عزيزى القارئ.. تخيّل لو أن صحيفة مصرية نشرت واقعة موثقة تؤكد أن أحد قيادات الإخوان المسلمين قد تحرش جنسياً بأحد شباب الإخوان.. ماذا سيكون رد فعل الإخوان عندئذ؟!.. هل سيتحمسون للكشف عن هذه الجريمة ويطالبون بمحاسبة مرتكبها أم أنهم سيرون أن الجريمة، حتى لو حدثت، فمن الأفضل التغطية عليها حفاظاً على سمعة جماعة الإخوان؟!.. هل سيشكر الإخوان الصحفى الذى نشر تفاصيل الجريمة أم أنهم سيعتبرونه فاسداً وعميلًا لنظام مبارك والصهيونية العالمية؟!.. كل هذه الأسئلة تبادرت إلى ذهنى وأنا أقرأ ما حدث فى الولاياتالمتحدة هذا الأسبوع. منذ سنوات كشفت الصحافة الأمريكية فضيحة تورط فيها قساوسة كاثوليك قاموا باعتداءات جنسية على أطفال تابعين للكنيسة. ظلت الصحف الأمريكية تقاتل من أجل إثبات جرائم التحرش حتى اعتذرت الكنيسة فى النهاية، وتم تقديم القساوسة المتهمين إلى المحاكمة، ثم وضعت الكنيسة نظاماً يمنع تكرار هذه الجرائم، وعينت مؤخراً محققاً خاصاً هو الأب روبرت أوليفر ليحقق فى أى اعتداءات جنسية داخل الكنيسة.. افتتح الأب أوليفر عمله بمؤتمر صحفى وجه فيه الشكر للصحافة الأمريكية، وقال ما معناه: «إن الصحافة التى أصرت على أننا يجب أن نواجه هذه الفضائح قد أسدت لنا خدمة. لقد ساعدتنا الصحافة على مواجهة الحقيقة بشفافية وأمانة». هذا الكلام يعكس نضجاً نفسياً وعقلياً، وينم أيضاً عن فهم عميق لرسالة الإعلام.. فلنقارن ذلك بتعامل الإخوان مع الإعلام. منذ وصول الإخوان إلى الحكم وهم يشنون حرباً ضروساً على وسائل الإعلام الخارجة عن سيطرتهم. لقد تعرضت حرية التعبير إلى تضييق شديد أيام مبارك، لكن القيود المفروضة على الإعلام فى حكم الإخوان أسوأ من التى فرضها مبارك.. إعلاميون كثيرون أحيلوا إلى المحاكمة بتهمة إهانة الرئيس مرسى، وهى تهمة وهمية غير قانونية ومطاطة من الممكن أن تنطبق على أى شخص ينتقد الرئيس. تم تحويل إعلاميين محترمين، مثل الأستاذة دينا عبدالفتاح والأستاذ وائل الإبراشى للمحاكمة، لأنهم تجرأوا على استضافة أعضاء فى جماعة «بلاك بلوك» التى تعارض حكم الإخوان. مع أن المعروف فى الدنيا كلها أن استضافة أى شخص حتى لو كان خارجاً على القانون لا تترتب عليها أى مسؤولية قانونية على الإعلامى المضيف. على أن حرب الإخوان ضد الإعلام المستقل عنيفة وبلا هوادة. بإيعاز من مرسى، أو بموافقته، ذهب أولاد أبواسماعيل لحصار مدينة الإنتاج الإعلامى واعتدوا على فنانين وإعلاميين، ثم اعتدوا على جريدة الوفد وأحرقوها ولم يحاسبهم أحد. فى الذكرى الثانية للثورة خرج ملايين المصريين فى مظاهرات تندد بحكم الإخوان وتطالب بإسقاط الدستور الباطل وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وقد تصدت لهم الشرطة بقيادة وزير الداخلية الجديد، وأطلقت الرصاص الحى فسقط 53 شهيداً خلال أسبوع واحد، بخلاف مئات المعتقلين الذين تم تعذيبهم بطريقة بشعة رأينا مثالاً حياً عليها فى مأساة المواطن حمادة صابر الذى ظهر على شاشة التليفزيون وهو يسترحم رجال الشرطة، بينما هم يسحلونه عارياً ويهتكون عرضه وآدميته، ثم خرج علينا رئيس الوزراء هشام قنديل وبدلاً من الحديث عن كل هذه الجرائم فوجئنا بالسيد قنديل يؤكد بحماس أهمية الرضاعة الطبيعية للأطفال، ويشدد على ضرورة تنظيف ثدى الأم عند الحلمة قبل بدء الرضاعة حتى لا يصاب الرضيع بنزلة معوية.. هذا