرياء وقتل جنودنا في سيناء ومحاولة اغتيال وزير الداخلية، بعد كل هذه الجرائم الإرهابية لا زال «الإخوان» يعتبرون أنفسهم ضحايا وأبطالا لأنهم في خيالهم يجاهدون من أجل نصرة الاسلام ضد العلمانيين الكفار. هذا الانفصال الكامل عن الواقع هو ما يفسر مشهد «الاخوان» وهم يقتلون ويمثلون بجثث ضحاياهم بينما هم يكبّرون ويهتفون للاسلام. شاهدت فيديو لواحدة من «الإخوان» وهي تصيح: «أنا ربّانية انفذ ما أمر به الله وأنتم تعادون الله ورسوله». منذ أيام كتب الاستاذ ثروت الخرباوي (الذي كان من «الإخوان» وتركهم لما اكتشف ضلالهم) مقالاً حكى عن حوار له في التسعينيات مع محمود عزت، القيادي الاخواني، أكد فيه ان اغتيال خصوم «الاخوان» تصرف صحيح شرعياً تماماً لأن المعارضين ل«الاخوان» هم رموز المجتمع الجاهلي الذين يمنعون إقامة دولة الاسلام، وبالتالي فإن قتلهم حلال. ماذا ننتظر أكثر من ذلك لنعتبر «الإخوان» جماعة إرهابية ونمنع إقامة الاحزاب الدينية في الدستور الجديد؟ لقد نزل ملايين المصريين الى الشوارع في «30 يونيو» ليعلنوا رفضهم، ليس فقط للرئيس المعزول ولحكم «الاخوان» وإنما للأحزاب الدينية جميعاً. من العجيب بعد هذه الثورة العظيمة أن نرى الحكومة الانتقالية تخطب ود «حزب النور» السلفي وتطارده وتكاد تتوسل اليه حتى يتكرم عليها ويقبل المشاركة في كتابة الدستور الجديد. لا افهم كيف ننادي بإلغاء الاحزاب الدينية ثم نضم الى لجنة كتابة الدستور واحداً من اكثر الاحزاب الدينية تعصباً. إننا نطالب أعضاء لجنة الدستور، وكلهم شخصيات محترمة وطنية، أن يتعلموا من التجربة القاسية التي عشناها جميعاً تحت حكم «الاخوان» فيكتبوا دستوراً جديداً يكون أساساً لدولة مدنية حديثة ديموقراطية تحترم الحريات وتساوي بين المواطنين في الحقوق، بغض النظر عن أديانهم، وتحترم الدين، لكنها لا تسمح باستعماله في السياسة. عندئذ فقط يبدأ المستقبل في مصر. الديموقراطية هي الحل "السفير"