الكلام العجيب تسبب فى فضح رئيس الوزراء فى العالم كله، وأكد ضرورة خضوع كبار المسؤولين لاختبارات طبية جادة من أجل قياس قدراتهم النفسية والعقلية قبل توليهم مناصبهم.. الغريب أن وزير الإعلام الإخوانى أمر بإيقاف المخرج، الذى نقل المؤتمر الصحفى لرئيس الوزراء، عن العمل وأحاله للتحقيق.. لماذا؟!.. لأن الوزير يرى أن المخرج كان يتوجب عليه قطع الإرسال عندما بدأ رئيس الوزراء كلامه السخيف. إن واجب الإعلام فى رأى الوزير الإخوانى ليس أن ينقل الحقيقة، وإنما أن يحجب عن الناس كل ما يمكن أن يسىء إلى الإخوان. نفس المنطق تبناه وزير العدل الإخوانى أحمد مكى عندما نشرت جريدة الوطن أن ابنه القاضى تمت إعارته ليعمل فى قطر مقابل مرتب كبير مما يصنع - قطعاً - وضعاً من تطابق المصالح بين الوزير ودولة قطر، الأمر الذى قد يؤدى إلى استغلال النفوذ فى أى لحظة. اعترف الوزير مكى بإعارة ابنه إلى قطر ثم انهال باللعنات على الإعلام الفاسد. كأن الإعلام الصالح، فى رأى مكى، يجب أن يخفى كل ما قد يسىء إليه حتى لو كان حقيقياً.. العجيب أن الإخوان والسلفيين يسيطرون على قنوات دينية عديدة يتم تمويلها من الوهابيين فى الخليج ويظهر عليها مشايخ لا يتحدثون فى الدين أساساً، لكن يسبون معارضى الإخوان سباباً فاحشاً ويحرضون أحياناً على قتلهم.. رغم ذلك فإن الإخوان يعتبرون السباب والتحريض فى قنواتهم الدينية تصرفاً طبيعياً ومقبولاً، لكنهم لا يطيقون أى نقد يوجه إليهم فى وسائل الإعلام الأخرى.. لماذا يضيق الإخوان بالإعلام المستقل إلى هذا الحد؟!.. الإجابة أن الإخوان لا يفهمون الفرق بين الإعلام والدعاية، الإعلام بالنسبة إليهم ليس وسيلة لتحرى الحقيقة وإنما وسيلة للدعاية، إما أن تصب فى صالحهم أو تكون ضدهم. وبالتالى هم يرون فى الإعلام الذى ينتقدهم أداة فى حرب دعائية ضدهم لابد من إسكاتها بأى طريقة. هذا الخلط بين الإعلام والدعاية هل هو ناتج عن جهل الإخوان أو غبائهم..؟ لا أعتقد ذلك لأن كثيرين من الإخوان تلقوا تعليماً جيداً.. لماذا لا يفهمون إذن أن الإعلام لا يصنع الحقيقة وإنما ينقلها، وأن مهمة الإعلام الأساسية أن يكشف للرأى العام كل أنواع المخالفات والجرائم؟! هنا نصل إلى جوهر المشكلة.. يجب أولاً أن نعترف بأنه من النادر أن يختار الإنسان دينه بإرادته الحرة. نحن غالباً ما نولد بدين محدد سلفاً عن طريق الأبوين ثم نتعلم، منذ الطفولة، كيف نؤمن بالدين الذى ولدنا عليه ونمارسه. نحن نحتاج إلى الدين فى حياتنا، ولقد خلقنا الله بعواطف دينية نشعر براحة عميقة عندما نمارسها بغض النظر عن الدين الذى نعتنقه.. نحن نعتنق الدين إذن بقلوبنا أولاً، ثم بعد ذلك نفكر فيه بعقولنا وليس العكس، بمعنى أننا نؤمن أولاً بعواطفنا، ثم نسخّر عقولنا للبحث عن أدلة تثبت الإيمان. الدين إذن اعتقاد وجدانى مطلق وحصرى. إن المؤمنين بأى دين يثقون دائماً فى أن دينهم الوحيد الصحيح وبقية الأديان على خطأ. المسلمون يعتبرون أن المسيحية واليهودية قد تم تحريفهما، وأن معتنقى الديانتين فى ضلال، والمسيحيون يعتبرون أن سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ليس نبياً مرسلاً، أما اليهود فينكرون الإسلام والمسيحية معاً، ويؤمنون بأن المسيح الحقيقى لم يظهر بعد. لا مجال إذن ولا فائدة إطلاقاً من مناقشة أى شخص فى دينه، لأنه سيدافع عن معتقداته بضراوة، مهما أدى به ذلك إلى خداع للنفس ومغالطات وتناقض. هكذا طبيعة الدين، ولا ضرر فى ذلك إذا تعلم المواطنون فى الدولة الديمقراطية كيف يتقبلون الأديان الأخرى حتى لو لم يقتنعوا بصحتها. المشكلة تحدث عندما يمارس الإنسان السياسة بعواطفه الدينية. عندئذ لابد أن يتورط فيما يفعله الإخوان الآن. عضو الإخوان لا يعتقد أنه يحمل وجهة نظر وإنما يؤمن بأنه يحمل الحقيقة الوحيدة الصحيحة وكل ما عداها ضلال. عضو الإخوان لا يفكر لكى يصل إلى رأى، وإنما يتلقى الحقيقة جاهزة من مرشده، فيعتنقها ويدافع عنها. الأخطر أن عضو الإخوان يؤمن بأنه الوحيد الذى يحمل كلمة الله ويمثل الإسلام، وبالتالى فكل من يعارض الإخوان فى رأيه يسىء إلى الإسلام. جرّب أن تكتب أى نقد لمرشد الإخوان على الإنترنت فسوف تتلقى فوراً وابلاً من الشتائم الفاحشة من الغريب أن تصدر عن شخص متدين، لكنك ستتلقى أيضا نصائح بالامتناع عن نقد المرشد والتوبة إلى الله قبل أن يدركك الموت، ويتم إلقاؤك فى جهنم. حالة التوحّد بين الإخوان والإسلام تمنعهم من رؤية أخطائهم وجرائمهم، وتضع كل من يعارضهم فى خانة عدو الدين الذى هو فى عرفهم بلا حقوق على الإطلاق. ولعل اعتداء الإخوان على المعتصمين أمام الاتحادية أقرب دليل على ذلك.. إن الإخوان الذين اعتدوا على البنات بكل خسة ووحشية وقاموا بتعذيب المعتصمين بطريقة بشعة هم فى نفس الوقت مؤمنون ملتزمون يحرصون على أداء العبادات بكل إخلاص. إن ضميرهم سيؤرقهم بشدة إذا فاتتهم صلاة المغرب لكنهم يمارسون تعذيب الآخرين بلا أدنى إحساس بالذنب لأنهم يؤمنون بأنهم يمثلون الإسلام ومن يعارضهم يكره الإسلام، وكارهو الإسلام إما كفار أو فاسقون منحلون إباحيون أو عملاء لأجهزة مخابرات غربية تحارب الإسلام بشراسة. باختصار فإن معارضى الإخوان، فى رأيهم، أعداء للإسلام، فلا مجال للحديث عن حقوقهم ولا بأس من ضربهم وسحلهم أو حتى قتلهم إن لزم الأمر.. كل هذه تعتبر جرائم إذا ارتكبت ضد الإخوان المسلمين، أما إذا ارتكبها الإخوان ضد أعداء الإسلام فتعتبر فى عرفهم نوعاً من الجهاد الذى اضطروا إليه. إن كل الجرائم المسجلة بالصوت والصورة التى ارتكبها الإخوان لن يعترفوا بها أبداً وسوف يستعملون كل طاقتهم من أجل إنكار الحقيقة مهما كانت قاطعة وساطعة. إنك عندما تطلب من إخوانى أن يعترف بجرائم المرشد تماماً كأنك تطلب من رجل متدين الاعتراف بوجود تناقض فى دينه. إن محمد مرسى الذى بدأ رئيساً منتخباً تحول إلى ديكتاتور عطّل القانون ودهسه بقدمه وفرض على مصر دستوراً لا يعبر عن إرادة المصريين، كما أنه مسؤول عن التعذيب وقتل المتظاهرين، كما كان مبارك مسؤولاً عن الجرائم ذاتها فحوكم وتم إلقاؤه فى السجن. كل هذه حقائق واضحة كالشمس يراها الناس جميعاً بوضوح فى الشرق والغرب، لكن لا أمل إطلاقاً فى أن يراها الإخوان أو يعترفوا بها لأن اعترافهم بجرائم مرسى سوف يجرح عقيدتهم الدينية التى بُنيت على أن كل ما يفعله الإخوان هو الإسلام ذاته. المعركة فى مصر الآن ليست بين المعارضة والحكومة، وإنما بين مصر كلها والإخوان. بين الثورة التى لم تحقق أهدافها والإخوان الذين تواطأوا ضد الثورة وخانوها من أجل تحقيق مصالحهم. الثورة تنتمى إلى المستقبل والإخوان ينتمون إلى ماض سحيق. هل يستطيع أحد أن يوقف المستقبل؟.. الثورة مستمرة وستنتصر بإذن الله. الديمقراطية هى الحل.